الاثنين، 25 ديسمبر 2017

تأملات شافعيّـة

 
 
في البرنامج الرائع #مساق ؛ وفي باب العبقريات الذي استمتعت به أكثر من استمتاعي بالباب الذي قبله؛ كانت هناك محاضرة بعنوان "عبقرية الشافعي" أثارتني ولامستني كثيرًا وطفقت بعدها أنظر مرة بعد مرة في التلخيص الذي كنت أكتبه أثناء استماعي لها؛ وسر هذا التأثر بها لأسباب منها: أن شخصية الإمام الشافعي كانت تجذبني منذ فترة، وتحديدًا منذ شاهدت مسلسل الإمام أحمد بن حنبل وظهر به الشافعي، وكانت المشاهد التي ظهر بها تغريني أكثر للاقتراب من هذه الشخصية والتعرف عليها.
ومنها أن المحاضرة كانت تتحدث عن أسرار عبقرية هذه الشخصية وتفوقها؛ وأنا لديّ اهتمام مُبكّر بالعبقرية والعباقرة، أو التفوق والتميّز بشكل عام، وما يكتنف هذا التميز من عوامل تربوية وتعليمية واجتماعية.. فكيف لو كانت هذه العبقرية تلتقي لدي في اهتمامٍ وشغف آخر وهو العلم وأسبابه وغاياته وقصص العلماء وأخبارهم؟ ستتضاعف المتعة وتكتمل النشوة واللذة! وهذا ما حدث.
أيضًا براعة المحتوى وسرد المُحاضِر الذي تتحسس من حديثه إعجابًا بالشافعي وشغفًا بالاطّلاع على كتبه وأخباره وجمعها أضاف حماسًا آخر وروحًا ثانية للمحاضرة.

ولقد عرَضَ لي أثناء تأملي لما كتبته ولخصته من هذه المحاضرة عدة خواطرٍ ونظرات وفِكَرٍ وعِبر رأيت أن أسوق بعضها هنا مشاركةً للفائدة والرأي:

(1) مما قاله المحاضِر أن من أهم العوامل التي عزّزت عبقرية الشافعي نبوغه المبكر، وحكى أن شيخه مسلم بن خالد الزنجي قال للشافعي :
"آن لك أن تفتي" 
وعمره لم يجاوز الخامسة عشر أو الثامنة عشر!! وأن الإمام مالك بن أنس لما رأى نباهته المبكّرة قال له :
"تفقّه تعلو
فقلت في نفسي: ماذا لو لم يتلقَ الشافعي مثل هذه الكلمات هل كان نبوغه سيستمر ويكون منه ما كان من الإمامة والعبقرية يا ترى؟
فلو نبغ أحدهم وتفّتقت أمارات عبقريته مبكرًا مثل الشافعي ثم لم يسمع الكلمة المشجّعة والعبارة المُوجِّهة ولم تُمدّ له اليد التي ترفعه والعين التي تلحظه وترقُبه فهل تستمر عبقريته بالنمو والتقدم؟ بل ستتراجع وتذوي ويرجع ذلك العبقري الناشىء عاميًا من العوام، وربما لو عُرفت عبقريته وقُدّرت لكان عَلمًا من الأعلام الذين ينتفع بهم الناس! ولا شك أن نظرة المجتمع للفرد تؤثر في شخصيته مهما بلغ هذا الفرد من اعتدادٍ واكتفاءٍ بالنفس، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ فكيف لو كان هذا الفرد صغيرًا ناشئًا ؟ لا ريب أنها لا تؤثر فيه فقط، بل تصوغه وتبنيه، أو تهدمه!

