السبت، 9 مارس 2019

مدينة الرؤى والنبوءات


ما كنتُ لأستيقظ لولا أن أيقظتني الشمس، لقد نمت باكرًا بعد أن طرحني دوار البحر أرضًا؛ ولكني رغم ذلك لا زلت أشعر بالتعب..وافضيحتاه! لقد نمتُ وسطَ السفينة على مرأى الجميع! لماذا لم يتكلّف أحدهم ويحملني إلى الداخل! أففف ما الذي جعلني أصلًا أوافق على هذه الرحلة! وما الذي سينتظرني يا ترى؟! أرض الأحلام؟ أم مدينة مسحورة من عالم الخيال؟ أم قلعة العجائب؟ لستُ "أليس" ولا العالم "بلاد العجائب".. فما الذي يمكن أن ينتظرني ويجعلني أتكبّد المتاعب في هذا البحر! لقد أغراني السندباد وأظنه خدعني.. فما الذي يسحر ويُغوي في هذا العالم؟! أيحسبُ أن قصصه ستنطلي علينا كما انطلت على كثير ممن قبلنا؟ هه.. لا يا عزيزي السندباد.. هذا عصر العلم والأنوار والعقل.. وكل شيءٍ أصبح معروفًا ومكشوفًا ولا يثير في النفس غرابةً ودهشة كما السابق.. حتى الأخبار الغريبة لها تفسير، وحتى الخياليّة نادرةُ الحدوث، ونُدرتها لا تزال تحُدّها في سياق المعقول، إذ أن لكل قاعدة شواذّ، فأين تهرب منا أيها السندباد المتوّهم!! ولكن أين هو؟ آه إنه واقف هناك ينظر بالمنظار كعادته، ينتظر اقترابنا من المدينة الساحرة المزعومة!! :
-أما زلت تحدّق أيها السندباد !! كم بقيَ من الطريق؟!
-لقد اقتربنا من اليابسة! سترسو سفينتنا ومن ثم سنواصل المشيَ برًا إلى أن نصل للمدينة!
-كنتُ أظن أن هذه المدينة تطلّ على البحر!
-وهي كذلك! ولكني أحببت أن ندخلها برًا لحاجةٍ في نفسي.
رَسَت السفينة ومشيتُ مع السندباد حتى ابتعدنا عن الميناء..إنه يجري بسرعة.. ويبدو جذلانًا وكأنه يركض نحو حبيبٍ يعانقه!:
-تمهّل أيها السندباد، ترفّق بي فلا أزال مُتعبة!
ضحك بصوتٍ عالٍ ثم قال:
-سيزول تعبك حالما نصل إلى المدينة!
-أواثقٌ أنك لن تخيّب أملي؟!
-نعم واثق.. واثق!
كانت سفينتنا قد رسَت صباحًا، وأخذتُ والسندباد نمشي عبر سهولٍ وتلال ساعةً من النهار قبل أن يتوقف السندباد فجأة ويشيرُ للأمام:
-انظري..إنها هيَ..لقد وصلنا !!
كان تعب الطريق قد نالَ مني..فهممتُ بالجلوس ولكني آثرت المواصلة حين لاحت لي المدينة من وراء تلٍ أخضر قد أظهر بعضها وحجب بعضها الآخر..حثثنا المسير وكانت المدينة تلوح لنا أكثر، وقبل أن نصعد التلّ استوقفني السندباد فجأة، ثم استدار مع التلّ حتى لم أعد أراه، وعاد بعد لحظات يقود شيخًا طاعنًا مُتكئًا على عصى..ذو لحية بيضاء كثيفة وشاربٍ يغطي فمه ووجه عاثت فيه التجاعيد وعليه جُبةٌ قديمة:
