الأربعاء، 13 يناير 2021

سبعٌ وعشرون دُرًّا من عِقْد أعوامي

 التاسع والعشرون من جمادى الأولى ..

أكملتُ عامي السابع والعشرين ..


هناك سنوات فارقة في عمرك، ليس بأحداث ضخام أو أمور جسام مررتَ بها، بل بشيء كان يعتمل في داخلك لا يراه الآخرون، أنت فقط كنت تبارزه وحدك بعيدًا عن الأعين! عامي السابع والعشرون هو نضجٌ سريع.. كأن منجنيقًا قذفني فجأة إلى قمة صرت فوقها أتأمل العالم ونفسي: ما الذي رماني فجأة إلى هنا؟ ومن أنا؟ ومن أولئك الناس في الأسفل هناك؟! كنتُ أتغيّر ولا أشعر بذلك في نفسي، كان التغيّر كظلي الذي يرافقني أينما أذهب، وهل يستغرب المرءُ ظلَّه ؟ لا .. هو ظله، وظله هو، الآخرون ربما لاحظوا ذلك! أرسلت لي صديقتي الأقرب لي ثقافة وأدبًا قصيدةً لأحد شعراء تويتر تطلب رأيي فيها؛ لم أمهلها تأملًا وتحليلًا حتى وصفتها بالسخف وهاجمت شاعرها- وكانت بالفعل سخيفة بعض الشيء-، فردّت عليّ مستغربة مندهشة من جوابي واندفاعي قائلةً: "نورة.. لقد تغيّرتِ كثيرًا! أصبحتِ عقلانية ومنطقيّة أكثر، لاحظت هذا الأمر فيك واضحًا بعد الزواج!" لم تكن في الواقع تمتدح عقلانيتي، بل كانت تذمها، كانت ترى أنها سلبتني رِقةً عرفَتني بها، وعاطفةً رزينة؛ لا جيّاشة ولا ناضبة، فإذا بهذه العاطفة تُزحزح ويحل بدلًا منها عقلٌ وافر، ووقار لا مذموم ولا محمود.. إلا أنه ليس لأمثالي! لا لم تُمسخ مني تلك العاطفة تمامًا، ولكنها لم تُتح لها الفرص للخروج كثيرًا! والمرء يتطبّع بما يزاول من أعمال، وبما يعالج من أفكار، وبهما يتغيّر مزاجه وتتشكّل نفسه.. فحين تزوّجت أُلقيت عليّ المسؤولية إلقاءً وكأنها كانت ماءً أُهريق على وجهي فاستيقظت به من نومي بغتة بلا مقدمات، لا لم يكن حجم المسؤولية التي تقلّدتها كبيرًا بقدر ما كان معناها واسمها.. أن تصبح مسؤولًا فجأة.. أن تصبح اليوم أميرًا لاهيًا وغدًا تصبح ملكًا مسؤولًا، أن تؤسس أسرة فتسكن رمالك ويتصلّب طينك.. لتصبح جبلًا ترسو تحته الأرض ويستقر به المجتمع.. هي مسؤولية أيًا كان مقدارها! ثم إن هذه المسؤولية لا تقنع بمكانها ودورها فقط، بل لا بد أن يصيب معنى الحياة كله بالنسبة لك شيءٌ من بَلِلها؛ ستنظر للحياة بعين الجِد، وستسحب عليها قدماك بثقل، وفي الوقت ذاته ستجري.. وستركض.. وتحاول أن تلحق في عمرك الصغير خطوات الكبار وعقولهم، لا وقت لديك ! أنت الآن مسؤول، الوقت لن يكون طواع أمرك.. عليك بالمهمات والشاهقات.. لا تشغل نفسك بالتوافه، والنتيجة: عقلٌ يتضخّم ونضجٌ يسرع، وعاطفةٌ مسكينة تكاد تخرج رأسها من بينهما.

