السبت، 10 أبريل 2021

بين مدينتين


 

مرّ عامٌ ونصف تقريبا على زواجي وانتقالي للعيش من "الخرج" المدينة التي ولدت وعشت فيها ومنها أهلي إلى "الرياض" عاصمة البلاد ومدينتها الكبرى التي لا تنام، وأنا لا أقيس الوطن بالبلاد التي ننتمي إليها أو الجنسية التي عُلّقناها أو المدن والقرى التي وُلدنا فيها أو غيرها من أشياء اكتسبناها ولم نخترها.. نعم كل تلك فيها معنًى من الوطن ..ولكن الوطن الحقيقي برأيي هو ما حوته حدود صدرك وجرت فيه عروق دمك وبُسطت له أرض قلبك وهبّت عليه أرواحٌ من روحك.. الوطن هو الشعور الذي يسعك والحب الذي يدفئك والسكينة التي تمدّك وتمتدّ بها ولو كان مداها وأقصاها الحي الذي تعيش فيه أو حتى جدران بيتك أو غرفتك، الوطن هو صوت أبيك وابتسامة أمك ومناكفة إخوتك واجتماع قرابتك وضحكات أصدقائك وشمسٌ تداخلك أشعتها كل صباح وعصافيرٌ تضج قرب نافذتك وليل تغشاك سكينته وسَحَرٌ تُجلّلك قدسيته وأريكتةٌ ألِفتَ القراءة عليها ورفوفٌ تُغريك كُتبُها وطعامٌ مذاقه حنانُ أمك وقهوة نشوتُها تحلُّقُ عائلتك وطفولة حيّة وفتوةٌ نزقة مستوفزة وحاضرٌ طامحٌ وما هو أكثر وأكثر مما استوطنك قبل أن تستوطنه ومما هو "وِطـاء" ليّنٌ رحْـب قبل أن يصير "وطن"؛ لذلك نحب المدن ونحامي عنها، ولولا ذاك لاستوت "الخرج" مع باقي المدن، ولم يكن لها من فضيلة عندي سوى أنها منبت عائلتي وموطن أجدادي، وهي مع ذلك فضيلةٌ لها حنينٌ يعزف على وَتَرٍ لا ضاربَ لعوده سوى أنه ممتدٌ كدماء الأجداد السارية في عروقك، ولو تأملت المعنى الذي ذكرته لوجدت أنه وحده الذي يزن لفظ "الوطن" وزنًا لا زيادة فيه؛ فكم من شقيٍ يعيش في وطن آبائه وأجداده ودار طفولته وصباه وهو مع ذلك يخطو فيه على مثل الشوك؛ ينزف دمه ويُنكّد عيشه، وكم من سعيد يعيش في وطن آخر غير منبت أهله وأصله، وهو مع ذلك على مثل ريش النعام؛ ليّنٌ وطاؤه رغِدٌ عيشه.. هذا هو المعنى الخاص للوطن، وهو ألصق بالفرد من المعنى العام؛ والمعنى العام هو ما تعارف عليه الناس بينهم؛ وهو قطعة الأرض الكبيرة المترامية الأطراف التي يعيش فوقها مجتمع من الناس اتصلوا بينهم برابطةٍ ما، والدين أو اللغة أو الثقافة والهوية هي العُرى الأكيدة التي تشدّك لهذا الوطن، وبحسب وجودها فيك بحسب وجود الوطن فيك، والأغاني والقصائد والأعياد الوطنية بواعثٌ من أخطر وأوهى البواعث في آن لمثل هذه المعاني الوطنيّة، ولو عُدمت هذه البواعث في بعض الأوطان الفاسدة لانقطعت أسباب الانتماء بينها وبين مواطنيها، وعادت محبتهم سبابًا، واستيطانهم اغترابًا!


أحب في "الخرج" مزارعها التي تحوطها، تربتها الرطبة، وهواءها الذي يتنفّس الزروع.. زافرًا رائحتها خلَلَ بعض أرجاء المدينة، نخلها الوفير، وتمرتها الطيبة، وعيونها السحيقة التي يتعب المطر في ملئ أغوارها؛ أرضٌ يكتب الماء قصتها ويصوّر معالمها، فكانت تسمى سابقًا بـ "السيح" وهي الآن "الخرج"؛ والسيح مأخوذ من سيحان الماء من عيونها، والخرج من خراج الأرض من الزروع، وكلا الاسمين وجهان لصورة واحدة هي النبع والخضرة، أحب فيها مدنيّتها التي لا زالت منقسمة بين الجِدّة والانفتاح، والتقليد والمحافظة.. تشدّها إلى الأول ضرورةُ الزمن السائر، وتبقيها على الثاني ضرورة الهوية والماضي الحاضر، يدعوها إلى الأول قربها من الرياض وتردد أهلها عليها، ويثبتها على الثاني أنها لا زالت تلك المدينة التي تخفي في داخلها طباع القرية.. فلا هي تلك، ولا هي تلك.. أحب أنها مسقط رأسي وملعب طفولتي ومدرج شبابي وتراب بيتنا وموطئ قدَمي والدَيّ وكفى، وإن لمعاهد الصبا وذكرياته لصوقًا بالقلب وأطلالًا لا تملك إلا أن تقف عندها يموج بك الشوق والحنين.. وإن عشنا فيها أيامًا صعبة ومسّنا فيها الضرّ :