-من هذا أيها السندباد؟
-إنه العم بيزاس...(قاطعه الرجل):
-أنا بيزاس..إني منشئ هذه المدينة، أنشأتها منذُ عصور سحيقة ومن اسمي اشتقّت هذه المدينة اسمها.
قال السندباد:
-ولكن اسمها المُشتق من اسمك قد تغيّر يا عم بيزاس، فقد جاء بعدك بألف عام رجلٌ اختار هذه المدينة لتكون عاصمة امبراطوريته العظيمة، فنُسب اسمها إليه فيما بعد!
-هه! كم يفسدُ الزمان!! يختار الرجل موقعًا لا نظير له لمدينته، ويبنيه ويُرصّفه ويبعث فيه الحياة بعدما كان قفارًا.. ثم يتطاول الناس بعد ذلك ويمحون ببساطة كل ما عمله! أنا الأول ..أنا العتق والقِدم.. ولئن نسيَ الناس ما صنعته فليحفظ ليَ التاريخ ذلك..أنا بيزاس..وهذه بيزنطة!!
ثم استدار الرجل راجعًا تتقلّعُ الأرض من خطواته الغاضبة، وما هيَ حتى غاب عنا..نظرتُ إلى السندباد بذهول، فأخذ يهز رأسه كأنما كان يعرف الرجل جيدًا ويعرف غضباته وصرعاته:
-متى أُنشئت المدينة؟ سألت السندباد.
-عام ٦٦٧ق.م.
-إنها قديمة جدًا!
-وهذا بعضُ سحرها وتميزها! إنها العراقة التي تهَب المدن رائحة  فريدة، وضوءً كالشمس..أزليٌ وباقي..أصيلٌ وباهر!
-صحيح..أحسنت..أحسنت!!
صعدنا التلّ وأشرفنا على المدينة..أخذ السندباد يحدق فيها بالمنظار، ثم صرخ فجأة:
-الله الله!لقد صدق نابليون حين قال: "لو كان العالم دولة واحدة لكانت هذه المدينة عاصمتها!"
-أعطني المنظار لأرى!
وفجأة..راعَنا خطو أقدام خلفنا..فالتفتنا فإذا هما رجلان مُهيبان، أحدهما يرتدي جُبة واسعة مع شال يغطي كتفه الأيسر وجنبه الأيمن ويضع تاجًا على رأسه، والآخر يرتدي قفطانًا أحمرًا طويلًا مع عمامة بيضاء ضخمة، قال السندباد:
-سيدي السلطان،سيدي الامبراطور؛أهلًا بكما
قال صاحب التاج:
-أهلًا بكما في القسطنطينية!
نظر إليه صاحب العمامة بضحكة ساخرة وقال:
-إنها إسلامبول أيها الامبراطور!
ابتسم الامبراطور حرجًا وقال:
-أجل..أعني..لقد كانت القسطنطينية فيما مضى! ولقد كانت قبل ذلك مدينة صغيرة خَرِبة اسمها بيزنطة رأيتها في المنام، فأيقنت أنها رسالة من الرب لأختارها وأشيّدها وأجعلها عاصمة الامبراطورية الرومانية والمدينة الباهرة التي تكون محط الأنظار وقبلة كل مسيحي!
قال السلطان:
-وهذه المدينة هي بشارة رسولنا العظيم ونبوءته المنتظرة التي تحققت على يدي بفضل الله.. فتحتها وحولت كنيستها لمسجد وبنيت فيها وشيّدت، وجعلتها عاصمة لدولة إسلامية عظيمة، واستقدمتُ لها الناس من شتى البقاع..لتكون مدينة فسيفسائية بثقافتها.. وجوهرةً لم ترَ مثلها عين بشر!