ليس الأمر بهذا السوء، فبحمدلله نهلتُ خيرًا كثيرًا؛ زاد إقبالي على العلم الشرعي ولم أزل منه في ازدياد والحمدلله، وأقبلت على غيره من العلوم النافعة الجادّة، ولكن في المقابل قصّرت في الكتابة والأدب وكادت تخمد نارهما في روحي.. لم أختر ذلك ولم أرده؛ فكلما اقتربت من الأدب كان يصدني عنه حِسٌّ متبلّد وطبع مُجدب، زاده عليّ قلة الممارسة للكتابة نتيجة لكمون عاطفتي وازدياد مساحة المنطق فيّ وحرصي الشديد على تقسيم وقتي وأيامي تبعًا لمسؤولياتي وأعمالي، والأدب يأخذ من الفوضى أكثر مما يأخذ من النظام، ويذوب في الماء أكثر مما يتخلّل في التراب! وحينما أريد العودة إلى الكتابة والأدب لا أرضى إلا أن أكون كما كنت وكما كان أدبي سابقًا مُشعًا زاهيًا سهلًا جاريًا، وأنّى يولد الإنسان تامًا مكتملًا؟! فأصبحتُ كما قال ابن المقفع: "الذي أرضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه"، فرأيتُ المحاولة ذُلًّا، والنقص عيبًا.. أعاذني الله وإياكم من وهم الكمال! ولكن بحمدلله مؤخرًا بدأت ينابيع الأدب تتفجر في بيدائي وأقاحيه الجميلة تزهر في روحي.


أعود إلى سيرة التغيير.. فحين يُقال بأنك تغيّرت سيُريبك هذا التغيّر، بغض النظر هل كان تغيرًا للأحسن أم الأسوأ ما دمت لم تختره بملء إرادتك.. نعم تغيّرتُ؛ وانساق كل شيء فيّ نحو هذا التغيير، كأنه القطيع الذي يلحق براعيه؛ مشاعري القديمة.. بريقها ولمعانها، غزارتها ورِيُّها، شغفها وانطلاقها، خيالها وأحلامها، طربها وغناؤها، قلقها واضطرابها، حزنها وقتامتها، كل تلك كانت تتبدّل نحو شكل آخر أكثر ثقلًا ونضجًا، كان هذا الأمر يحزنني، فحتى لو كانت تتغير للأحسن فإني لا أزال كما قال المتنبي:

خُلقتُ ألوفًا لو رجعتُ إلى الصِبا

لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيًا


نعم فأنا أخت الأُلفة ونديمة الحنين، حتى أني عزمتُ مرة إن رزقني الله بابنة سأسميها: "حنين".. حتى المشاعر التي عشتها والأفكار التي قلّبتها أحن إليها لمجرد أني لم أختر التخلي عنها.. والإنسان حين لا يصبح قادرًا على الاحتجاج فإنه يحنّ بصمت، يتكسّر حتى يلين، فيقف على أطلال كل ذكرى ويرسل الحنين موالًا جاريًا، وتجري الأيام، ثم يألف مشاعره الجديدة ليحزن إذا فارقها.

تغيرت مشاعري، ونضجت أفكاري وتبلورت معها شخصيتي؛ أصبحتُ أكثر صراحة ووضوحًا، لا يهمني ما يقول الناس عن أفكاري وسلوكي، على الأقل بقدر ما.. وكأن تعقّلي الذي ازداد يناقضه أن أخجل من بعض أفكاري وما أؤمن به، وكأنه أكسبني -بعد الله - صلابة لا يهمها رأي الناس فقط بل تُكسبها هيبة ومظهرًا أمامهم، وهذه من المفارقات التي لا يدركها كثيرٌ من الناس؛ فيتخلون عن مبادئهم هيبةً من الآخرين ولو اعتزّوا هم بأدنى ما يؤمنون به لهابَهُم الآخرون.. الناس يُريحهم أن يشبه بعضهم بعضًا، وفي الوقت ذاته يرمقون بإعجاب من خالفهم وأشبه نفسه لأنه يذكرهم بذواتهم المطمورة! والمؤمن الصادق لا يُباليهم باله ولا يُسلمهم عِقاله، بل حسبه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :" مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَسْخَطَ عليه الناس"، لم أكن خجلى هكذا طوال عمري، وأعني بالخجل هنا الخجل مما يقوله الناس من حولي عن بعض ما أعتقده ويخالفهم مما يخص القضايا الفكرية والأحكام الشرعية -سمّوه إن شئتم خجلًا أو جُبنًا :) - فحين كنت صغيرةً في الابتدائية؛ كنت مضرب المثل في الجرأة، لم أترك محفلًا أو إذاعةً إلا كنت المقدّمَة فيها مجربةً كافة الفنون من إنشاد وإلقاء وتمثيل.. كنت أحب تجريب نفسي في كل شيء وكنت أصلح لكل شيء :)، وما أكسبني تلك الجرأة إلا اندفاع ونزق طفولي يدور في فَلَك نفسه فقط ولا يهمه كلام الناس، ولأني كذلك كنت أدرس في المدرسة التي تعمل فيها أمي معلمة، فكان وجودها يكسبني ثقةً ودعمًا: "جريئة وموهوبة وابنة أ.سارة"، هكذا كان اسم أمي يُعد ميزةً من ميزاتي، ولكني حين انفصلت عن أمي ومرّت السنوات بعد ذلك بدأتُ الاستقلال برأيي وشخصيتي مخالفةً اهتمامات وتوجهات أقراني، فبدأت معها الانكفاء على نفسي وكأني أحدودب على أفكاري التي تتكون بداخلي كجنينٍ أخفيه عن العيان، أما الآن فحين اكتمل حملها وولدتُها صرت لا أخجل من إظهارها وملاحقتها وهي تتقافز وتشغب في كل مكان.