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدًا لأول منزلِ


أحب في بيتنا اتساعه بالحب قبل اتساعه بالمكان، وحبوره بالطمأنينة قبل حبوره بالنور:

أحبِب فيغدو الكون قصرًا نيرًا

وأبغض فيمسي الكون سجنًا مظلمًا


ويقال أنه حين ضاق بميسون الأعرابية قصرُ معاوية بن أبي سفيان الفسيح وتمنّت العودة إلى خيمتها النائية في البادية أنشأت تقول أبياتًا من ضمنها:

وبيتٌ تخفقُ الأرواح فيه

أحب إليّ من قصرٍ مُنيفِ!


فطلّقها معاوية وعادت إلى خيمتها مغتبطة جذلى.. إنما يعمر مسكنَ الإنسان نفسُه؛ فإن نهضت فيه نهض، وإلا انهدّ وتقوّض!

وأحب في بيتنا غرفتي.. تلك الجنة الصغيرة المبنيّة من رخامٍ وجدار! غرفتي التي تعاقبت عليها فصول نفسي وحُفرت فيها أعماقها وأغوارها.. وسادة دموعها ومخدع آمالها وأريكة تأملها ونافذة فكرها وخيالها.. غرفتي المفتوحة على الشرق فهي تشرق مع الشمس؛ وقد عببتُ من وحي هذا الإشراق ومعناه الكثير، وامتزج ضياؤه مع معنى اسمي "نورة" فشكّل في نفسي شمسًا أخرى لا ترضى بالأفول، وإن دارت عليها كُرة الحياة دورتها يُعزّيها أنها ستشرق من جديد. كان من عاداتي في بيتنا والتي لم أنقطع عنها حتى الآن المشي قبل الغروب في الفناء وترديد الأذكار والتسابيح مع الطير وتحت السماء المتموجة بصُفرة الأصيل.. لحظاتٌ ساحرة مليئة بالبهاء والجلال، وخفّةٌ في النفس كخفّة ذلك النسيم الذي اشتبه عليه أمرك: أأنت ريشة أم إنسانٌ طائر؟ ليحملك معه! تلك الذكرى هي كالشذرة الذهبيّة من جواهر تلك الذكريات.

يقع بيتنا في طرف الخرج، أو في ضاحيتها تقريبا، في حيّ تكثر فيه الأراضي الفارغة إذ لم تعمّر بيوته كلها بعد، وعلى بعد كيلومترات منه تقع مزارع غنّاءَ بالنخيل الباسقات، كان لهذا الموقع أثره في ازدحام سمائنا بالعصافير، وفي الهواء الذي نتنفّسه ونقائه وهبوبه ورائحته المنعشة أحيانًا.. حتى إن اسم حيّنا "حيّ الورود"؛ فكأن زكاء الهواء نسيمُ بستان مترعةٌ أرضه بالورود. أزعم أن لذلك الجو الذي كنت أعيش به أثره في شخصيتي وأدبي، والإنسان يتطبّع بما يحيطه أيضًا، والرافعي يقول:

"وإنما قوة الشعر في مساقط الجو، ففي كل جوّ جديد روح للشاعر جديدة؛ والطبيعة كالناس: هي في مكانٍ بيضاء، وفي مكان سوداء، وهي في موضع نائمة تحلم وفي موضعٍ قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشدّه إلا إذا أطعمته مع صنوف الأطعمة اللذيذة المفيدة ألوانَ الهواء اللذيذ المفيد" 


