الثلاثاء، 14 فبراير 2017

مما جاء في الاستشفاء بالثرثرة

(0)
 
 
 

توجد آفات تهاجم عقل الكاتب وتأكل من محصول خياله وتشرب من ماء قلمه كما تنقض الآفات على محاصيل المزارعين وتفسدها وتخربها، وإن أثرها على الكاتب كأثرها على أولئك المزارعين وربما يكون أشد. ويبدو أن هذه الآفات قد وجدت لذة قوتها وهناء رزقها في رأسي فهي مؤخرًا تزوره مرارًا وتلبث فيه طويلاً! فكرت في موضوع لتدوينةٍ قادمة فاستعسر علي البحث عنه، وإن بدت لي من بعيد سراب لفكرة تستحق الكتابة عنها فإني حين أمتطي صهوة قلمي إليها وأقترب منها لا أجدها شيئًا، فأعصر رأسي وأُجهد قلمي عسى أن أنالها ولكن بلا نتيجة مرجوّة.

فقررت حينها أن أنشر شيئًا مما كنت كتبته في الأيام الماضية، وأن أكتب عن المعاني القريبة من متناول وصفي وقلمي الآن..إذ سوف ستكون هذه التدوينة عن أهم الأشياء التي عملتها أو حدثت لي في الأيام الأخيرة. لعلي بذلك أستطيع دفع الصخرة التي تسد منفذ الحبر في قلمي عن الجريان.


(1)
فيلم Silence
 


شاهدت أحد المخرجين السعوديين قبل يتحمس للفيلم قبل عرضه، فتشوقت له وقرأت عنه وعن قصته فشدتني فجعلته في أول قائمة أفلامي التي سأشاهدها. ثم حين شاهدته خاب أملي.. لم يكن الفيلم سيئًا، لكنه لم يكن يستحق ذلك الحماس له بادئ الأمر؛ فهو ممللٌ نوعًا والأحداث تدور حول وتيرة محددة، إضافةً إلى أشياء أخرى لم تعجبني فيه، ربما شد المهتمين له شهرة المخرج، أو دقة التصوير وجمال الإخراج،أو تصوير الفيلم بعد انتظار دام طويلًا..لا أدري.

يحكي الفيلم عن سفر اثنين من الآباء اليسوعيين إلى اليابان في القرن السابع عشر والتي تحظر المسيحية الكاثوليكية. حيث يبحثان عن الأب فريرا الذي كان صاحب فضل عليهما، ويشهدان أثناء رحلة البحث هذه الاضطهاد الفظيع للمسيحيين هناك.

تحدث في الفيلم نماذج وصور متنوعة فظيعة ومؤلمة لاضطهاد المسيحيين اليابانيين وإجبارهم على ترك دينهم .. وهذه الصور هي نماذج للاضطهاد الديني بشكل عام كما سيتبادر لأذهان بعض المشاهدين؛ لقد مرت في ذهني صور التعذيب التي تلقاها المسلمون من قريش في بداية الدعوة الإسلامية في مكة.. وأيضًا صور التعذيب التي تلقاها الموريكسيون المسلمون من الأسبان بعد سقوط غرناطة آخر مدن الأندلس، كذلك محاكم التفتيش والتعذيب التي جاء بها المحتلون الأسبان إلى "العالم الجديد" أو "أمريكا" ونصبوها للسكان الأصليين أو الهنود الحمر لإجبارهم على اعتناق المسيحية، وغيرها من مشاهد وصور عديدة تتكرر دائمًا عبر التاريخ، وقد تختلف أو تشترك في أساليبها وأدواتها البشعة والمنتهكة لكرامة الإنسان وحريته، ولكنها تصب أخيرًا في نفس الغاية؛ وهي إكراه الإنسان على فكرةٍ أو مذهبٍ أو دين، وكأن هذا الإنسان آلةٌ إذا رفضت أن تنقاد لصاحبها ما عليه إلا أن يهزها ويضربها حتى تستجيب وتعمل كما أراد! وكأنه ليس إنسانًا بلا عقلٍ يفكر ويقرر ما يختار لنفسه من عقيدة يعتنقها، أو بلا روحٍ تهفو نحو دين معين وتطمئن له، أو بلا نفسٍ مركبة من سمات وخصائص ومشاعر ورغبات معينة تقربها أو تدنيها من فكرةٍ ما أو تبعدها عنها ! وكأنه ليس كل ذلك، بل يُطلب منه أن يلغي وينسف كل ذلك حين يقع هذا الإنسان  في أسر لحظات قهرٍ وتعذيب وإلحاحٍ وإكراه لعين على تغيير دينه!!

