الأربعاء، 26 فبراير 2020

كتاب (المشوق إلى القراءة وطلب العلم - علي العمران) .. نظرات نقدية

كتاب غزيرُ العلم عظيم النفع والفائدة، حريّ بمن قرأه أن يكون بعده خيرًا مما قبله؛ بأخذ الكتاب بقوة، واستنهاز الدقائق والثواني، والقبض على الفائدة واللفتة وإيداعها الورق وضمّها في الذاكرة، وغير ذلك من المنافع.. جزى الله مؤلفه خير الجزاء على عمله ومجهوده.
لكن لا أدري.. أراني اليوم وفي نفسي حرج من دعوات التشديد في القراءة واعتسافها الزائد عن الحد! نعم لا ينكر عاقل أهمية القراءة وأنها قِوام الإنسانية والمجتمعات؛ لكن أن تُصوّر الكتب كحصنٍ قوي الحجارة سامق الجدران مُتعدد الأسوار مرتكزٍ على قمة جبل لا يحفظ الإنسان ويحميه إلا بقدر ما يُبعده ويعزله فهذا مما يخرج القراءة عن معناها ومقصودها الحقيقي والجوهري الذي يراد به التأثر والتفاعل مع الكون وما يحويه من حقائق وأسرار، وتأثير ذلك على الإنسان وعلى ما حوله، ومشاركته ذلك الأثر.. لا الانكماش والتقوقع؛ إن لم يفصح الكتاب عن هذا، فهذا على الأقل ما يشي به، إلا قليلًا منه! فمعلوم أن العلم في الإسلام لا نفع به إن لم يصحبه العمل، حتى عائشة -رضي الله عنها - حين وصفت خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم - وقالت: "كان خلقه القرآن" فإنها وصفته بشيء علمي أو نظري رَكِبه العمل والتطبيق، إذ لا فائدة من علمك بالقرآن إن لم تعمل بما فيه، فوددتُ أن لو فصّل الشيخ علي العمران عن عمل هؤلاء العلماء بعلمهم وتقواهم وخشيتهم لله عز وجل، وعن أحوالهم في أهليهم ومع طلابهم وأصحابهم وخُلقهم وتعاملهم معهم، فكلنا يعرف مقولة أمّ الإمام مالك له حين كانت ترسله صغيرًا إلى شيخه فتقول: "اذهب إلى ربيعة فتعلّم من أدبه قبل علمه"، فالحديث مثلًا عن أمثال الحافظ البلقاسي -رحمه الله- الذي كان لا يُرى إلا مشتغلًا بالعلم أو التعليم ليله ونهاره حتى أنه كان يقرئ الطلاب وهو يأكل استغلالًا للدقائق والثواني، أو عن ابن عقيل الحنبلي الذي كان يأكل سفّ الكعك مع الماء بدلًا من الخبز لكي يكون أسرع في المضغ والبلع استنهازًا لوقته في العلم؛ لم لا يقابله مثلًا الحديث عن ثنايا يوم ابن تيمية وتنويعه في وقته وحياته ما بين عبادة واستغراق وتأمل في الكون وتصدق على الفقراء وجهادٍ للطغاة بالكلام وجهاد للعدو بالحُسام.. وغير ذلك! أنا لا أتهم البلقاسي ولا ابن عقيل ولا غيرهما في اقتصار يومهم دِقّه وجلّه على العلم المجرد فقط.. معاذ الله، فمثلهم لا يُتهم في دينه، فلا ريب أنهم يعملون بالعلم، أو أنهم ابتغوا بهذا العلم الذي صرفوا عليه ليلهم ونهارهم ونومهم وراحتهم وطعامهم وشرابهم أن يكون من أرجى أعمالهم التي تدخلهم الجنة بعد رحمة الله.. أحسبهم والله حسيبهم، ولكني أنقد الاحتفاء بفعلهم وذكره على سبيل التعظيم وكأنه مقياس العلم وحده، ومثل هذا المقياس ينطبق على سائر ما ورد في الكتاب من أمثلة؛ مما هو خارج عن قدرة الشخص العادي ومما يتفاوت فيه الناس! فحتى ابن الجهم الذي ذكره المؤلف بأنه كان يطرد النوم بالقراءة والنظر في الكتب واحتفى بصنيعه؛ ذكر في موضع آخر أن الحسن اللؤلؤي يقول عن نفسه أنه كان لا ينام إلا والكتاب على صدره، أي أن النوم كان يدهمه أثناء القراءة! هذا غير أن بعضهم ممن ذُكروا في الكتاب كان يتفاخر بأنه لا ينام الليل إمعانًا في المطالعة والعلم.. كيف ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن ذلك أولئك النفر الذي افتخر أحدهم بتركه النوم للصلاة والعبادة وقال له:"وأصلي وأنام"؟! وهذا في أمر الصلاة التي هي من أجلّ الطاعات، فكذلك طلب العلم وغيره!، ثم يذكر المؤلف أن تقي الدين ابن دقيق العيد حين وصل إليه كتاب (الشرح الكبير) اشتغل بمطالعته حتى اقتصر على الفرائض من الصلوات وترك النوافل، وصحيحٌ أن تقديم العلم على الرواتب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن كان من الأجدر أن ينبّه المؤلف على هذه المسألة والتفصيل فيها؛ لكي لا يتخذها البعض مساغًا فيترك النافلة متى شاء بحجة طلب العلم!
ثم إن ذكر خبر ثعلب النحوي أو خبر محمد بن أحمد البغدادي اللذان كان لا يمشيان إلا وفي يديهما كتابٍ ينظران فيه حتى أن ثعلب صدمته فرس وهو يقرأ فألقته في هوة، فمات في اليوم الثاني بسببها، والبغدادي ربما سقط في جرف أو خبطته دابّة بسبب القراءة؛ لم لا يقابله التنبيه على فعليهما وضرره : ﴿أَفَمَن يَمشي مُكِبًّا عَلى وَجهِهِ أَهدى أَمَّن يَمشي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾، ﴿ وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ﴾ ؟!

