الأحد، 21 مايو 2017

اللغة العابسة


بقدر ما أضحكتني هذه النكتة بقدر ما أغاظتني وأثارت حفيظتي، وكثيرًا ما تغيظني هذه النكت وأمثالها لأنها تصور العربية وكأنها لغة شدة وبأس فقط ليس فيها جانبٌ من اللين واللطف، متناسين ما تزخر به من جميل الكلام ورقيق القول.. من الأدب والشعر وسائر فنون الكلام التي تعزف أوتار الروح وتُراقص القلوب بما حوته من فتنة وجمال وعذوبة.. الحب في اللغة العربية مثلًا له ٦٠ مترادفة؛ هل لغةٌ أخرى في هذا الكون انهال على تربتها من غيمة الحب هذا الكمّ الغزير من المفردات والمترادفات ؟! وهل أتت هذه المفردات والمترادفات بلا سبب أو كانت نتيجة الصدفة؟ بالطبع لا! لقد أتت من قلوبٍ مستشعرة وأحاسيس رقيقةٍ دقيقة ضمّتها صدور أسلافنا العرب الأقدمين فجعلتهم يفصّلون في الشعور الواحد ويُفرّقون فيما يضمّه من أحاسيسٍ تندرج تحته، فالعشق مثلًا يعني : "فرط الحب وكثرته وعُجب المحب، وهو حبٌ مختلط بشهوة"، والغرام يعني:"التعلّق بالشيء تعلقًا شديدًا لا يمكن الشفاء منه"، والود يعني: "الحب الخالص اللطيف الرقيق"، والوجد يعني: "دوام التفكير في المحبوب" وغيرها من المترادفات والفروق بينها مما يطول الحديث عنه؛ وهذا التفصيل البليغ والدقة العظيمة في التعبير عن الحب وعواطفه لم تكن لتوجد ويُعبّر بها لولا تلك النفوس العربية الحسّاسة الرقيقة..ثم يأتي البعض بعد ذلك ليحصرهم ويصوّرهم جهلًا أو عمدًا بعبارات القسوة والجلافة والصلف


يكفيك أن ترى بعض الوسوم أو "الهاشتاقات" في تويتر لتعرف ما أعني..فهناك بعض الوسوم التي يتخذها البعض للفكاهة والتي تتحدث عن الجاهلية مثلًا تجد أغلب ما يُكتب بها عبارات من أمثال :"هيا لنتبارز بالسيف"، "ثكلتك أمك"، "سأدقُ عنقك" ، "تعال يا أبا جهل"، "تعال يا أبا لهب" وغيرها من أمثال هذه العبارات، صحيح أن كثيرًا من الأحوال السائدة في الجاهلية توحي بمثل هذه الكلمات والعبارات بسبب الغزوات والحروب والوقائع والعداوات الكثيرة بين العرب في تلك الفترة، لكنها ليست كل شيء! ثم لماذا يتكرر اسم أبي جهل أو أبي لهب فقط وكأن زمان الجاهلية كله لم يوجد به إلا أبو جهل وأبو لهب :) ؟


أنا فقط أطلب من هؤلاء أن يقرأوا مثلًا لبعض شعراء المعلّقات وغيرهم من شعراء الجاهلية، أو أن يقرأوا فقط مقدماتها أو ما اصطُلح على تسميته بـ "النسيب" حيث يستهل الشاعر قصيدته بذكر محبوبته والوقوف على أطلال ذكرياته وأيامه معها، والتغزل بها وبمحاسنها، فيُثار ويُثير.. ويبكي ويُبكي.. ويرَى ويُرِي.. أريدهم فقط أن يقرأوا هذه المقدمات وغيرها من قصائد الحب والغزل الجاهلي ويتلمسوا روعة المشاعر وعذوبة المعاني والكلمات، على سبيل المثال مقدمة قصيدة الشاعر :"المُثقب العبدي" الرائعة والتي أراها من أجمل أبيات الحب الجاهلي بل من أجمل أبيات الحب والفراق على الإطلاق والتي يقول فيها مناشدًا حبيبته:



أفاطمُ! قبلَ بينكِ متِّعيني
ومنعكِ ما سألتكِ أنْ تبيني
فَلا تَعِدي مَواعِدَ كاذِباتٍ
تمر بها رياحُ الصيفِ دوني
فإنِّى لوْ تخالفني شمالي
خلافكِ ما وصلتُ بها يميني
إذاً لَقَطَعتُها ولقُلتُ: بِيني
كذلكَ أجتوي منْ يجتويني

