الاثنين، 17 ديسمبر 2018

أريد الفراغ!



أريد الفراغ.. أريد البطالة.. أريد الجلوس هكذا بلا شيء، بلا التلفّت يمنةً ويسرة بحثًا عن عمل أهرب فيه من مردة أفكاري وأشباح عواطفي، أو فلنقل أهرب فيه من الفراغ، تلك الكلمة التي يختبئ في أعطافها وحشٌ مخيف يجر وراءه الهموم ومكدرات الأيام؛ أو هكذا صوّروها لنا وركّبوا معانيها.. ولكن لا يهم! لن أخاف هذه المرة! أريد فراغًا كفراغ الشاعر يناجي القمر، أو كفراغ البدوي ممتدًا كامتداد الصحراء..مُطلَقَ القدَمين بلا أسوار تحدّه أو دقّات ساعة تنغّص سكونه، أو كفراغ طفل يستغرقه اللهو واللعب عن كل زمانٍ ومكانٍ حوله، فلا يبالي بعدها إن ألقاه التعب نائمًا في سريره أو فناء منزله، فراغًا كفراغ كهلٍ ظنّ أنه استقلّ عن الحياة واستقلّت هي عنه، فهو يجلس في مقهًى على قارعة الطريق يراقب ناسها وأهلها وأحوالها فيهم وكأنه ليس منهم؛ قد رضيَ أن يترك صخبها وضجيجها فتعطيه دروسها وحكمتها، أريد هذا الفراغ، ولو مكثت فيه الساعات الطوال فلن أبالي؛ ودعني عن مواعظ ذمّه وقصائد هجائه، دعني عن دعوات الهرب منه والتشاغل عنه؛ أجل "الهرب" منه و"التشاغل" عنه! فلم يَكفهم أن صوّروه كثعبان يخُشى الاقتراب من جحره، ولم يكفهم أن ننتهي من الأشغال، بل لابد من التشاغل بأي شيء بعدها! لا يهم.. ارمني بالبلادة أو السبهللية أو الكسل، ارمقني بنظرات الازدراء والاحتقار أيها المثابر النشيط، وإن شئت تلطّف بي واحدُ فوق رأسي بأراجيز العمل كما تُحدى الإبل لعلّي أغذّ المسير وأجدّ الطلب! لن أفعل.. فنحن أهلُ الكتابة والأدب والفن أبناء الفراغ.. لا تخوّفونا بالفراغ وهو أبونا ومنه تنسل أفكارنا وتتعانق قلوبنا مع عقولنا وتتفتح تأملاتنا.. لا مشاحّة في العمل والانضباط ولا ينكر فائدتهما إلا كسول ولو برّر لكسله وزيّن، ولكن الأفكار العظيمة والمعاني البارعة لن تأتي إلى رؤوس مزدحمة بقوائم الأعمال، ولن يعرف السكون طريقه إلى روحٍ تتبع العقل أينما ولّى وذهب، فهذا تابعٌ لذاك، وكلاهما تابع ليومك وطريقة عيشك؛ نعم الأعمال لا تنتهي والمهام تتجدد، ولكن النفس لها حقٌ في الجِمام وإن كانت محاصرة بالمشاغل.. المشكلةُ أن عقولنا هي مجموعة عادات؛ فهي تتربى على ما أنشأناها وعوّدناها عليه، فإن تعوّدت على الأعمال وتتابع الأعمال وانتظار الأعمال.. فالنظام والانضباط عليه وعدم الإخلال به؛ صارت في حالة تحفّز وجذب دائم فهي لا ترتاح إلا أن تعمل وتتحرك، فتَرى الراحة كسلًا، والسكون بلادةً، والتأمل غفلةً! لا أقول لك اطرح العمل جانبًا، ولكن حاول قبل أن تجعل لنفسك قدرًا من الفراغ أن تجعل لها قدرًا من "المرونة"..قدرًا من الفوضى والعشوائية..قليلًا فقط! فلو دهمتك الفكرة الملهمة وهبّت عليك رياح الفن فجأة، وأحاطك ذلك الجوُّ الأثيري الرائق؛ أزحتَ أعمالك ومشاغلك بهدوء وعبرت إلى حيث تحملك روحك ويتنفس عقلك! هكذا تجِمُّ نفسك وتضحك إنسانيتك