ثم تزوجت وانتقلت للعيش في الرياض تلك المدينة المضطربة اضطراب الطريق في الجبال.. صاعدًا ونازلًا،  لا تهدأ، متفجرة بالناس.. وبالفرص والأرزاق والترفيه كذلك، وقد أخذتُ من طبعها الذي لا يهدأ طبعًا لحياتي وأسلوبي بعد الزواج إذ أصبحتُ سيدة منزلٍ مستقل وربّة أسرة جديدة بإذن الله، فزاد جهدي ومسؤولياتي وأصبحت في وقتي ساعية بين أعمالي المختلفة. وحين افتتحتُ حياتي الزوجية في بيتي الجديد كان من أصعب ما واجهته هو نقل الإلف الذي صحبته والتناغم الذي راقصته والقرار الذي تنعّمته في/ من بيت أهلي إلى عشي الصغير هذا.. لم يكن الأمر سهلًا لفتاة ألوفةٍ و(بيتوتيةٍ ) مثلي تُكنّ الوفاء لأصغر شيءٍ أحبّته وصاحبَته زمنًا! كنتُ أبحث في عشّي الصغير عن زوايا بيتنا.. عن جدرانه وأنواره الشمسيّة الداخلة من فتحاته المتعددة .. عن أشياء كثيرة فيه! ولكن الزمن مرّ، ويومًا بعد يوم كنتُ أعقد مع الأشياء الجديدة صداقةً.. فإلفًا.. فتعلّقًا.. فوفاءً .. فجمالًا وإحساسًا فريدًا مختلفًا! أن أكون سيدة منزل مستقل وهذا المنزل هو (مملكتي) أنا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.. ثم أن تكون هذه الوظيفة لها ما بعدها إذ ستثمر بإذن الله أبناء وأسرة، ولها ما قبلها ومعها وبعدها : زوجٌ وحبيب وشريك قلبٍ وحياة بإذن الله.. أنتِ له وهو لك كشجرة يُستظلّ بها أو يُجنى من ثمرها.. بردًا في الضرّاء وغدقًا في السرّاء؛ أن أكون في كل ذلك هو هبةٌ إلهية وعطاءٌ ورزقٌ جميل! 

أعطاني الزواج أشياءً قد لا أتحصّل مثلها في العزوبية؛ أولها أني أحببتُ الطبخ كثيرًا وكأني ولدتُ في المطبخ! كنت أطبخ في بيت أهلي ولكن ليس بصفة مستمرة وبمساعدة الخادمة، فضلًا أني كنت كثيرًا ما أفعله إرضاءً لأمي ليس إلا، ولكن حين تزوجت مارسته أولًا على طريقة :"إذا كنت مُجبرًا فاستمتع" ثم هداني الله سُبلَه وأحببته وأدركت أنه فنٌّ وذكاء يُتقن بالإحساس ويلَذّ بالحبّ.. ثم أي شرفٍ أحسنُ من أن تدلّل بطنك؟ ثم تكون بعد ذلك أنت من صنع هذا الطعام اللذيذ؟ :)، ومهارات منزلية واجتماعية عديدة أزعم أني لم أكن لأكتسبها وأنا فتاةٌ منزوية في ظلّ والدَيّ.

في كنف هذا التغيير الظرفي والحياتي تغيّرت شخصيتي واهتماماتي؛ حتى قراءاتي وميولي العلمية تغيرت بدرجةٍ ما، وقد فصّلت شكل هذا التغيير هنا، ولا يُلام المرء على ذلك ولا يُستغرب، بل الغرابة أن يكبر عمرك وتتلقّفك الظروف وتمرّ عليك الأحوال وأنت ثابتٌ على حالك، وهذا لا يدل على صلابتك كما تزعم وتكابر، بل يدلّ أنك خشبة أو جدار لا بشر وإنسان ! حين أصبحتُ زوجة أصبحت اهتماماتي وميولي قويمة كالمسؤولية التي تقلّدتها والميثاق الغليظ الذي صرت طرفًا فيه؛ فكان لذلك أثره على الأدب والكتابة.. أصبحتُ منظّمةً وجادّة أكثر، والأدب مُنسرحٌ وليّنٌ أكثر..  فتغيّرت على الأدب وتغيّر هو عليّ؛ صرتُ أمكث المُدد الطويلة لا أمطر منه قطرة، وإن جاءت فهي واحدة لا تروي الغليل، أو يجيء غيثه معه ظلماتٌ وبرق ورعد؛ تقصف أفكارُه أو تخطف الأبصارَ حُجَجُه، ليس له من المعنى الرقيق والإحساس الجميل إلا قطراتٌ تتساقط عليك هنيهة قبل أن يروعك مرة أخرى صوت رعده وضوء برقه.. وهذا الأمر له حسناته كما له سيئاته.


وبعد، فإن سألني سائل: أين تجد نورة نفسها وأين تلقي عصا روحها فتقول أن هذا هو وطنها: الخرج أم الرياض؟ هذا البيت أم ذاك؟ 

مرة أخرى: لماذا نضيّق معنى الوطن ونحصره في بقعةٍ معيّنة وصورة شاخصة وكأنه لفظٌ خلَعَ معناه أو قصةٌ مُسحت شخوصها أو خبرٌ أُهملت حقيقته؟ ألا يكون معناه أكبر وأصغر في آن؟ ألا يكون يكون واقعًا في روح الإنسان قبل أن يقع في الخريطة .. فيكون وطنًا متنقلًا يحمله معه أينما يذهب؛ فروحه تلقي على الموجودات انعكاسها، وتتجاذب مع أشباهها هنا وهناك فيتحقق له وجودٌ ووطنٌ أينما يكون؟ نعم.. كلهم أهلي، هناك حبيبٌ وهنا حبيب، وأنا لكليهما أنتمي.