أيّة مدينة هذه التي يتساجل حولها الملوك ويتقاتلون وتقودهم إليها الأحلام والنبوءات؟
أحسستُ بنشوةٍ في روحي! فأخذتُ المنظار وجعلتُ أحدّق..ياااه! مدينة ترقد على سبع تلال.. يُلقي البحر رأسه بين جنبيها..وتستوي القباب على أنحائها بجلال ومجد منتصبةً حولها المآذن كأنما تحرسها وتحميها.. تتهادى النوارس بين قلاعها وأبراجها القديمة ويطير الحمام.. بناياتٌ وأبراج حديثة تزاحم القِدم وتسخر منه..خُضرة وأشجار تدبّ بين الأبنية وتكسو التلال وتُجمّل المدينة..كأن كل شيء يريد إثبات حضوره: الماضي والحاضر.. البحر والطبيعة.. الأفكار والعقائد المتصارعة!

ودّعنا الرجلَين ونزلنا لاستكشاف المدينة يقودني السندباد الذي زارها مرارًا..ذهبنا أولًا لمضيق البسفور الذي لفَتني بالسفوح الخضراء المُسترخية حوله والمُكوّنةِ مع زرقته غذاءً بصريًا مُنعشًا.. وبالسفن السارحة في أمواهه.. وبقلعة روملي حصار التاريخية الهامسة للبحر بذكريات العصر القديم.. وبغيرها من البنايات العتيقة الواقفة بجوار بناياتٍ حديثة؛شارحةً للزوّار روحَ المدينة المتناقضة.. بالقباب والمآذن المتناثرة على شواطئه.. بجسره الواصل بين عالَمين.. كل السحر المتفرّق في نواحي اسطنبول جمعَه لك البسفور في لوحةٍ خلّابة، يعوّضك ولا يُغنيك أن تتأملها إن ضاق وقتك عن باقي معالم المدينة.

ثم ذهبنا إلى آياصوفيا..كانت بناءً عظيمًا مشهودًا يضم بين أضلاعه هوية المدينة وسُنن التاريخ..هويتها المسيحية أولًا والإسلامية ثانيًا؛ فترى الكتابات الإسلامية تملأ السقف وبقربها رسمة لمريم وهي تحتضن المسيح مختبئة وراء القباب فكأنها العصر الذي توارى وانتهى..
كانت آياصوفيا تقع في منطقة السلطان أحمد المليئة بالمعالم التاريخية، وتضم إلى جانب آياصوفيا جامع السلطان أحمد الشهير الذي يشبه في بنائه وقببه آياصوفيا، وقصر توبكابي العثماني، وخزان البزايليك العجيب أو القصر المغمور تحت الأرض الباقي منذ العهد الروماني، وكذلك الأسواق الشعبية الكبيرة، بالإضافة لساحاتها المميزة ذات الطابع التاريخي، ولا تنحصر المعالم التاريخية في السلطان أحمد بل هي متفرقة بإسطنبول..

عرفتُ إذن ما يعنيه السندباد بأنها مدينة ساحرة..فأن تكون مدينة عاصمةً لامبراطوريتين..مركزًا لتاريخَين..رمزًا في عقيدتَين.. تتصارع حولها الرؤى والنبؤات كمدينة موعودة.. وتتلاطم عليها الدول والشعوب والحضارات.. لهو شأن عجيب متفرّد قلّما اجتمع في مدينة!
إن المدن لا تتبرّع بعبقها لنا بالمجّان..نحن من نلاطفها ونشرع لها أبوابنا لتفعل ذلك..تسحرنا المدن لأننا بحثنا عن مكمن السحر فيها..لأننا عرفنا من تكون ومن أين جاءت وكيف صارت..ولولا ذلك لصارت كل المدن سطوحًا عادية تتشابه في أسباب التأثير دون أعماقٍ متمايزة تهب لكل واحدة منها سحرًا مختلفًا..هكذا سحرتني اسطنبول وهكذا تسحرُنا المُدن!

......................
هذه القصة هي بالأصل مشاركة في مسابقة "تحدي الصيف" تحت عنوان: "أدب الرحلات" والذي أقامه حساب (ماذا تكتب) بتويتر، وقد فازت بالمسابقة ولله الحمد.