إن ذكر نماذج تكاد تكون غير واقعية (إمكانًا لا حدوثًا) ثم الاقتصار والتركيز عليها لا يزيد الأمر إلا إغرابًا أو إنكارًا أو تعجيزًا، وفي كل الحالات لا يزيده إلا بعدًا! فالنفس التي تروم بلوغ قمة الجبل بوثبة واحدة وهي في أخمص السفح لن تستطيع، ربما ستحاول المرة بعد المرة، حتى إذا استبانت العجز كرهت القمة وصورتها وفكرتها، أو قنعت منها بالنظر من بعيد بإعجاب وتسبيح وتمجيد لخالقها الذي رفعها وأعلاها فوق كل البشر ! هذه هي النفس الإنسانية بصورتها الطبيعية البسيطة، ولكل قاعدة شواذ بعد ذلك! 
كم وددتُ حقًا لو فصّل الشيخ علي العمران بعد ذكر هذه النماذج في شأن الأولويات في حياة المرء وأن هناك أمور تقدّم على أخرى سواءً بالمُطلق أو في زمانٍ ومكان معينَين، كم وددت لو فصّل كذلك في شأن قدرات الناس وتفاوتها حتى في طلب العلم والصبر عليه، فمن تميّز في شيء تواضع في آخر، كمن يتميز في نسخ الكتب حتى يتكسر القلم في يده، ويتواضع في قراءتها والدأب على دراستها المِرار الكثيرة..وغير ذلك، بل حتى تفاوت القدرات واختلاف الأمزجة في الشخص الواحد من حين لآخر؛ فهذا الإمام ابن حجر العسقلاني وهو حافظ عصره، كان يظهر التأسف في تقييد ما يسمعه من الفوائد، وغيره كثير. ولا يعني تفاوت القدرات أنه ينبغي لطالب العلم ما لا ينبغي لغيره؛ سواء بلغ فيه درجة متقدمة أم لا، إذ أن العلم كما قلنا لا يؤخذ بمراغمة النفس وحملها الشديد على ما تكره، أو ما يصلح لغيرها ولا يصلح لها، أو ما هو سابقٌ لأوانه، فحتى العلّامة جمال الدين القاسمي الذي أورد المؤلف من كتابه "الفضل المبين" خبر قراءته للمطولات مثل صحيح مسلم، وسنن ابن ماجه، والموطأ، وتقريب التهذيب؛ يذكر في كتابه الآخر "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" أنه قرأ هذه المطولات إثر بعضها في شهور متجاورة تقريبا، ولكنه يحذر من ذلك ويقول :"فأجهدت نفسي وبصري، حتى رمِدتُ بإثر ذلك، شفاني الله بفضله، وأشفقتُ من العودِ إلى مثل ذلك، وتبين لي أن الخيرة في الاعتدال، نعم لا ينكر أن بعض النفوس لا تتأثر بمثل ذلك لقوة حواسها، وللإنسان بصيرة على نفسه، وهو أدرى بها".