 تختلف دوافع الاضطهاد الديني من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.. الفيلم جعلني أتساءل عن دوافع اليابانيين لاضطهاد المسيحيين.. فتارة أقول لتمسك اليابانيين الشديد -في تلك الفترة على الأقل- بعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم، وبالتالي تمسكهم نحو ما ينتمي لتلك الثقافة، فربما لذلك يُعادون ويحاربون كل من يشذ عن مجتمعهم ويجعلهم يبدون مختلفين وغير متماثلين ولو بعض الشيء (وهذه الصرامة والالتزام معهودة عند اليابانيين إلى اليوم كما نشاهد في تقيدهم بتطبيق قوانين وأعراف العمل والالتزام بالوقت وغيرها) لكن ما لبث أن بدا لي هذا الدافع غير مقنع أو غير منطقي، صحيحٌ أن فكرة الإكراه على دين كلها ليست منطقية، لكنني وجدت نفسي في دوامة هذا الجنون أبحث عن شيء من المنطق كحيلة أستعين بها كي لا أفقد ثقتي بهذا العالم! قلتُ أن هذا الدافع غير منطقي لأن عمليات الإكراه والاضطهاد لم تكن تتخذ طابعًا مجتمعيًا، بل طابعًا حكوميًا واضحًا وموجهًا، ووصل إلى اعتباره وكأنه مسألة "أمن دولة" حين وُضعت مكافآت مالية عالية لمن يبلّغ عن مسيحي، وكأن المسيحيين أضحوا مجموعة من المجرمين واللصوص، وليسوا مجرد أتباع دين آخر أو أقلية دينية.ثم تبين لي أن هذا الاضطهاد لم يحدث إلا في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر وكان من نتائجه أن أصبحت المسيحية ديانة محظورة في اليابان لقرنين ونصف، وقد كانت المسيحية موجودةً فيها قبل ذلك التاريخ بكثير ولم تكن تعاني أي نوع من التضييق من جانب الحكومة.. فماذا حدث بعدها ليتغير الحال بعدها من سلمٍ وموادعة إلى اضطهاد وتهديد؟
حدث أن كانت تلك الفترة (القرن السادس عشر والسابع عشر) فترة احتلال وتوسع برتغالي وإسباني بحري لكثير من البلدان، مثل أمريكا والفلبين والهند البرتغالية وغيرها، وكان يأتي إلى اليابان حينها جماعات من المبشرين أو رجال الدين المسيحيين البرتغاليين -كما في الفيلم- لنشر المسيحية هناك أو التواصل مع المسيحيين اليابانيين وتلبية احتياجاتهم الدينية، فخافت الحكومة اليابانية أن يكون هؤلاء طليعةً لاحتلال برتغالي وشيك على اليابان ويهدفون إلى نشر المسيحية فيها لتكون اليابان فيما بعد أرضًا مسيحية فيسهل بذلك خضوعها للبلد المحتل (البرتغال) على اعتبار أن اليابانيين حينئذ سيحملون نفس دين اليرتغاليين، أو خافوا أن تكون هذه الأقلية المسيحية في اليابان ذريعةً لتدخلات ومضايقات أجنبية محتملة سواءً أكانت برتغالية أو غيرها.. وقد حدث مثالٌ على هذا الأمر في التاريخ الحديث لدولنا العربية، أعني حين أصرت فرنسا بعد أحداث الثورة السورية الكبرى أن تقتطع إقليم جبل لبنان أو ما عرف لاحقًا بالجمهورية اللبنانية من سوريا (وكان إقليمًا تابعًا لسوريا) وتجعله ضمن حدودها الاستعمارية وإشرافها لأنها كما تزعم تريد حماية ورعاية الموارنة الكاثوليك أو المسيحيين عمومًا هناك
إذًا .. قامت اليابان بهذه الاضطهادات ضد المسيحيين اليابانيين في تلك الفترة لأنها توجست من البرتغاليين فأرادت أن تقطع كل أسباب الصلة بينها وبينهم، فخيرت من يعتنق المسيحية من اليابانيين بين ترك دينهم أو الموت، وقد ورد في الفيلم ما يشير لذلك، كما أنني حين بحثت عن تاريخ المسيحية في اليابان وفترة الاضطهاد التي عانتها وجدت فعلًا أن الحذر من البرتغاليين هو ما دفع لهذا الأمر، فليست مشكلة الحكومة مع المسيحية كدين، فقد لبثت المسيحية في اليابان عمرًا من قبل البرتغاليين، وقد نُقل عن الحاكم الياباني هيديوشي أنه لا يعترض على المسيحية، ولا يرى ما يجعله يسيء الظن بالمبشرين، لكنهم مع ذلك أجانب قدموا إلى اليابان، ولا يحق لهم التهجم على آلهة اليابان.
(2)
نُشر لي مقالٌ في مجلة قوارئ تحدثت فيه عن ظاهرة انتشرت مؤخرًا للأسف، وهي الهُزال الثقافي والمعرفي الذي أصاب كثيرًا من قراء الآونة الأخيرة، واعتمادهم في قراءتهم للكتب على الكم والسرعة في إنهائها دون الاهتمام بالعمق والكيفية.
* المقال:






المقال كان نتيجة تأملات عديدة استقيتها ممن حولي ومن تجربةٍ شخصية حصلت لي، فقد أصابني هذا الهزال وكنت أحد ضحاياه لفترة.. فقد كنت في بداية رحلتي الجادة مع القراءة والكتب لا آبه أن أمكث في الكتاب مدة طويلة ما دمت حقًا وجدت فيه المتعة والفائدة وأردت التعمق فيه والإحاطة به من أقصاه إلى أقصاه، ولكن مع دخولي عالم وسائل التواصل وانتشار مسابقات القراءة التي تحض على قراءة أكبر عدد معين من الكتب في الشهر أو السنة، تبدلت نوعية قراءتي، وأصبحت أحاول الإسراع في القراءة لكي أحصل في نهاية الشهر أو السنة على أكبر عدد من الكتب المقروءة، وأصبحت أتضايق من عدم تمكني من إنهاء الكتاب في فترة قصيرة، وأعزو ذلك إلى بطء في استيعابي وقراءتي، وكثيرًا ما أفقد الثقة في نفسي لذلك، وفي الوقت ذاته لاحظت أن هذه القراءة لا تمدني بحصيلة معرفية ثابتة ومستدامة، ولا تغير في عقلي وتفكيري ومداركي كما في السابق، فأدركت أن الخلل ليس مني ولا من عقلي، بل من هذه الطريقة التي انتهجتها بلا وعي في الأونة الأخيرة، فقررت الإقلاع عنها والعودة إلى منهجي الأول فهو أنفع وأدوم إن شاء الله، فكانت فكرة هذا المقال.

 لقراءة العدد السابع من مجلة قوارئ كاملًا:
https://t.co/hZh3pQlRcr


(3)

انتهيت كتاب البداية والنهاية الجزء الأول والثاني..
يلفحك شعورٌ غامض غريب وأنت تقرأ عن تاريخ البشرية منذ خلق الله آدم إلى عصورنا هذه، شعورٌ يمطرك بالدهشة التي تسبق الفهم والإقرار، وكأن الأجوبة تأبى الدخول إلى عقلك بسير منطلق يعرف وجهته وغايته، وهي إخبارك وإفهامك بالحقائق الغائبة فتسلم بها بيسر وسهولة ، بل تريد الدخول أولًا من خلال دهشةٍ تشبه دهشة تساؤلاتك الباعثة إليها، دهشةٍ تشبه دهشة التقاء الإنسان الأول بالأرض والمخلوقات من حوله وتعارفه معها؛ فأنا مع هذا التاريخ كذلك الإنسان.. ألتقي للمرة الأولى مع أرضي وكوني الذي أتيت منه وتاريخي الطويل العجيب الممتد الذي انسللت منه، وقصتي التي رُكبت منها.. سيظل هذا الشعور يغمض عليك فلا تعرف كنهه بالضبط، إلا أنه شعور أخّاذًا على الرغم من غرابته.. 
القراءة في تاريخ سردي كهذا يجعل الزمان وكأنه يستدير لك شيئًا فشيئًا ليريك كل شيء وقع فيه، أو كأن التاريخ يمسك بيديك فيسير معك في رحلة منذ أول طريق طويل فيريك كل معالم هذا الطريق إلى أن يصل إلى مكانك الذي جئت منه  فيرسل بهدوء يدك ويكمل باقي الطريق من دونك إلى نهاية ٍالله وحده يعلم متى ستكون؛ وإنها والله لرحلةٌ مليئةٌ ومكتظة بالناس والأحداث والقصص والعجائب والغرائب والبراهين والدلائل إلى الحد الذي يجعلك تستحقر فيه نفسك وقومك وعصرك وتتواضع باقتناع أمام التاريخ وأهله؛ فأنت لست سوى هباءةٍ في صحرائه، ولست سوى منحنى صغير في انحناءات لفائفه الممتدة منذ أول الزمان، أنت لست سوى شيءٍ سيسقط نهاية الأمر في قاع ما زالت تتساقط عليه ملايين الأشياء منذ أول الزمان.. وسيخفيك الظلام ويطويك النسيان كما أُخفيت وطُويت تلك الأشياء من قبلك
سيعلمك التاريخ أيضًا أن تسمع له وتطيع مهما كنت أنت.. ومهما كان حسبُ قومك أو تفرّد عصرك، فإن له سننًا ونواميس قاطعةً لا تفرق بين من غلُظ جلده أو لان، هكذا خطّ الله الكتاب، وجرت على ذلك الأسباب.. بل أظن أن التاريخ لم يدوّن إلا لهذا، والسعيد من استقرأ الأسباب والسنن فجعل حاضره وأعد لمستقبله وفقها،والشقي من غفل عنها أو تغافل ..واتعظ بنفسه!
ولكن لا تخف أيها القارئ ولا تفهم من حديثي أن من يقرأ التاريخ سيكون أبدًا متحفز الروح خاشع القلب حَذِر الرأي، ليس كل الأمر جِدٌ كما يقال، بل إن المتعة حاضرةٌ فيه، ولكنه تخلط نفسها بالجد غالبًا وتنفصل عنه أحيانًا؛ ستستمتع ولكنها غالبًا ما تكون متعةً مشوبةً بشيء من العبرة والتأمل الهادي إلى الاتعاظ، لن يكتب لك المؤرخون القصص الماتعة والمسلية فهذا شأن القصاصين أو الأدباء ومن شاكلهم وليس من شأنهم، وإن خيّل إليك أنهم كتبوا قصة ظريفة أو نكتة خفيفة ليست من الجِد والفائدة في شيء؛ فقد أخطأت وأصبت في آن؛ فربما تكون القصة التي أوردوها أرادوا بها إخبارك بشيء عن أحوال ذلك العصر أو خبره، لأن العصر أو الفترة الزمانية أو الأشخاص أو الشيء المؤرّخ عنه أشبه بقضية أمنية أو فلنقل قضية زمانية، والمؤرِّخ هو المحقق فيها، والمؤرخ لن يلتفت لكل صغيرة في هذه القضية إلا إذا كانت ستفيده في صنع الدلائل والبراهين لهذه القضية.. هذا الكتاب أعتبره من أمتع الكتب التي قرأتها! ربما لأني أحب التاريخ أصلًا، أو لأن التاريخ الذي يتناوله هذين الجزئين من البداية والنهاية هو في أغلبه تاريخ مجهول وغامض بالنسبة لي، والإنسان بطبعه يميل إلى الغامض والمجهول.
(4)
شاهدت هذا الوثائقي من إنتاج الجزيرة الوثائقية:

حقائق ستصدمك، ومشاعر ستؤلمك.. هذا ما سينتابك حين تشاهده !



الحقائق المغيّبة التي سجلها هذا الوثائقي مؤلمة ومهمة جدًا جدًًا وينبغي لكل أحد أن يعرفها، وهذا كل ما أستطيع قوله بشأنه.. والباقي لكم!

 (5)
هذا ما لدي الآن.. شكرًا للآفات المستلقية في رأسي التي جعلتني أقطر بكل هذا الكلام! والقطرة تلو القطرة تستطيع أن تنحت الحجر، وبإذن الله سينحت هذا القطر الصخرة المتعجرفة التي تسد مجرى قلمي :)
إلى اللقاء في تدوينة قادمة إن شاء الله..