(2) يقول المُحاضر أن من أسباب قوة الشافعي العقلية -والقوة العقلية من خصائص العبقرية- هي القوة البيانية أو اللغوية بشكل عام، وعلّق على ذلك بقوله:
"أن اللغة ليست وسيلة إبانة فقط بل وسيلة تصوّر
حين قال ذلك تذكرت مباشرة المقولة التي تُنسب إلى عمر بن الخطّاب : "تعلموا العربية فإنها تُثبّت العقل وتزيد في المروءة"، وأنا أؤمن بهذه المقولة جدًا لأني لامستُ آثارها في عقلي وحياتي! فما تبحّرت في العربية ولا استوثقت من علائقها وأسبابها ولا ألزمت نفسي على تعلم معانيها وقواعدها وطرائقها إلا اتسعت بذلك مدارك عقلي وتنوعت، وازدادت قدرتي على الإبانة عن نفسي وأفكاري؛ ذلك أن اللغة تهبنا الكلمات، والكلمات تعطينا المعاني، والمعاني تمدنا بالتصور، وما التصوّر أو التفكير إلا كلمات ومعانٍ مصفوفة ما كان له أن يتم لولاها.. وهذا ليس كلامي أو كلام ابن الخطّاب وحده؛ وإن كان كلامه -لو صحّت نسبته إليه- يُغني عن أي كلام، فكيف لا والرسول قد قال عنه :"فلم أرَ عبقريًا من الناس يفري فريه..." ؟ لقد أثبتت بعض الدراسات بأن المجال الأوحد الذي إذا تحرك في الدماغ حرّك المجالات كلها هو مجال اللغة؛ يحرّك التفكير، الحفظ، الاستذكار، المشاعر والعواطف، وغيرها. وقد قيل أن "اللغة هي وعاء الفكر" فلا فِكر بلا لغة، ولا لغةَ بلا فكر. وبالمناسبة، كلمة Logos في اللغة اليونانية والتي أعتقد أنها مأخوذة من كلمة "لغة" بالعربية؛ تُطلق على اللغة والعقل معًا!
هذا الكلام في علاقة اللغة بالتفكير ليس خاصًا بالعربية وحدها، ولكني مثّلت بالعربية لأنها لغتي الأم، ولا أظن أن إنسانًا سيحسن التفكير والتصوّر بغير لغته الأم، فاللغة ليست مجرد ألفاظ فقط، بل هي معانٍ وُلدت وتألفت منذ مئات السنين-أي منذ وُجدت هذه اللغة- وصاغت تفكير وتصور الإنسان وجماعته التي نشأ بها والذين ورثوا هذه اللغة من أجدادهم كموروث ثقافي قبل أن يكون موروثًا لغويًا أو أدبيًا.
وأيضًا قد مثّلت بالعربية بالإضافة لما تتفرد به من خصائص عظيمة ميزتها عن غيرها من اللغات، فمثلًا يبلغ عدد المفردات في العربية ١٢ مليون و٣٧٥ ألف مفردة، بينما عددها في الإنجليزية مثلًا ٦٠٠ألف مفردة وفي الفرنسية ٤٠٠ ألف مفردة فقط! ولا أظن لغةً في العالم بلغت في الألفاظ ما بلغته العربية!
ويكفيها عقلًا وعظمةً أن الله اختار أن ينزّل كلامه المبين  بلسانها..

(3) لما ذهب أحمد بن حنبل مع أصحابه يطلبون العلم في مكة؛ كان الشافعي يدرّس فيها ولم يكن صيته قد ذاع بعد، وكان من عادة أحمد بن حنبل وأصحابه أن يجلسوا في حِلق الأئمة الكبار؛ فاستوقفت يومًا حلقةُ الشافعي أحمدَ بن حنبل وكان أول ما استوقفه فيها بيان الشافعي، فالتفت لأحد أصحابه وقال :
"ها هُنا فتًى من قريش له بيان!"
أي أنه يشير لأصحابه الجلوسَ فيها لما راعَه واستعذبه أولًا من بيان صاحبها، فقلت في نفسي حقًا :"إن من البيان لسحرا" فهو يعمل فيك عمل السحر ويجذبك بلا وعيٍ نحوه ويُدخلك في إهابه، وربما لو وزنت قول صاحبه بميزان العقل والنظر لانكشف لك الأمر وساءك ما سمعت؛ ولكن سيبقى في نفسك شيء من حسن بيانه وروعة عباراته! ونحن نرى هذا الآن في الإعلام وبرامجه وأفلامه ومسلسلاته التي يخلط فيها شهْد الكلام وحلو الصورة بسُمّ الفكرة ومُرّ الرذيلة، فتسري هذه المفاهيم والصور إلينا وتنمو بلا وعي فينا، فيكثر المسخ والتزوير وتضيع الحقيقة والعدل.