إن العلم بحر عظيم واسع لا وجهة تؤديه ولا طريق يُقسّمه، فأبحر فيه أنى شئت عالمًا، أو عاملًا، أو عالمًا عاملًا، أو حافظًا، أو فاهمًا، أو متفكرا، أو متسائلا، أو ناسخًا، أو مؤلفًا ومصنفًا.. كن ما ينفعك وتُجز به عند الله ويقربك منه ولا يسخطه منك، وهذه ليست دعوةً للتهاون بالعلم والتلكؤ فيه، وإن أمةً كان أول دينها :"اقرأ" لحقيقٌ بها أن تصِل الأول بالآخر وتكون هذه الكلمة نبراس الزمان الذي لا ينطفئ مهما أظلمت الأيام؛  بل أن يكون المرء فيه وسطًا بين الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، وأن يُحدّث الناس فيه بما يطيقون.. فما تطيقه طبقةٌ لا تقدر عليه غيرُها، وما يطيقه أهل قرنٍ لا يُطيقه غيرهم؛ كما قال الحافظ الذهبي معلّقًا على خبر قراءة الخطيب البغدادي لصحيح البخاري في ثلاثة مجالس: "وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه!".. هكذا ببساطة.. فلكل وقتٍ ولكل حالٍ ظروفٌ ورجال! وإني مما أنقد الشيخ علي العمران عليه في كتابه أنه يذمُّ الذين يقرؤون الكتب بالحاسب الآلي ويظهر لهم الكتاب بـ(كبسة زر) ويقول عنهم أنهم إن ظنوا أنهم سيلحقون العلماء وينضمّون إلى ركبهم بهذا الفعل السهل فقد خابوا وخسروا! .. سبحان الله! غفر الله لك شيخنا الفاضل! وهل يجب أن يتعنّى الناس في طلب العلم ويضربون له أكباد الإبل مسيرة الشهر أو الشهرين كما في السابق حتى يكونوا علماء عن حقٍ وصدق؟! لماذا يجب أن نقفوا خطى الأوائل حذو القذة بالقذة ونجعل ذلك مقياس العلم وحده؟! أوَليس من رحمة الله ولطفه بهذه الأمة أن يسّر لها أسباب الأخذ بالعلم كما لطف بها وبالبشرية غيرها حين يسّر لها هذه المخترعات والآلات والأجهزة التي سهّلت حياتها وحسّنتها؟ وليست القضية أن نلوم من يقرأ من حاسبٍ أو (آيباد) بل اللوم على من تتوفر له هذه التسهيلات ثم يتقاعس في الطلب ويشتري به ثمنًا قليلا!

مرةً  أخرى: حدّثوا الناس بما يعقلون، بما يقربهم..لا يُبعدهم، بما يُعينهم.. لا يُعجزهم، بما يُرغّبهم.. لا يُحرجهم، حدّثوهم عن قرائن العلم من تقوى وورع وآداب وسلوك، حدثوهم عن أحوال العلماء وأنهم ونحن ومن قبلنا الأنبياء والرسل بشرٌ نأكل الطعام ونمشي في الأسواق، ونعمل ونتزوج وننام، ونملّ ونضجر، وننشط وننبعث؛ وأذكر هنا أمرًا طريفًا أنني قرأت في أحد المواقع الإسلامية المعروفة سؤالًا أرسله أحدهم يسأل فيه إن كان السلف يعملون في مهنة أو حرفة أم كانوا فقط متفرغين للعلم؟ ويشكو فيه السائل أنه حين يقرأ في سير الصحابة وأنهم مع ورعهم وتقواهم كانت لديهم أعمال ومهن يزاولونها فإنه يشعر بالسعادة وحب العمل الصالح ونشاط الحياة وانبعاثها، بينما حين يقرأ في سير السلف فإنه يشعر بالحزن والفتور لما يصوّر له من أنهم فقط كانوا مشتغلين بالعلم والحفظ ومعزولين عن الحياة! فأجابه الشيخ بأن الأمر ليس كذلك، بل إن أكثر السلف كانوا يعملون بالتجارة والحدادة والزراعة وغيرها، بل بعضهم اشتهر بمهنته ونُسب إليها؛ كالآجرّي والبحراني والحداد وغيرهم.. وهكذا ينبغي أن يكون! العلم لا يعني نبذ الحياة، بل هو جزءٌ أصيل منها يخالُطها حتى العظم، متفاعلٌ معها تسير به ويسير بها، فمعلومٌ أن أوّل العلم وابتداءه كان سؤالًا ولّدته ملاحظة الأشياء من حولنا والتيقظ لدقائقها وأسرارها، ثم التأمل فيها واستقراؤها.

وختامًا: لا يشكك أحد في أهمية هذا الكتاب وجهد مؤلفه الفاضل وأثر مضمونه خاصة في شحذ الهمم والمسارعة للعلم وتوقيره وإجلاله، ولا يشكك أحد في أن "اقرأ" هي الأولى وهي الآخرة، ولكن أستطيع أن أقول أن نقدي ليس للكتاب والمؤلف بقدر ما هو نقدٌ للفكرة، إذ أنها رائجة ومنثورة في كثير من الكتب!  هذا وإن صوابي من الله، وخطأي من نفسي والشيطان.