السبت، 10 يونيو 2017

"لستُ أدري.. لستُ أدري!"






"قيل لأحدهم: ما أكثرَ ما تشُك! فقال : مُحاماةً عن اليقين!"

 

تأثرت بهذه المقولة مُذ قرأتها وكنت أتّبعها خاصةً في بعض ما أقرأ وأقرّر من آراء فكرية وربما معرفية، ليس إيمانًا بالشك أو جدواه ولكن محاماةً لليقين ودفاعًا عنه من أن يدّعيه أيّ زاعم..إلى أن اكتشفت أن كثرة الشك تُخل بميزان العقل لاحقًا، وتجعله متلجلجًا مهتزًا مترددًا يشك حتى بالحق الواضح والباطل البيّن.. وربما صدق فيه قول الشاعر:

 

"وكيف يصحّ في الأفهام شيء

إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ؟!"

 

إلا أنها مقولةٌ مقتطعةٌ من سياقها وقد يكون صوابُها وتمامُ سدادها إذا عرفنا سياقها الذي قيلت فيه.. فقد يكون الشك نافعًا ومهمًا إن لم يكن في الأمور الواضحة الصريحة أو إن كان في الأحاديث والمقولات والأخبار والقصص التي فيها خللٌ في نقلها أو متنها، أو في النظريات التي ظهرت للمرء دلائلُ تنقضها، أو في أي شيء يقف عنده العقل السليم والنقل المتواتر متعجّبًا مستفهمًا.. أما أن تشكّ في الشيء هكذا بلا دليل أو أساس متبعًا أوهام عقلك الشكّاك فأنت لست عاقلًا كما تظن، بل أنت أحمقُ وسفيه تشبه المجانين والمُخالطين وتنحُو نحْوَهُم..ثم من هو عقلك هذا الذي جعلته معيارًا يفرق بين الحقائق والأكاذيب ؟ ومن الذي شهِد له وزكّاه بالتفكير الصائب والرأي الصحيح ؟ إن صدَق عقلك مرة؛ فهو يخطئ مرات، وإن شهدتْ بتفوقه جماعة؛ سفهّته جماعات.. فرفقًا لا تغتر بعقلك وتودي به إلى المهالك؛ فلست سوى ذرةٍ صغيرة من أجرام وسماوات وأكوان أكبر وأعظم! ثم إن حياتك يا عزيزي أقصرُ من أن تقضيها وأنت تُفتّتها قطعًا وتشظّيها شَّذرًا بين أزقة الشك الضيقة.. حياتك لا ترجو منك إلا أن تكون صاحب ثباتٍ في المبدأ والرأي والفِكر والنظر، وأن تبُتّ وتجزم في كل الأمور والمواقف ما دامت لا تحتملُ غير ذلك..ثم لمَ كلُّ هذا التشكك والتحيّر والتحجّج بالمحاماة عن اليقين وكأن اليقين صعبٌ لهذه الدرجة؟! الحياة بسيطة وإن تعقّدت أحيانًا، وسهلةٌ وإن تعسّرت أحيانًا، ومكشوفةٌ وإن توارَت أحيانًا..الحق أبلج والباطل لَجلَج؛ والعقل عينٌ ترى كل ذلك وتبصره فتصدقه أو تكذبه.. الله قد جعل القرآن والسنة تبيانًا وخبرًا لكل شيء وأمرك أيها المسلم أن تأخذهما بقوة لا اهتزاز؛ فالحلال بيّن والحرام بيّن..المؤمن القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، بل الإنسان القوي خيرٌ من الإنسان الضعيف! .. دَع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك! أي دَع كل ما يثير في عقلك الشكوك ويجعل نظرك ورأيكَ مُبهمًا..فلا تسلك طريقًا يغشاه الضباب ويواريه الغموض بل اسلُك طريقًا تجلو فيه الشمس ويسطع ضوؤها على عينيك.. ما كان العزمُ في شيء إلا زانه، وما كان الترددُ في شيءٍ إلا شانه.. اليقين له مقامٌ معلوم والشك له مقامٌ معلوم، وإن طغى أحد المقامين عن حده أضرّ بالعقل، كما يُضرّ الجسم من طغيان صنفٍ من الطعام على باقي الأصناف. وكما قال الشاعر :

 

"إذا كنتَ ذا رأيٍ فكُن ذا عزيمةٍ

 فإن فساد الرأي أن تتردّدَا!"

 

رزقنا الله وإياكم العزيمة والسداد في الأمور كلها وأرانا الحق حقًا ورزقنا اتّباعه، والباطل باطلًا ورزقنا اجتنابه..