المشكلة أن لفظ "الفراغ" في قاموسنا العُرفي ما هو  إلا تعبير عن تلك الحالة السبهللية التي يُرى فيها الشخص فارغًا من أي شيء نافع، أو هكذا يبدو، وهذا برأيي تعبير خاطئ قُلبت به لفظة الفراغ عن معناها التي ينبغي أن تُراد له؛ الفراغ بنظري ما هو إلا مقدمةٌ للأشياء إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، فمن رأى في الفراغ فرصةً يزاول بها المعاصي والغفلة فهي له، ومن رأى فيه فرصةً يترصّد بها الفكرة ويتحيّن بها الخَطرة ويستبطن بها العبرة فهي له كذلك.،قرأت في كتاب "أنا" لعباس العقّاد مقالةً عن الفراغ أزالت كل ريبٍ تجاه هذه الكلمة عن قلبي وعلمتني أن الناس يتعلقون بظاهر الألفاظ دون التفتيش في خباياها! يقول العقاد في مقالته:

"
أوقات العمل تملكنا...
و لكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد ،فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف، وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله، وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة..

فالذي يعرف وقته يعرف قيمة حياته، و يستحق أن يحيا و أن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب،لأن مالك وقته يملك كل شيء،و يصبح في حياته سيد الأحرار.

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ وقت فراغه، وعندنا في الشرق كثيرون،بل كثيرون جداً من هؤلاء الفارغين:
على القهوات وعلى أفاريز الطرقات، في الصباح وفي المساء، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء..
في كل وقت و في كل موسم وكل مكان ألوف من الشبان الأقوياء و الرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد و الورق،أو في تعاطي الراح والدخان، أو في مراقبة الغادين والرائحين والرائحات.
ليس هذا وقتاً فارغاً لأنهم مشغولون فيه،و ليس هذا وقتاً مملوءاً لأنهم يملأونه بما هو أفرغ من الفراغ.
هذا ليس بوقت على الإطلاق.. هذا عدم خارج من الزمان، خارج من الحياة!
و ليس معنى "وقت الفراغ" أنه الوقت الذي نستغني عنه و نبدده و نرمي به مع الهباء،و لكن وقت الفراغ هو الوقت الذي بقى لنا لنملكه و نملك أنفسنا فيه،بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش و تكاليف الضرورة..

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ ؟!
نتعلم منها كل شيء ولا نتعلم شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت الفراغ؛ فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير، ولن تتيسر لنا هذه الغربلة وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ..
إن معارف التجربة والاطلاع زرعٌ في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين..وهي ساعة الفراغ... ساعة هي ألزم لنا من ساعات العمل، لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة..
ولولا أننا نخشى أن يقدس الناس الفراغ لقلنا أن تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر مدين لساعات الفراغ..
لقد عرف التاريخ الإنساني أقوامًا فارغين جنوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات ودفعوا به إلى الحرب تارة وإلى الفتنة تارة أخرى لأنهم وجدوا أمامهم متسعًا من الفراغ يعيشون فيه، ولكننا – حتى مع هذا – لا نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعًا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ الإنسان.
 قرأت مرة في تاريخ  أمريكا الشمالية أن الانجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار "كندا" فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ..لماذا؟ زعموا في تعليل ذلك –وأصابوا- أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن  يقضوا أوقات الفراغ منعزلين منفردين ، وأن الفرنسي لا يطيق العزلة ولا يحتمل أن يفرغ  لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل  بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه...     
      ويصدق علينا في الشرق ما  يصدق على الفرنسيين ، فإن الانسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات ، ولا يهتدي بعد البحث  الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ،  إن كان قصارى ما أصاب  الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار "كندا" .. فالأمر معنا   أخطر وأعظم ، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون ، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه. 
لابد من فراغ ! ..ولابد من فراغ نحفظه !
والفراغ الذي نحفظه هو الذي يحفظنا، لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعظات.
"
ونجد أن هذا المعنى الإيجابي للفراغ الذي ذكره العقاد في كلامه وما يثمره من أفكار وأعمال فاضلة موجودٌ في حياة العلماء والمفكرين ولكن بأسماء ومفاهيم مختلفة؛ كمفهوم "الخلوة" أو "العزلة" أو "التفكّر" وغيرها، فمثلًا يقول ابن عطاء السكندري: "لا بد من خلوةٍ يدخل بها القلب إلى ميدان فكرة"، وقد رُويَ عن سقراط أنه كان يجلس أحيانًا من الصباح حتى الظهر يتأمل في مسألة واحدة فقط، والشواهد والمقولات من حياة المفكرين والمبدعين على هذا كثيرة.. 

