الأربعاء، 27 مايو 2020

حين أصبحتُ فارسة!


في أيام الحجر المنزلي هذه والقيد المكاني بين جدرانٍ أربعة؛ تسرح ذاكرة المرء مذكّرةً إياه بلحظاتٍ سعيدة كان فيها حرّةً قدماه مفكوكًا إساره مفتوحةً أسواره ممتدةً آفاقه.. ودع عنك مزاعم الشعراء والأدباء والعباد والمتصوفة إذ زعموا أنه لا يُبالى بسجن الجسد، ما دام الخيال سوّاحًا والقلب منطلقًا والروح محلقة، نعم إنها قوًى كامنة في بني آدم، واللبيب من أحسن استثمارها، ولكن لا غنى للإنسان عن حرية جسده وتنقّله، ولولا ذاك لما خلق الله له القدمين، ولا أباح له السفر، بل وجعل الهجرة واجبة إن ضُيّق على الإنسان في دينه وغُلّ جسده عن آداء ما افترض عليه، ولولاه لما فُضّل المجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، ولا جعل طلب الرزق والسعي له عبادة من أهم العبادات ، ولولاه ما قال الله في كتابه :"قل سيروا في الأرض" وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة.. المهم أني جلستُ أستذكر فرصةً فريدة حصلت لي، ووقتًا سعيدًا مرّ بي؛ حين سجّلتُ في نادٍ لتعليم الفروسية ومارست ركوب الخيل وتعلّمت بعض الأساسيات في هذه الرياضة.. اهتبلتُ هذه الفرصة حين انتقلت للعيش في الرياض بعد زواجي، فلم تكن هناك نوادٍ لتعليم الفروسية للنساء في مدينتي التي كنتُ أقطن فيها، وكان تعلم ركوب الخيل أمنيةً عزيزة ما أروعها لو تحققت! أحبّ الخيل وأرى في امتطائها شموخًا يعزّ الذليل، وكبرياءً يرفع الصغير، وهيبةً تقوّي الضعيف.. كمالًا لنقصهم، وستارًا لعوارهم.. محلّقةٌ وكأنها طيور الأرض بلا أجنحة، مقبلةٌ وكأنها السيول هادرة، صامدةٌ وكأنها صخور سفحٍ ثابتة، حيوانٌ اجتمع على تكريمه كل أمم الأرض وشعوبها، فلو صحّ أن الحيوانات تتحاسد فيما بينها لحسدتها على هذه المكانة! المهم أني اشتركت في هذا النادي تحدوني إليه صورةٌ جميلة كوّنتها في خيالي: فارسةٌ ماهرة تطوّع فرسها بسهولة فكأنما خُلق كلٌ منهما للآخر! وبعض الأحلام قد تكون في الخيال أبهى وفي البعد أحلى! كنت قبل بدء الحصص التعليمية قد أخذتُ حصةً تجريبية سريعة في نادٍ آخر أعطوني فيها تعليمات سريعة وعامة؛ كنتُ خائفة بعض الشيء أثناء اعتلائي الحصان الذي بدا لي كبيرًا وعاليًا جدًا بعكس ما كنت أراه في التلفاز والصور، لكني تمالكت ورأيت أني قادرة عليه، ثم حين بدأت الحصص التعليمية في نادٍ آخر كانت المدرّبة حازمة، فمنذ أول حصة رأت أنه يجب علي أن أتعلم المشي وإيقاف الحصان، وتوجيهه يمنة ويسرة، وكيف أجعل الحصان يسرع وكيف أمشي به خببًا (المشي بسرعة مبتدئة)، ومهارة "الصعود والنزول" للجسم أثناء جريه، وقد يرى البعض أنها أشياء سهلة خاصة فيما يتعلق بالمشي والإيقاف والتوجيه يمنة ويسرة، لكن الحال للراكب المبتدئ ليس كذلك؛ فركوب الخيل يعتمد بشكل أساسي على الثقة بالنفس وقوة الانتباه للفارس وحسن التوجيه منه، فالحصان حيوان ذكي.. يشعر بمشاعر صاحبه وتوتره وتردده، وهو حيوان حسّاس؛ لا ينقاد إلا لتوجيه فارسه وبحركات معينة وقواعد ثابتة، فمثلًا: لا يستجيب الحصان لتوجيهك له إلى اليسار بمجرد إدارتك للعنان نحو اليسار، بل لابد بالإضافة لذلك أن تدير وجهك أنت إلى اليسار أيضًا! فلا يصح أن تدير العنان وأنت تنظر للأمام، فالحصان يعرف، وكأن له عينًا من الخلف تنظر اتجاه وجهك! فهذا الزخم من المعلومات والحركات الجديدة يحتاج في أول الأمر إلى تركيز عالٍ يستجيب لكل شيء في لحظةٍ واحدة، وفوق هذا ثقةٍ بالنفس تولّد التركيز والهدوء.. وأنّى ذلك لمتوتّرة مثلي (وهو طبيعي أول الأمر) مع مدرّبة صارمة مستعجلة تريد أن تسقيني البئرَ كله في شربةٍ واحدة! وإن كان يُحمد لها صراحتها وصرامتها منذ البداية لكي تعرف المتدربة ما الذي تُقبِل عليه؛ لكني تضايقتُ من ذلك، والأكثر إيلامًا والأشدّ فتكًا هو مهارة "الصعود والنزول" أو الـ "up down "، خاصة على من ليس لديهم لياقة عالية ناحية الفخذين والقدمين؛ بالإضافة إلى احتياجها لاستجابة سريعة وتوازنٍ عالٍ، وكم كنتُ أعود إلى البيت بسببها مخلوعة الفخذين والساقين في كل حصص تدريبي، وقد راودني غير مرةٍ عزمٌ بأن أترك تعلم ركوب الخيل بسببها لولا تشجيع زوجي ودفعه لي، وقد أتقنتها بنسبة متوسطة في الحصة الرابعة أو الخامسة، ومع هذا ما زالت آلام الفخذين رفيقة تعلمي لها.. والله المستعان على لياقةٍ غائبة! 
كنت أسيرة لأحاسيس الحب والاعتداد ممزوجةً بالخوف والرهبة أثناء تعلمي ركوب الخيل، تطغى هذه.. فتكُفّها تلك ما استطاعت، ثم تضرب الأخرى فتصمد أمامها الأولى؛ كنت أسيرة لخوفي على نفسي وخوف والديّ وعتبهما عليّ حين علما باشتراكي بالنادي، كان يخافان علي السقوط من الخيل، وكنتُ أطمئنهما بأني حذرة وواثقة من نفسي وأني أرتدي خوذة تحميني بعد حفظ الله، ولكني حين بدأت بالحصص هالني حجم الخيل المرتفع فتخيلت أن أخفّ سقوطٍ منه كفيلٌ بتكسّر عظامي رغم ترابيّة الأرض، حتى أني طلبتُ من المدّربة أن تستبدله بخيلٍ آخر أقصر، فضحكت وكأنها ظفرت مني بما تعيبني عليه، فراحت تكرر أن هذا لفائدتي غير عابئة بحداثة عهدي بالخيل، حتى إذا استويتُ على ظهره واطمأننتُ من حجمه أخافني منه حركاته المضطربة نتيجة أخطائي في التدريب وتوتري وصراخ المدرّبة علي! ثم أخافني منه سرعته وتقافزه حين وضعتْ المدرّبة أمامي خطَّين وطلبت مني أن أسرع بالخيل حين أقترب منهما، فكان حين يسرع أشعر وكأني صخرة قذفها منجنيق فهي ترتفع إلى السماء وستسقط على الأرض مُتهشّمة، فيدوّي صراخي بالآفاق حتى تطأطئ المدرّبة رأسها توترًا وكأني طفلٌ قد فضح أسرار أمه أمام الناس! فعاتبتني أولا زامّةً شفتيها، ثم عاتبتني مباعدةً بين فكّيها، ثم عاتبتني مطلِقةً مزمجرة غاضبةً مكفهرة! وتلك والله قاصمة الظهر التي آليت بعدها أن لا أركب الخيل وأن أدعها لأهلها، فلستُ من أهلها كما ألمحت مدرّبتي!.. لمزتني بالضعف و"الدلع" ورُخوّ عظامي.. خاصة حين طلبت مني أن أضرب بقوة على عنق الحصان بالعنان لكي يسرع إذا لم ينفع معه خفقي ودفعي له بقدميّ وهي الطريقة المعروفة، وهذا ما لا كنتُ أعرفه، أو بالأحرى أرهبه! ؛ أخاف حين أضربه بالعنان أن أؤذيه فيهيج علي أو أؤلمه، وقد شهقتُ حين أرتني المدربة كيف تضربه وتهوي بالعنان بقوة على عنقه فيظهر صوت لسعٍ قوي لا أدري كيف احتمله الحصان ولم يغضبه أو يهيّجه! فكلّما أردتُ تطبيق هذه الحركة خانتني يدي وشلّتني الرأفة بالحصان والخوف منه من جديد، وهذا ما لم تُطقه المدرّبة وترى أنه جدير بفارسة المستقبل! فلم أحتمل صراخها عليّ، ولم أحتمل فشلي المتكرر في عين نفسي، فترجّلت أجرّ بقايا عزّتي وثقتي بنفسي، ملوحةً للحصان بالدموع.. مودّعة له بغير كلام! أهكذا يُفرّق بين العاشق وحبيبه ؟! يراسله بلغة الحب .. فيُساء تفسيرها وتحرّف المعاني على غير وجهها! ألا لقاءٌ ووصالٌ يليق بعشقي للخيل ومحبتي له؟! ألا أحدٌ يُعلّمني إياه تعليمًا جميلًا ويسوقني له سوقًا رفيقًا؟! فلم أحبّذ الشدة في التعليم وإن أنضجَتْ ثمرًا وأصلبَتْ عودًا! أم أقول أني رقيقة جبانة وأن ركوب الخيل لا يصلح لأمثالي! لا أدري.. يجيدُ المرء ترقيعَ الأعذار لنفسه، ولكني وإن خفتُ من الخيل فما زلتُ أحبها؛ ولعله الحب الذي ينضج بالبعد ويقوى بالاشتياق ويشتد بالتذكّر، حتى إذا اقترب انطفأت الفتنة باللمسة والضمّة، وتوّهجت نار الحقيقة فإذا هي تلسع وتحرق، وتُبعد وتُقصي! بعض الأحلام ينبغي أن تكون مثبّتة.. على جدارٍ أو رفٍّ علوي؛ فلا يصلح أن تُنزلها أو تغيّر مكانها، بل تتأملها فقط من بعيد! ومع ذلك فما زلت أحب الخيل وأرغب ركوبها، وربما لو سنحت لي الفرصة مرة ثانية وفي ظروف أخرى لتعلمتها من جديد! والرغبة سبب ونسَب وإن لم يتحقق المرغوب!:
هلّا سألتِ الخيل يا ابنةَ مالكٍ
إن كنتِ جاهلةً بما لا تعلمي
يخبرك من شهد المحبة أنني
أهفو لها وإن زلَّت بها قدمي! 

مع الاعتذار لفارسنا الصنديد وشاعرنا المجيد عنترة.