 
أو أبيات النابغة الذبياني التي يقول فيها:


نُبئتُ نُعمًا ، على الهجرانِ ، عاتبةً ؛
سَقياً ورَعياً لذاك العاتِبِ الزّاري
بيضاءُ كالشّمسِ وافتْ يومَ أسعدِها،
لم تُؤذِ أهلاً، ولم تُفحِشْ على جارِ
و الطيبُ يزدادُ طيباً أن يكونَ بها ،
في جِيدِ واضِحةِ الخَدّينِ مِعطارِ
ألَمحَةٌ من سَنا بَرْقٍ رأى بصَري،
أم وجهُ نُعمٍ بدا لي ، أم سنا نارِ ؟
بل وجهُ نُعمٍ بدا ، والليلُ معتكرٌ ،
فلاحَ مِن بينِ أثوابٍ وأستْارِ
نَظَرَتْ بمُقْلَةِ شادِنٍ مُتَرَبِّبٍ
أحوى ، أحمَّ المقلتينِ ، مقلدِ 
صَفراءُ كالسِّيرَاءِ، أكْمِلَ خَلقُها
كالغُصنِ، في غُلَوائِهِ، المتأوِّدِ 

لو أنها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ ،
عبدَ الإلهِ ، صرورة ٍ ، متعبدِ 

لرنا لبهجتها ، وحسنِ حديثها ،
ولخالهُ رشداً وإنْ لم يرشدِ 


أو قصيدة عنترة بن شداد التي يقول فيها:

 
رَمَت الفؤادَ مليحةٌ عذراءُ
بسهامِ لحظٍ ما لهنَّ دواءُ

مَرَّتْ أوَانَ العِيدِ بَيْنَ نَوَاهِدٍ
مِثْلِ الشُّمُوسِ لِحَاظُهُنَّ ظِبَاءُ

فاغتالني سقمِى الَّذي في باطني
أخفيتهُ فأذاعهُ الإخفاءُ

خطرتْ فقلتُ قضيبُ بانٍ حركت
أعْطَافَه ُ بَعْدَ الجَنُوبِ صَبَاءُ

ورنتْ فقلتُ غزالة ٌ مذعورة ٌ
قدْ راعهَا وسطَ الفلاة ِ بلاءُ

وَبَدَتْ فَقُلْتُ البَدْرُ ليْلَة َ تِمِّهِ
قدْ قلَّدَتْهُ نُجُومَهَا الجَوْزَاءُ

بسمتْ فلاحَ ضياءُ لؤلؤ ثغرِها
فِيهِ لِدَاءِ العَاشِقِينَ شِفَاءُ

يَا عَبْلَ مِثْلُ هَواكِ أَوْ أَضْعَافُهُ
عندي إذا وقعَ الإياسُ رجاءُ

إن كَانَ يُسْعِدُنِي الزَّمَانُ فإنَّني
في هَّمتي لصروفهِ أرزاءُ

 
وغيرها وغيرها من الأشعار والحكم والمواعظ والأقوال التي لا تُعنى بموضوع الحب فقط، بل تُعنى بكل ما يمس النفس الإنسانية ويهذبها ويرققها ويسمو بها..
 
