الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

نصائح في الكتابة (1)



تصف رضوى عاشور-رحمها الله- الكتابة مُجيدةً الوصف بأنها:


"فعلٌ معلق بين التلقائية والقصدية، غير الموعى به والموعى به تمامًا، اللعب والضرورة، بساطة التعبير ومشقة الإلهام، ما يهبط على الكاتب في ومضةٍ إلهامًا وما يحيره ويضنيه، ويبحث له عن حل كأنه
تلميذ يشقيه حل مسألةٍ في الحساب"


بالنسبة لي فعلاقتي مع الكتابة -الإبداعية خاصة- تتلخص بأني أراها طريقةً مُثلى للعيش تسمو بها حياة المرء كأي حُلم.. أو فكرةٍ ساحرة، أو كأي معنًى مشرق يجعل جوهر النفس متلألأً تحت ضيائه.. الكتابة هي ذلك الأسلوب القديم العميق كقِدم الإنسان وعُمقه.. منيرٌ كنورِه، مظلمٌ كظلامه، مُحبٌ كحبِّه، كارهٌ ككرهه، راجٍ كرجائه، آيسٌ كيأسه، باسمٌ كابتسامته، عابسٌ كعبوسه.. باختصار الكتابة هي الفن، والفن هو الإنسان؛ فالكتابة هي الإنسان، والإنسان هو الكتابة!

وفي هذه التدوينة سأضع بعض النصائح التي استقيتها من ملاحظات وتأملات أمدتني بها تجربتي في الكتابة، وقد صغتها بأسلوب أدبي لأنها بالأساس كانت وليدة فترات إلهام متباعدة، والإلهام غالبًا ما يبعث بالمعنى بديعًا مزوّقًا لا واضحًا وصريحًا..
وقد قررت أن أجعل هذه التدوينة بوابة لسلسلة تدوينات تحمل ذات العنوان، وسأُتبعها بها إذا استجدّت لي نصائحُ أخرى في المرات المقبلة بإذن الله..





لا تكتب للناس

بعض الكتّاب ترد في باله فكرةٌ ما تغريه بكتابتها، إلا أنه حين يتصوّر ردود القرّاء عليها يعزف عن كتابتها ويُعرض عنها، لأنه يتخيلها فكرة عادية مبتذلة لا إبداع أو دهشة فيها تشد القرّاء إليها، وهذا خطأ! فمن قال إن الكتابة جبلٌ لا يزيدنا تسلّقه إلا صعودًا؟ أو شمسٌ لا يزيدها ارتقاؤها نحو كبد السماء إلا توّهجًا؟ أو فرقدٌ يتشبّث بمكانه في الأعالي؟
الكتابة ابنة الحياة.. وأخت الشعور، وهي في حكمهما؛ فمرةً صعود، ومرةً هبوط!
الكتابة نهرٌ ماؤه الحبر وهواؤه الإحساس والخيال الذي يدفّ شراع الورق.. وهي عملٌ ذاتي قبل كل شيء؛ يبدأ من قلبك وينتهي إليه.

اكتب وإن لم تنشر ما كتبت .. اكتب لأن قلبك سيبتسم ونفسك ستفخَر وروحك ستصفّق، اكتب لأن نفسك قنوعةٌ يرضيها أصغر الفرح.. ويدهشها أي شيء وإن كانت فكرة عادية وكلمة بسيطة.. اكتب لأنك تكتب من أجل نفسك أولًا!


الاستلهام..وليس الإلهام !

حين ينضب خيال الكاتب فإنه عادة ما يلجأ إلى القراءة لتقدح في ذهنه شرار الأفكار من جديد، لكن طريقة القراءة هنا خاصة وليست عادية؛ فلا تحشد من القراءة هنا أو تبالغ فيها بحجة الحاجة للإلهام والتنوير..لن تلهمك القراءة إلا إذا استلهمتها حقًا، وأنصت لها قلمك وخيالك قبل كل شيء؛ القراءة بلا تفكّر يكون فيه القلم أداةً للتفكير وغايةً له لن يجني منها قلم الأديب شيئًا..
استمع إلى ما تقوله لك القراءة، ثم توقف وانظر رأيَ نفسك فيما سمعت وتأملها فيه؛ فعسى أن يتآلف المسموع والسامع فتصير منهما فكرةٌ تكون نواةً لنصٍ ما!


لا تتجاهل ما استطعت!

في أوقات معينة ستتنزّل عليك معانٍ مبدعة تستوجب تدوينها، هذه المعاني هي بنات أفكار الكتابة التي أرسلتهن إليك، فاحذر أن تتجاهلهن كثيرًا وإلا شكَينَ إلى أمهن فأغضبتها فتحرمك منهنّ طويلًا!


لا يجتمعان !

لا تتسمّع إلى صوت الإلهام وأنت تزاول عملًا جادًا يحتاج منك إلى انتباه وتركيز؛ فإنك إن فعلت لن تُحسن لا هذا ولا هذا! الاستماع إلى هذه الأفكار والأعمال الجادة في قلب أديبٍ لا يجتمعان، فإما أن تقطع خيط الفِكر من أول تكونه، أو أن تؤجل عملك الجاد لاحقًا: لا تنصت إلى الأفكار وأنت تقطع بالسكين..لا تنصت إلى الأفكار وأنت مقبلٍ على الصلاة أو بدأت بها فعلًا.. لا تنصت وأنت تحادث شخصًا ما..لا تنصت وأنت تنتظر نضوج الكعك في الفرن.. لا تنصت وأنت تدرس للامتحان...إلخ، الكتابة عمل انسحابي وانفصالي بامتياز! أنا حين تدهمني مثل هذه الأفكار وأستغرق معها فإني لا أشعر بجسدي ولا بالمكان من حولي! أشعر بأن عقلي ينفصل عن كل شيء ويطير بخفة إلى حيث تأخذه هذه الأفكار والخيالات.. أشعر وكأني قد تلبسني سحر أو غطّت عقلي خمرة، ولا يخفّف من حدة هذا الانفصال والسرحان إلا إمساكي بالقلم وتسجيلي لتلك الأفكار؛ حيث يعود العقل إلى مكانه ويمارس وظيفته فيجمع شتات تلك الأفكار ويلتقط شواردها ويرتبها على الورق..
ولكن؛ إن كان هذا العمل الجاد لا يؤجل وكان لابد من تقديمه على الكتابة، فما العمل؟! 
دوّن رؤوس تلك الأفكار التي وردتك على هيئة كلمات متقطعة كي تكملها لاحقًا، على أني لا أضمن لك أن تكتبها وتصورها لاحقًا بنفس قوتها التي جاءتك بها أول مرة! .. الكتابة غالبًا لا تولد ناقصةً ثم تنمو وتكتمل..بل تولد الكتابة مكتملة بهيّة، ثم تتناقص مع مرور الوقت إن لم توضع على الورق.. مهدها الفطري.

ولكن اكتب وابذل وسعك، فلربما أسعفتك القريحة مرة أخرى وعاونتك من جديد!

....

16 ذو القعدة - 8 آب
تمّ الجزء الأول من السلسلة