وقد اشتكى المبدعون من كثرة الأشغال ورحاها التي تطحن المرء حتى أوشكت أن تودي بروحه، وعزّ عليهم الفراغ حتى لو قُدّر لهم أن يبذلوا من أجله الأثمان الغالية لفعلوا.. هذا عليّ الطنطاوي في حوارٍ له مع نفسه يسائلها عما دهى قلمه ومَحَق قريحته؛ فيجيب عن نفسه قائلًا :"دعني يا فلان دعني؛ فإن سراج حياتي يخبو وشمعتي تذوب، وما إخالني إلا ميتًا عما قريب أو دائرًا في الأسواق مجنونًا! إني انتهيت.. بعتُ رأسي وقلبي برغيفٍ من الخبز، وماذا بي إلا أني معلم، إني معلم في مدرسة ابتدائية، نهاري نهار المجانين وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر ومتى أكتب؟!"، حتى أن عباس العقاد رفض الوظائف الحكومية بأسرها ورأى فيها تقييدًا لحرية المرء وكرامته ووصفها بأنها :"رِق القرن العشرين!"، أما طه حسين فعلى العكس؛ فقد أكّد على أن يكون للفنان عملًا يقيه التزلّف للسلاطين أو أن يكون صوتًا لسلطتهم وأفكارهم، على أن  لا يلهيه هذا العمل عن آداء رسالته حتى يحتفظ بكرامته، دون أن يخلّ ذلك بخدمة فنّه.. 

إذًا.. فالفراغ بالنسبة للكاتب والفنان شرط، إذ الأفكار لا تتخلّق إلا فيه، وهو حاجةٌ إنسانية بشكل عام لكنه للفنان ضرورة.. وليست هذه دعوة لترك العمل وإهماله، ولكنها دعوة للمرونة فيه وعدم المغالاة في مكانته، وليس هذا في كل الأعمال، فهناك أعمال لا تحتمل التأجيل وقيمتها في وقتها وأجلها الذي أُقتّت به، فلينظر كل أحد في أعماله وأحواله وما يصلح به وله..


وأختم هذه الخربشات المتناثرة بأبيات من قصيدة أحبها لأبي القاسم الشابي تحتفي بعالم الشعور والعواطف الذي هو وقود الفن ولذة الفراغ وعلامة الإنسان:


عِشْ بالشُّعورِ، وللشُّعورِ، فإنَّما
دنياكَ كونُ عواطفٍ وشعورِ
شِيدَتْ على العطْفِ العميقِ، وإنّها
لتجفُّ لو شِيدتْ على التفكيرِ
وَتَظَلُّ جَامِدَة الجمالِ، كئيبةً
كالهيكلِ، المتهدِّم، المهجورِ
وَتَظَلُّ قاسية َ الملامحِ، جهْمةً
كالموتِ..، مُقْفِرة ً، بغير يرورِ
لا الحبُّ يرقُصُ فوقها متغنِّياً
للنّاسِ، بين جَداولٍ وزهورِ
كلاَّ‍! ولا الفنُّ الجميل بظاهرٍ
في الكون تحتَ غمامة من نورِ
مَتَوشِّحاً بالسِّحر، ينفْخ نايَهُ
ـبوبَ بين خمائلٍ وغديرِ
أو يلمسُ العودَ المقدّسَ، واصفاً
للموت، للأيام، للديجورِ
ما في الحياة من المسرَّة ِ، والأسى
والسِّحْر، واللَّذاتِ، والتغريرِ
في نشوة ٍ، صُوفيَّة ٍ، قُدسية ٍ،
هيَ خيرُ ما في العالمِ المنظورِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق