الاثنين، 2 سبتمبر 2019

سأتزوج..

ها أنا ذا أحزم حقائبي لأنقل بها جهازي إلى بيتي.. بيتي! بيتي أنا ؟! أشعر أن هذه الكلمة كبيرةٌ عليّ! دمعةٌ تنزل على سفح عيني..آه لا .. لا، ما هذه المشاعر التي أشعر بها! لا ينبغي أن أبكي! ولماذا أبكي! سأتزوّج! سأبدأ حياةً جديدة مملؤةً بالأحلام، سيكون لي بيتٌ خاص أنا ربّته وسيّدته، سيكون لي أطفال رائعون بإذن الله أربّيهم تربيةً صالحة وأغرس فيهم الغراس السديد القويم، سيكونون لامعين في أنفسهم منيرين لمجتمعهم وأمتهم، سيكونون متميزين وسأكون أمًا ناجحة -بإذن الله-، ثم إنه لم يجبرني أحدٌ على الزواج.. فلماذا أبكي؟! لا أريد إلا أن أشعر بالقوّة والعنفوان! وليتَ الأمر كان سهلًا كذلك، بل هو كما قال المتنبي:
وإني ألُوفٌ لو رجعتُ إلى الصبا
لفارقتُ شيبي موجَع القلبِ باكيًا

إني ألُوف.. وأيّ إلفٍ ومألوف! إنها ألفة من خالط لحمي لحمه ودمي دمه، ألفة من درجتُ على يديه ومشيت خطاي الأولى بين قدميه، ألفة من أمسك بيدي في فتوّتي وشبابي لا يُفلتها.. فتارةً يمسكها بشدة خشية أن أسقط في حفر الطريق، وتارةً يمسكها برفق ويجول بها بين مباهج الحياة وطيباتها يتخيّر لها ما تشتهيه.. إنها ألفة الورقة للشجرة، والعطر للزهرة، والفجر لزقزقة العصافير، والنوارس للبحر، والطير للسماء، إنهما والدَيّ، وأنا ابنتهما الوحيدة، فأيّ ألُوفٌ.. وأيّ إلفٍ وأيّ مألوف؟!

وإنهم بعد ذلك إخوتي.. مغامرات الطفولة وشغبها، نزق المراهقة ومناكفاتها، نضجُ الشباب وتفهمه ووده؛ ثلاثة ذكور وأنا الأنثى الوحيدة.. تضادٌ كتضادِ اللّيل والنهار، ولكنهما متلازمان متعاقبان لا يكتمل أحدهما إلا بالآخر!

ثم إنها بعد ذلك غرفتي التي صرتُ فيها "أنا" ! تكوّنتْ فيها ملامح شخصيتي.. واصطبغتْ فيها ألواني أسودي وأبيضي.. غرفتي التي كثيرًا ما أقفل عليّ بابها فلا يبقَ إلا أنا وجدرانها التي تراقبني وتشهد عليّ أو لي، وتعلم من خبر نفسي أكثر مما يعلمه أهلي وأقرب الناس لي.. سكنتُها وسكنتني في بداية سنوات المراهقة؛ حين انتقلنا إلى هذا المنزل، وإني مدينةٌ لغرفتي هذه ومنزلي هذا أكثر مما أدين لمنزلنا القديم الذي عشت به عوالم طفولتي ومرابع لهوي ولعبي؛ فساعةُ الفرح تنقضي بسرعة وتنقضي معها لذتها وحبورها، وساعة التجربة والمجاهدة والألم تنقضي ويبقى درسُها وخبرها!
تقع غرفتي شرقًا؛ فكانت تشرق مع الشمس حين تشرق وكأنها تتلهّف للضياء والنور، وتنطفئ متعجّلةً نهاية النهار حتى قبل أن يغيب قرص الشمس ويخمد ضوؤها تمامًا.. وكأني قد تمثّلت موقع غرفتي في نفسي وعكستُ أبعادها في روحي؛ أتوهج سراعًا، وأخبو سراعًا، ولا أرضى ما بينهما إلا ما أُلقّن فيه درسًا رغمًا عني : وهو أن الحياة تسير ولا تعبأ بنشوتك أو اكتئابك، بملالك أو نشاطك، بسكونك أو اضطرابك، وأنك شئت أم أبيت؛ تسير معها!

فأين بالله عليكم أذهب من كلّ هذه الأشياء وهي نبضُ فؤادي وروحُ روحي؟ وإن كنت أحزم حقائبي إلى بيت رجلٍ كريم يخافُ الله بي؛ فهذه السيدة نائلة بنت الفرافصة حين خطبها عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وحُملت إليه من الكوفة إلى المدينة، أنشأت تقول في الطريق إليه:
قضى الله أن تموتي غريبةً
بيثربَ لا تلقَين أمًا ولا أبًا !

وانظرْ متى قالت ذلك! حين حملت إلى الصحابي الجليل أحد المبشرين بالجنة وأمير المؤمنين عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-! ثم هل يتحسّر أحدٌ على موته في مدينة أكرم الخلق وأن يكون مضجعه قريبًا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟!
إنهم الأهل؛ وكفى بذلك قربًا وكفى بذلك وَصفًا ومدحًا عند المرأة الكريمة: "ومن ليس له وفاءٌ لقديمه، لم يكن منه لجديدِه".
إن زواج الفتاة في مجتمعاتنا يُظهِر بجلاء معنى المشاعر المختلطة والأحاسيس المركّبة، وأن تصطرع الرغبة مع الرهبة، والماضي مع المستقبل، والعادة مع التغيير، والحرية مع القدَر.. ففي الوقت الذي تفرح فيه الفتاة وأهلها بتقدّم الرجل المناسب لها تحزن ويحزنون لمفارقتها لهم، والمستقبل الذي كانت قلقة منه وهي عزباء لأن الزوج المناسب لم يأتِ بعد؛ ها هي بعد أن تقدّم لها أيضًا تقلق عليه.. وتتوجس من المسؤولية المختلفة التي ستتحملها والحياة الجديدة التي ستُقبل عليها، وفي الوقت الذي تدفعها القدرة ويحدوها التفاؤل؛ يمسكها القلق ويسحبها خوف المجهول إلى الوراء، وهكذا.. ترى بالعين الأولى أفراحًا وأغصانًا من الأحلام الناعمات والآمال الناعسات، وبالعين الأخرى فراقَ الأهل وضبابًا من قلق، وهي لا تملك إلا أن تبصر بكلتا العينين.. وأظن أنه لهذا السبب أصبح من الدين والعادات والتقاليد أن تحاط الخطبة والزواج بالأفراح والمباهج بدءً بتقديم المَهر ومرورًا بتبضّع العروس لجهازها..وانتهاءً بيوم العرس نفسه وما يصاحبه من أغانٍ واحتفالات وزغاريد، حتى أن بعضهم قد ذكر أن من حكم وجود المهر في الإسلام هو إدخال السرور على قلبها بهذا المال، فالمهر واشتغال المرأة بشراء جهازها واحتفالات الخطبة والزواج أدَعى لأن تلهو به المرأة، ومن لم تسكّن خاطرها الأحلام الوردية وحداءات الحب النديّة والوعود الصادقة؛ فأجدر لهذه الأجواء البهيجة أن تزهو بها نفسها وتنسيها حزنها وتوجسها، ورغم كل تلك المباهج؛ تبكي الفتاة في ليلةِ عمرها الفريدة حيث ينبغي أن تزهو وتفرح! وتبكي أمها.. التي ما زالت منذ شبّت ابنتها تدعو لها بالرجل الصالح! ويحزن أبوها.. الذي ما برح يدعو لابنته بالستر والعفاف رغم محبته لها وخوفه أن تذهب لمن لا يستطيع إكرامها مثله! وتصيح جدتها.. تلك التي ما فتئت تبشّر كل قريب وبعيد بزواج حفيدتها، وتبكي أخواتها، وقريباتها.. وهكذا لا ترى إلا مخلص الودّ صادق المحبة يبكيها بقدر ما يفرح لها! إن لم يكن بربكم هذا خليط المشاعر ومركّب الأحاسيس.. فماذا يكون؟

