السبت، 21 نوفمبر 2020

شيء من دقّة النظر عند علماء الأثر

 أن تسمع بالأمر شيء، وأن تنظر إليه وتُقلّبه وتتفحصه شيءٌ آخر! كنتُ أسمع عن إبداع علماء علم الحديث وجهودهم المبهرة في حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلّم-، ولكن حين درست طرفًا من هذا الأمر في شرح نخبة الفكر لابن حجر للشيخ عمر المقبل حفظه الله صدّقَ القلبُ النظر وتثَبّت اليقين! قومٌ تدرّعوا بالحيطة والحذر في الطرائق وتسّلقوا بها الإسنادَ، ولم يخلعوها حتى في الطرائق الآمنة والأسانيد الساكنة، لأن سنة نبيهم دين.. ووحيٌ يُمسّكه الله المتقين، فهو محفوظٌ في حرزٍ أمين؛ فحتى الكذب على الحيوان أمارة كذبٍ عندهم كما يقول بعض علمائهم، فهذا البخاري يترك الرواية عن أحد الرواة حين رآه مرةً يشير إلى حماره بالعلف ليقبل إليه فيركبه، فلما أقبل عنده لم يعطه العلف وركبه ومضى، فارتاب البخاري أنه إن لم يترك الكذب على الحمار فربما كذب على رسول الله! ويحرصون على سلامة النقل واجتماع أسباب الضبط ما أمكن؛ فعندهم أنه كلما قلّ عدد الرواة في إسناد كلما نقصت فرص الخطأ والغلط فيه، فيرجّحونه، والعكس صحيح؛ لأن الخبر كلما تناقله عدد أكبر من الناس كلما علِقتْ به من الزيادات والأوهام ما غيّر صيغته الأولى.. فكذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي صيغ الأداء عندهم تُقدّم الرواية التي تبدأ بـ (سمعت، وحدّثني) على الرواية التي تبدأ بـ (أخبرني) أو العرض؛ لأن العرض قد ينعس الشيخ فيه أثناء قراءة تلميذه عليه من كتابه -كتاب الشيخ- فينسى الشيخ أو يذهل عن تصحيح خطأه إن وَرَد! أما السماع والتحديث فيتكلم الشيخ من حفظه مباشرة فيكون واعيًا لما يتفوه به. أما علم الجرح والتعديل فالعجب العُجاب والسحر العُباب! آية ما رأت مثلها العقول ولا طَرقَتها المناهج ولا حظيت بمثلها نُقُول الأمم وأخبارهم.. يضعون حياة الرواة وأخبارهم تحت مجهر المراقبة بشكلٍ لا يدع شكًّا لشاكّ بأن هذه المراقبة ما هي إلا إلهام الله وتوفيقه لهم ليحفظ سنة نبيه؛ فكتبوا مثلًا عن راوٍ أنه لقيَ الشيخ في جامع البصرة ولم يسمع منه مباشرة! أو أنه رآه ولم يسمع منه! وبذلك تقل فرص صحة روايته، وقَنَصوا عن الحسن البصري قوله:" حدّثنا ابن عبّاس" واستغربوه، لأن ابن عباس حين دخل البصرة لم يكن الحسن دخلها بعد، رغم أنهما متعاصران!، وأوَّلوا قول الحسن بأنه كقولك إذا زار مدينتك أميرٌ فلَقيَته جماعةٌ معينة من أهل مدينتك.. فأنت حين تحدّث الناس ستقول "زارنا الأمير" رغم أنه لم يزُرك في بيتك ولم تقابله، فانظر كيف تتبّع أهلُ الحديث أخبارَ الرواة وأسفارهم بل وحتى الأماكن والمساجد التي يذهبون إليها احتياطًا للسُنة، ومن دقائق تتبّعهم أنهم يعرفون أسماء إخوة وأخوات الراوي حتى يُعرف مَن المقصود بالضبط ومن أي أسرة هو بين الناس ولا يحصل اشتباه، فيعرفون حاله وضبطه وتقواه؛ كعبدالله وأخوه عبيد الله، ويُعرّفون الرواة بكُناهم وأسمائهم معًا حتى لا يحصل خلط بينهم وبين رواة آخرين إذا تشابهت أسماؤهم أو لغيرها من الأسباب، ويوجد في تفريقاتهم تفريق عنوانه (من اتفق اسمه مع اسم أبيه وجدّه) مثل : الحسن ابن الحسن ابن الحسن، حتى لا يتوهم متوهم أن هناك خطأ في الإسناد فيحكم عليه بضعفٍ، وكذلك أنهم  يعرفون درجات حفظ الراوي الواحد؛ فيسجّلون عنه مثلًا أن حفظه من صدره أضبط من كتابه، وكذلك دقّة تقسيمهم لدرجات الطعن في الرواة بالنسبة لضبطهم وحفظهم.. مما لو قرأها جاهل لاختلطت عليه درجةٌ بأخرى ولَمَا أدرك بنظره القاصر أن بينهما برزخٌ لا يبغيان؛ فما الفرق مثلًا بين فاحش الغلط وسيء الحفظ؟ أو بين المغفّل والواهم؟ علماء الحديث يضعون الفروق الدقيقة لهؤلاء فلا تعدو مرويات كل منهم قَدْرها؛ فالفاحش الغلط هو كثير الغلط، والسيء الحفظ هو كثير الغلط لكنه لا يصل لدرجة الفحش، والمغفل هو الذي لا يميز بين الأحاديث، والواهم هو الذي كان غلطه على سبيل التوهّم، ولكل منهم تعامل خاص في قبول مروياته أو ردّها.