إن كان من دروسٍ تعلمتها في هذا العام فأهمها هو أن تطمئن نفسي بأقصى ما أستطيع، أن أكفّها كلما رأيتها هالعةً متوثبة ترومُ إصابة حكمة القدر في كل الأمور التي تصيبها، أن تهدأ قليلًا لتعرف أين تُجلس ضعفها وأين ترسل جموحها.. فمدّ الرقاب للأعلى انقطاعها، وتحديقها في الأسفل انكسارها! الدنيا بمشيئة خالقها لا بمشيتنا نحن.. فيوم يُسرٍ ويوم عُسر، ويوم صبر ويوم شُكر، والمؤمن من لا يُغرّ في اليسر، ولا يعاف في الصبر.. واليقين رُبّانٌ يرسو بالمؤمن على شاطئ الأمان، تعلّمت أن كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلّم- غُنية عن كل شيء، وبهما الميزان الكامل لكل شيء في الحياة بدءً من النفس ومرورًا بالعالم من حولنا وانتهاءً بأصغر ذرة في الكون، وأن من جعلهما وراء ظهره والتفت لثقافات وفلسفات وأفكار مغايرة كمن مَلَك نجمةً وزهد في السماء كلها! تعلمت أن الأعلى أعالي.. وأن القمة ذُرًى مختلفة.. وأن السعادة كالهواء تحيط بك من كل الجهات، تعلمت أن أرفق بنفسي وأن أكون وسطًا في كل شيء بلا وهمِ كمال أو جلدِ ذات، وأن الموازنة في الأمور هي سر الطمأنينة، تعلمتُ أننا حين نحدّق في امتيازات الآخرين ونرغب أن نكون هم، فقد يُحدّق الآخرون أيضًا في امتيازاتنا ويرغبوا أن يكونوا نحن! فككفتُ حينها من قلق المقارنات وتشتيت نفسي في صفحات هذه وتلك في مواقع التواصل المختلفة.. فكلُّ إنسان متميز، لأنه غُذّي بقصص ومشاعر وأفكار مختلفة قادرة على إحداث معنًى وإبداع مختلف، وكلُّ روحٍ تأخذ من الآخرين ما ليس لها تظن أنها تقتبس نورًا؛ وإنما هو في الحقيقة دخانٌ ونارٌ يخنقها ويؤذيها! تعلمت أن لا أحب تبسيط المعقّد.. ولا تعقيد المبسّط، بل أن تكون الأمور وسطًا بينهما، تعلمت أن لا أدّعي حسن الظن.. ولا أتقصّد إساءته، ولكن أن أطلب الفطنة وأن أتنبه للخداع ما استطعت، تعلّمت أن لا أتقنّع بالصمتِ ضعفًا وعِيًّا.. وأن لا أُطلق الكلام صراخًا ومجاراة، بل أحترس للكلام وأصون لساني خشية أن يقع في النهر الفاسد، تعلمت لا أتمدد في بحر الثقافة.. ولا أتقلّص في جدول التخصص، بل أن أكون نهرًا يأخذ من البحر ويصب فيه، ويشقّ لنفسه مجرًى محددًا.. تعلّمت أن الحياة بلا الله صفيرُ ريح يخلع قلبك، وأن القرب منه هو عين الأمان والسلام والحياة الطيّبة، وبه سبحانه وحده أتقدّم للحياة وفي الحياة 

..صابرة في ضرّائها شاكرةً في سرّائها.. وهو الربّ والمربّي والحفيظ والوكيل..

وكل عام أنا بخيرٍ ومع من أحب ♥️