وما الذي يحمل الفتاة الوادعةَ في أهلها الآمنة في سربها وعندها منهم قوتُ يومها وغدها على إرخاص كل ذلك واختيار الزواج وهي تعلم أنها ستكابد الأعباء والمسؤوليات وأنها ستمضي حياتها بصحبة رجل غريب 
لا تزال منذ تزوجته توفّق بينها وبين طبائعه وأسلوب حياته على ما يكون في بعضها من تنافر معها، وعلى ما يمر به من تغيرات نفسية وتقلبات مزاجية، وفي أثناء ذلك يرزقون بالأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية دائمة وتربية متعاهَدة.. وهذه وحدها من أعظم المسؤوليات، هذا غير ما يكتنف الزواج من مسؤوليات مادية واجتماعية وغيرها.. فما الذي يحمل الفتاة على كل هذا الرباط والجهاد؟ ستقول الفتاة أن لا شيء يحملها عليه، وأنها رغم تلك المصاعب اختارت ذلك بملئ إرادتها.. لا ليس تمامًا! المنطق والعقل لا يقبلان ذلك! إنما هي الغريزة والفطرة، وحاجة الآخر، والمقتضى الاجتماعي.. هذه أسباب قاهرة لا مكان فيها لحرية الإرادة؛ فلا صوت الفطرةِ سيكفّ، ولا النفس ستستنكف وقد جُعل لها الآخر مودةً ورحمة، ولا الرغبة في تكوين أسرة والحاجة إلى إشباع غرائز الأمومة والأبوة ستنتهي.. هذا غير الوزن والمعيار الاجتماعي؛ فمن تتزوج رضي بها المجتمع وسعِد، ومن لا تتزوج أشفق عليها المجتمع وتحسّر، وإن لم يكن الأمر كذلك فما الذي يجعل الفتاة التي ليست كفؤًا للزواج وتحمل المسؤولية على الزواج والارتباط إلا أحد هذه الأسباب! وهكذا تتصرّف سنن الكون ونواميسه والشروط الاجتماعية بالإنسان حتى في أخصّ أحواله وما يظن أنه أحق بالاختيار فيه.. فأين الذين يدّعون مركزية الإنسان في هذا الكون؟ وأن عنده تبدأ الرغبات وتنتهي الغايات.. يتصرّف بنفسه وبالكون حوله كما يشاء؟ فَلْيتجاهل إذن فطرته.. ولْيعزلْ إذن نفسه عن الآخر وعن مجتمعه.. ولْيرتّب لنفسه حياةً جديدة فريدة لم يسمع بها أبناء آدم وحواء! لن يستطيع الإنسان ذلك ولن يطيقَه

-"أمي لماذا الزواج ؟ لماذا أفارقك وتفارقينني؟!" 
-"هكذا الدنيا يا ابنتي!"
كم مرةٍ سألت أمي هذا السؤال الطفولي الساذج وتجيبني هي بالعَبرة والدمعة ممزوجةً بالوقار والحكمة ! "هكذا الدنيا" تسير ونحن نسير معها، نُردف سُنَنها خُطانا، كما يقود السجّانُ السجينَ الراسف في أغلاله.. سيظنّ القارئ أني أتوجّع وأتحسّر على ما فاتني وأجزع لما سيأتيني.. لا أبدًا، لا أبدًا؛ لا يُقبل العاقل على أمرٍ تبقى عيناه محدّقةً فيه بما وراءَه، وإلّا تخبّطت أقدامه وتعثّر! ولكنه كما قلت : المشاعر المختلطة والأحاسيس المركّبة، وثنائية الرغبة والرهبة، والماضي والمستقبل، والعادة والتغيير، والحريّة والقَدَر، وما حياةُ المؤمن بكل ما يكتنفها من مراحل وأحداثٍ ومفاجآت وانتقالات وجسور وعبور إلا كما قال الشاعر:

يا رفيقي نحن من نورٍ إلى نورٍ مَضينا
ومع النجم ذَهبنا ومع الشمسِ أتينا
أين ما يُدعى ظلامًا يا رفيق الليل أينا
إن نور الله في القلبِ.. وهذا ما أراه !