هذا غيضٌ من غيضٌ من فيض وقليل من قليلٍ من كثير، ولولا أن يطول بي المقام أو يغمُض حديثي على الأفهام لبسطتُ المقال ولفصّلت في الكلام، ولكنه غورٌ بعيد لم أقف إلا على شَفَته ولم يُصبني إلا رذاذٌ من مائه، فما أنا إلا محظوظةٌ قد أُلقَيَت إليها شَذرةٌ من هذا العلم المُذهّب فراحت تُقلّبها بين الناس فَرِحةً ببريقها.. ورغم أنها شذرةٌ إلا أني شرقتٌ ببريقها .. فكيف لو حُزتُ المنجم كلّه؟ فيا عجبي ممن يطعن في البخاري أو غيره من رجال الحديث! هل قرأ من علم المصطلح أو الجرح والتعديل شيئًا؟ أم أنه قرأ وعاند وقال كما قال الأولون: سُكّرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون؟! عجبي.. يقبلون آثارا ومرويات عن فلاسفة وعلماء مرّ على وفاتهم مئات أو آلاف الأعوام، ولا يقبلون من العدول الثقات علماء الإسلام!!

أُتي بزنديق لهارون الرشيد كان يضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما قدّمه الرشيد للمحاكمة ولساحة العدالة ليصلب وتضرب عنقه، قال: لا يهُم هذا لقد وضعت فيكم أحاديث تحلل الحرام وتحرم الحلال، فقال له الرشيد: يا زنديق تعيش لها الجهابذة تنخلها نخلاً: عبد الله بن المبارك وأمثاله. وإذا كان بين هؤلاء المشككين وبين ديننا وثقافتنا حجابًا وكان هواهم ومزاجهم غربيًا فليقرؤوا ما قاله المستشرقون ورجال الغرب المنصفون عن علم الجرح والتعديل؛ فهذا المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث يقول: "ليفخر المسلمون بعلم حديثهم"، والمستشرق الألماني أشبره نكر يقول: "إن الدنيا لم تر ولن تر أمة مثل المسلمين؛ لقد درسوا بسبب علم الرجل الذي أوجدوه -بحسب زعمه- حياة نصف مليون رجل! " وهذا المؤرخ اللبناني المسيحي أسد جبرائيل رستم يقول: "مما يذكر مع فريد الإعجاب المنهج الذي اهتدى إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في نقل الأخبار"، ثم قال: "وإليك بعض ما نقلوه في كتبهم نورده بحذافيره اعترافًا بتدقيقهم العلمي وتنويهًا بفضلهم على التاريخ!" وغيرهم من المنصفين. (المصدر: الشيخ سعيد الكملي/ انقر هنا

لقد أقرّ ببراعة علم الحديث عندنا وبراعة منهجه ذوو العقول والأحلام من المشرق والمغرب.. فما بال بني جلدتنا لا يكادون يفقهون حديثًا؟! ولكن شأنهم كما قال الشاعر:

هل صحّ قولٌ من الحاكي فنقبله

أم كل ذاك أباطيلٌ وأسمارُ؟!

أما العقول فآلت أنه كذبٌ 

والعقلُ غرسٌ له بالصدق إثمارُ !