(4) الشافعي رحمه الله توفّي وهو في الرابعة والخمسين من عمره بعد أن ترك لنا تراثًا من العلم وعجيبةً من المؤلفات والفِكر ما يجعل المُطالع فيها يعجب كيف فعل هذا في عمره القصير ؟ لا أعني هنا الكثرة فقط، بل أعني نوعية الأفكار ونضوجها وتغوّلها في أرض العلم والعقل، فلقد عُرف عن الشافعي عظمة عقله-والتي هي من خصائص العبقرية- وشهِد على ذلك العدو والصديق، والموافِق والمُخالف، لا أحد ينكر هذا، ولقد أوّل أحد العلماء هذه العظمة للشافعي بقصر عمره، وجمع بينهما في أحسن عبارة إذ قال: "عجّل الله له عقله لقلة عمره!"
 ولا أخفيكم أن هذه العبارة أذهلتني أول ما قرأتها واستقرت في نفسي لما فيها من جوامع الكلِم وجودة التركيب أولًا، وحسن التأويل والإصابة ثانيًا؛ والله أعلم بالأعمار والآجال وهو الحكيم إذ يُقدّرها ويحسبها، ولكن هذه العبارة تجعلك تفكّر وتحاسب نفسك وتنظر فيما قدّمت وعملت، فكم من إنسانٍ طال عمره وعاشه فارغًا خاملًا لا يستفيد ولا يُفيد، فكان عمره وبالًا وحجةً لله عليه يوم القيامة، وكم من إنسانٍ طال عمره ولكن لم يكن له فيه إلا أعمالٌ قليلة بارك الله فيها فعمت بركتها عمله وعمره كله وكانت سببًا في دخوله الجنة، وكم من إنسان طال عمره وأعطى فيه وقدّم؛ فيكون قد جمع الحُسنين كما في الحديث :"خير الناس من طال عمره وحسن عمله"،وكم من إنسان قصُر عمره وكثُر عمله وبورك نفعه؛ كالشافعي وغيره.. ولله في الأعمار والأقدار شؤون، والموفّق من عرف الغاية وابتدر إليها.

(5) يقول المحللون أن أحد عوامل قوة الشافعي العقلية هو ما عُرف عنه من احتكاكه بمدارس مختلفة عن مدرسته؛ الأمر الذي جعله يعرّف العقل قائلًا :
"العقل؛ التجربة" 
وهذا أمرٌ مشاهد، وفي كافة المهارات والقدرات العقلية؛ فلن تتطور أحكامك، منطقك، ذاكرتك، تحليلك، نظرتك للأمور، ذكاؤك للأفضل إلا إذا جرّبت أن تقتحم بهذه الأشياء مناطقًا لم تألفها من قبل.. من يبقى محصورًا في منطقته الضيقة التي لم يزل منذ زمنٍ عليها سيبقى عقله رهين البلادة والركود بلا شك.. فالعقل التجربة؛ باختصار شديد!

(6) ترك الشافعي ميراثًا عظيمًا من المعارف والكتب، ليس في عددها، بل في نوعيتها وتفرّده بها، فقد ابتكر معارفًا وعلومًا لم تكن موجودة قبله، وإحدى هذه المؤلفات النوعية كتابه "الرسالة" الذي بلغ من عظمته ما جعله "يمثل ذروة العطاء وذروة البيان والجزالة اللغوية عند الشافعي"، الشاهد أن كتابًا بهذه العظمة جعلت "المزني" أحد تلاميذ الشافعي يقول أنه قرأه ٥٠٠ مرة على مدى ٥٠ سنة وفي كل مرة يستفيد منه!! لا ريب أن الرقم قد هالَكم كم هالَني، ولكن الكتب العظيمة تستحق قراءة عظيمة لا قراءة عابرة همها متى تنتهي من الكتاب لا ما انتهت به منه، وكما يقول راي برادبري :" هناك وراء كل كتاب رجلٌ فكّر وقضى عمره يصنع هذا الكتاب الـذي نحرقه نحن في دقيقتين!" 

*ختـامًـا:
سؤالٌ أردت أن أرجئ جوابه إلى النهاية، وربما دار في خلدكم كما دار في خلدي قبل استماعي لهذه المحاضرة؛ فحينما رأيتُ عنوانها "عبقرية الشافعي" تساءلت عن الذي جعل الشافعي يوصف بالعبقري؟ أو لماذا تميز عن أمثاله من الأئمة والعلماء بهذا اللقب؟ 
وقد أجاب المُحاضر في البداية عن هذا السؤال وفرّق بين العالم و الإمام و العبقري :
*فنحن نقول عن الشخص أنه عالم إذا أحسن مسائل علمٍ ما.
*ونقول عن العالم أنه إمام إذا ضمّ لعلمه أن كان متبوعًا.
*ونقول عن ذلك الإمام أنه عبقري إذا زاد على العلم والإمامة أن كان العلم قبله ليس كالعلم بعده، والشافعي قد جمع بين الثلاثة فحاز شرف العبقرية.
أخيرًا هناك عبارة قالها المُحاضر أذهلتني! فقد قال أن "العبقرية تُستلهم ولا تُحاكى" فبقدر إعجابك بالشافعي وبغيره من العباقرة بقدر تساؤلك عن ما يكتنف هذه العبقريات من أسرار، فالعبقرية بلغت من قوتها وخروجها عن حيز الطبيعيات أن جعلتك تتساءل لا أن تسأل.. وتستلهم لا أن تطبّق، وتكون لها تفسيرات وتحليلات.. لا خطوات أو متطلبات!