الأربعاء، 31 يناير 2018

الدنيا ليست لأحد..



يقول تعالى في سورة الإسراء :

 مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18)

وجاء في الوسيط لطنطاوي في تفسير هذه الآية :

 

"أى : من كان يريد بقوله وعمله وسعيه ، زينة الدار العاجلة وشهواتها فحسب ، دون التفات إلى ثواب الدار الآخرة ، ( عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ) أى : عجلنا لذلك الإِنسان فى هذه الدنيا ، ( ما نشاء ) تعجيله له من زينتها ومتعها . .

وهذا العطاء العاجل المقيد بمشيئتنا ليس لكل الناس ، وإنما هو ( لمن نريد ) عطاءه منهم ، بمقتضى حكمتنا وإرادتنا .

فأنت ترى أنه - سبحانه - قد قيد العطاء لمن يريد العاجلة بمشيئته وإرادته "

 

أي أن من يريد الدنيا ويسعى لأجلها قد يُعطى ما يسعى إليه وقد لا يُعطاه، والمفارقة أنه بعد هذه الآية مباشرة قال الله تعالى:

وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)

أي أن من أراد الآخرة، وقصد بأعمال البر وجه الله تعالى فأولئك سعيهم مقبول ومشكور عند الله وسيجازيهم به؛ مهما كان عملهم قليلًا أو كثيرًا، انتفع به الناس أم لم ينتفعوا..شكروا أم أساؤوا..جحدوا أم اعترفوا .. مهما كان هذا العمل، حتى لو كان مجرّد نيّة لم يلحقها عمل، يكفيك أنك توجهت لله بها وقصدته، وهو سبحانه سيجزيك هكذا أو هكذا..

على عكس إرادة الدنيا؛ فإنها قد تؤتيك ما تحب، أو تؤتيك غيره، بل قد تؤتيك أفظع منه وما لم تحسب له حسابًا!

هنا دار في خلدي هذا التساؤل: إذا كانت الدنيا أهون من جناح بعوضة كما ورد في الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

" لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ "

فإذا كانت الدنيا بهذا الهوان عند الله فلمَ لا يعطي كل طلّابها ورُغّابها ما يحبون؟ لم يقصر عطاؤه منها بعضهم ولا يعمّهم كلهم ؟ أوَ ليسوا جميعًا يحبونها ويريدونها هي فقط دون الآخرة ؟ فلمَ إذن لا يرغب عنهم جميعًا ويزهد بهم فيعطيهم ما أرادوا ثم يوم القيامة يحاسبهم الحساب الشديد ويعاقبهم العقاب الأليم على ما اقترفوه؟ 

 

ولله في ذلك الحكمة؛ ولكني أظن أن الجواب على ذلك راجعٌ إلى أصل الدنيا وحقيقتها وقدَرها التي خُطّت به في اللوح المحفوظ.. وهي أن الدنيا ليست دار ثبات أو إطلاق أو دوام، فهي دارٌ متغيرة متبدلة لا تَفي لأهلها ولا تُخلص لعشّاقها، لها في كل يوم شأن لأنها دار ابتلاءٍ واختبار؛  فقد يبذل لها اثنان نفس البذل ويتسابقان نحوها بنفس السرعة لكنها قد تعطي هذا وتحرم ذاك، أو قد تعطيه اليوم وتحرمه غدًا، وتحرم الآخر اليوم وتعطيه غدًا، على عكس الآخرة التي لا يُظلم من عمل لها ولو فتيلًا عند الله، فأصغر الأعمال والنيات المجرّدة يُجازى بها العبد..

 

إذن فالعطاء الدنيوي المقصور الوارد في الآية أعلاه هو امتحانٌ يمتحن به الربّ تعالى بعض خلقه ببعضهم الآخر:

 

* ففيه امتحانٌ للمحرومين من العصاة حين يروا من أعطاهم الله نعيم الدنيا من العصاة مثلهم أو من غيرهم؛ فحين يقارنوا حالهم بهم ويروا ما في الدنيا من تفاوت الأحوال وتفاضلها قد يُسخطهم ذلك من الحياة ومن أقدار الله لما هم عليه من ضعف الإيمان..لكن هذا السخط قد يكون مدعاةً لتنبههم نحو الغاية وتفكّرهم بها، وهي أن حقيقة الدنيا كذلك، وإذا كانت تلك حقيقتها فلمَ هي كذلك ؟ من قرّر تلك الحقيقة ووضعها ؟ وهل الدنيا هي كل شيء حتى يستوي فيها أحيانًا الأخيار والأشرار..الساعون والقاعدون..المظلومون والظالمون؟ ولماذا تتخالف أقدار الخلق في الدنيا ولا تجري على قانون واحد؟ وهكذا حتى يصل بتلك الآلام والأسئلة إلى الله والدار الآخرة؛ و"ربما كان مكروه النفس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب" كما قال الشاعر..

 

* وفيه أيضًا امتحانٌ للمؤمنين؛ حين يروا أن الحرمان من الدنيا موجودٌ عند الكفار والمؤمنين على حدٍ سواء؛ وكذلك العطاء منها موجودٌ لدى الكفار والمؤمنين على حدٍ سواء، فيتيقنوا أن من هوان الدنيا عند الله أنه يسوّي فيها بين الكافر والمؤمن، وهذا لا يكون في الآخرة حيث المجازاة الحقيقية والحياة الدائمة الخالدة.

 

وفوق ذلك كله؛ قد يكون هذا العطاء الدنيوي استدراجًا وتمهيدًا لعذابٍ شديد :

"ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورا"

والحكماء عامةً والمؤمنون خاصةً لا تبهرهم السطوح ولا يستخفّهم العاجل عن الآجل، ويتفحصون مآلات الأمور قبل الولوج في أوائلها..ولينظر كل واحد حاله والنعم التي يغدقها الله عليه..هل هي استدراج ؟ أم هي جزاءٌ معجّل نظير عمله الطاعات وشكره النعم وقيامه بحق الله فيها؟ أم هي امتحان ليشكر أم يكفر؟ :
"قل كلٌّ يعمل على شاكِلته فربُّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا " كما قال تعالى.