وقد يستوقفني البعض هنا ويقول لي بأن لا حاجة لي في سرد الحجج وضرب الأمثلة التي تُدلل على اشتمال العربية لجانب رقيق لطيف غير ما رُوّج عنها، لأن هذه أمورٌ معروفة لا يُنكرها العقل؛ فالعربية وأي لغةٍ في الدنيا هي ترجمانٌ لما يرد للإنسان من عواطف ومشاعر وأفكار خيّرة أو شريرة، جميلة أو قبيحة، رقيقة أو قاسية؛ فطبيعي وبديهي أن يكون للعربية كما لغيرها من اللغات جانبٌ آخر يناقض الشر والقبح والقسوة بناءً على أن اللغات صفةٌ إنسانية.. وهذا صحيح، وأنا لا أسوق الحجج والأمثلة تحذلقًا أو تفلسفًا أو لأجل أن أثرثر، بل لأن الأمر هنا مختلف لكونه يتعلق باللغة العربية "الفصحى" بوصفها لغةً تُحارَب، ولغةً مغيَّبة ابتعد أبناؤها عنها وجهلوا عنها الكثير..فمّما يغفل عنه البعض أو يجهلوه أن اللغة العربية ما زالت تتعرض منذ عهد الاستعمار الأجنبي لبلادنا العربية إلى العديد من الهجمات التي تهدف إلى تحييدها شيئًا فشيئًا عن المجتمع العربي والمنابر الفاعلة فيه كالمدارس والجامعات، وإحلال اللغات الأجنبية مكانها حتى تقلّص دور العربية وأصبح محصورًا في المؤسسات الرسمية كالوزارات. وهذا التحييد لعبت في تكوينه عوامل مختلفة عدة نجحت في تصوير العربية وكأنها لغة تخلف ورجعية وأن الإنجليزية وغيرها هي لغة العصر والرقي ولغة الحضارة الغربية الصاعدة والكاسحة، فأثّر هذا الأمر كثيرًا في نظرة النشء للغة العربية مع جهلٍ بأهميتها وعظمتها وجمالها وجلالها وتاريخها المعرق الكريمِ المحتِد، وقد أشار الأستاذ جرجس سلامة إلى هذا الأمر في كتابه (تاريخ التعليم الأجنبي في مصر) بقوله:
 
"وزاد من خطورة كل ذلك أن جميع المدارس الأجنبية دون استثناء، قد أسهمت بنصيب كبير في إضعاف اللغة العربية... فهي تُلقي في خِضّم الحياة المصرية كل عام من ينظرون إلى غيرهم من طبقات المتعلمين في المدارس الحكومية الوطنية نظرةً متعالية، وينظرون إلى اللغة العربية نفس النظرة".
 
وساعد هذا التشويه الذي تتعرض له العربية وهذا الجهل بها في ترويج بعض الصور السلبية عنها وتنميطها وجعلها العنوان الأبرز للعربية خاصةً لمن يجهل بها؛ لهذا التجأتُ إلى إبراز بعض الأدلة والشواهد المؤكدة لجمالية هذه اللغة وعذوبتها، ولولا الاضطرار وخصوصية الحال لما تعنّيتُ هذا الطريق إذ إنه بدَهيٌ ومعروف كما اتفقنا.
 
سيرى البعض أنني جادّةٌ فوق اللزوم،وأن المسألة ظرافةٌ وضحك لا أكثر..لكن صدقوني أن هذه "النكات" ومثلها عرض من أعراض المرض وأثر من آثاره، والمرض هنا هو تشويه اللغة العربية، وهو مرضٌ خطير قد لا يرى البعض خطورته أو يتصاغرُها، ولكنه فعلًا كذلك لأن من نتائجه اهتزازُ الذات والخجلُ من الهوية، ويؤدي ذلك شيئًا فشيئًا إلى انسلاخ الهوية بالكامل..يكفيك من أعراض هذا المنتشرة والواضحة في زماننا هذا أنك قد تطلب مثلًا من أحدهم أن يتكلم بالفصحى ليصدمُك بحجم التردد والخجل الظاهرِ على وجهِه والتلكؤ والتلعثم الذي يجودُ به لسانُه وهو الذي تربّى على "أفلام الكرتون" القديمة التي تتحدث بالفصحى وكان دائمًا في صِغره يحاكيها ويقلّدها، وهو فوق ذلك المسلم الذي يقرأ القرآن العربيّ المبين دائمًا! فماذا حدث وما الذي تغيّر ؟!! ..المسألة عند هذا وأمثاله ليست جهلًا أو أُميّة، المسألة هنا خجلٌ من لغة وهوية وثقافة عربية.. صدقوني لقد قابلت كثيرًا جدًا من أمثال هؤلاء الذين كانوا في صِغرهم أو ماضيهم طلقاء الألسن بالعربية ومحبين للتحدث بها ثم لما كبروا واستوعبوا فاجأهم الواقع وزعم لهم أن زمان العربية ولّى؛ فأصابهم التناقض وهذا الخجل الذي يُبطن عكس ما يُظهر! 
أخيرًا..ما أريد قوله أن مُعظم النار من مُستصغر الشرر، وأن هذه النكات وما يشابهها تؤدي إلى انطباع صورةٍ سلبية عن العربية في أذهاننا، وهذا يقود إلى انتهاك قدسية اللغة وعظمتها وجلالها ومن ثمّ إلى تهتّك الهوية والذات الثقافية التي تُعد اللغة ركنًا ركينًا من أركانها، فلا يجب أن نستهين بهذا الأمر..