أُكملتُ بالأمس عامي التاسع والعشرين حسب التقويم الهجري، ورمية حجر تفصلني عن الثلاثين إن شاء الله.. هل أنا متهيبة لاقترابي من الثلاثين؟ الحقّ أني أشعر بمزيج رهبة وغرابة وبراءة.. رهبةٌ لأني سألج عَقدًا جديدًا يوصف أنه بداية الكهولة وأول الرشد والحكمة، فستُلزمك الأعراف والأوصاف أن تقضي على طيشك ونزقك رغمًا عنك وإن كان عقلك بحجم الحصاة وروحك متفجرة الغرارة! وغرابةٌ لأني أشعر أني غافلة عن قافلة العمر الضاربةِ في السنوات ذاهلةٌ عن أرقامها المتصاعدة! فماذا يعني أن أكبر؟ وماذا يعني أن أقترب من الثلاثين؟ ماذا يعني كل ذلك إن لم أكن أشعر به على الحقيقة! فليس في جسدي عضوٌ يحصي السنوات، وليس في روحي دقّات ساعة أسمع ضرباتها ولا أراها! كل ذلك لا أشعر به فكيف أؤمن به! لقد مرّ هذا العام سريعًا بطيئًا.. غريبًا واضحًا.. مضطربًا مستقرًا! شعرتُ به بمزيج تناقضات، بلهفةٍ ثم إنكار.. بدموعٍ حارّة ثم ببلادَةٍ قارَّة.. بتقدّم واطّراد، ثم بتأخرٍ وانفراط، ثم تتلاعب الأضداد وتتناغم حينًا، ويغلب بعضها الآخر حينًا وحينًا.. هذا العام قَدِم وأنا حبلى بطفلتي الأولى وانصرم وقد أنجبتها وأتمّت من العمر ٤ أشهر، لم يُكبّرني زمان الحَبَل كثيرًا، لقد أثقل بطني وجسدي ولكنه لم يثقل قلبي؛ ما زال قلبي خفيفًا يتأوه لأوهى حزن وألم ويطرب لأبسط حلم ونغم.. ولكني حين أنجبتها مرّت بقلبي أطوار.. بروجٌ وأغوار، كالجبل صلابة وشموخًا، وكالغبار هباءً واضطرابًا! أحيانًا أنسى أمومتي وأراني ما أزال تلك الفتاة اللاهية، وأحيانًا أشعر بأن "سناء" هي الحجر الذي أتمّ بنائي وأكمل نقص حياتي وأنا من دونها ثغرة تدخل منها الريح لقلبي وتعصف بمشاعري وخطراتي.. أحيانًا أشعر بأن بيني وبينها كل هذه السنوات التي تفصلني عنها، وأحيانًا أشعر أن ما بيني وبينها إلا أيام وشهور وأن قلبي يكاد يكون كقلبها طفولة وبراءة؛ فأنزل لها وألعب معها وأضاحكها كطفلٍ وطفل لا كأم ووليد! فما الضير أن نكون كالأطفال روحًا وإن كان العمر والجسد يجرفنا إلى غير مجرانا! لطالما شعرت بأني طفلة.. لا أجنح إلى الطفولة طيشًا وشقاوة، ولكن لأن "شبه الشيء منجذبٌ إليه"؛ فأهنأ وقتي وأنداه حين يتوافق قلبي مع براءتي.. فمن أنا؟ تلك الأم الواعية، والمرأة الحكيمة؟ أم الفتاة الغافلة، والطفلة الحالمة؟ وهل أنا الأمل الكاذب أم اليأس المهلك أم الواقع المتوازن؟ الصاخبة لهوًا أم الساكنة تأملًا ؟ أنا مزيج من هذا كله.. أتغيّر وأتبدّل أحيانًا في أيام بل ساعات بل في لحظات ! وإني لأكبُر بما أشعر في روحي من علوٍ أو في عقلي من نضج، وإني لا أبالي بعمري إلا من زمانٍ آنَسني أو زادَ في رَشَدي.. لا من رقم وتاريخ لا يصلني به إلا إرادة الله أن أولدَ فيه.. وإني لأكبر أحيانًا وأصغر أحيانًا، وأسأل الله أن يجعل ختامي على ما يرضاه؛ فذلك منتهى الرشد وتمام الحكمة..
السبت، 24 ديسمبر 2022
السبت، 15 أكتوبر 2022
الأمومة.. المبتدى
كغريقٍ يصارع الأمواه والظلمات واليأس، قد أحاط به الموت من كل مكان ثم يُلقى إليه لوح النجاة فيستمسك به بكل ما أوتي من قوة.. يرى فيه الحياة ولمّا يخلص من الموت والخطر بعد؛ فما الذي فعله به لوحٌ صغير وموجةٌ واحدة من أمواج البحر هي أكبر منه وأعظم وما الذي أعطاه له من حياة وأمل؟ فانظر إلى رحمة الله كيف جعل لبعض الصغائر قوة قادرة على تفتيت أعصى الأهوال والكبائر! لقد كنتُ أنا كهذا الغريق، وكان البحر هو آلام المخاض والوضع الشداد، وكانت طفلتي "سناء" هي الخشبة التي لمّا لاحت لي تبدّت لي الحياة.. قاهرةً بسناها القوي الشفيف كل ظلمات الألم! لا أنسى ولن أنسى.. والتقريب والتشبيه هو أجدى ما تفعله الكلمات هنا؛ تلك اللحظة التي رفعوها أمام عيني حين أخرجوها من بطني وأنا وسط أرطال من الصراخ والألم، وحين رأيتها خمدت فجأة ثائرة توجعي وانهالت الدموع من عيني صارخة : الحمدلله الحمدلله الحمدلله! تلك كانت قرة عيني الأولى بها..! أسأل الله أن يتبع القرة بالقرة ممتدة إلى بعد موتي برًا ودعاءً.
الجمعة، 1 أبريل 2022
رمضان .. شهري الأثير
رمضان 1442 هـ:
السبت، 19 مارس 2022
"حملته أمّه وهنًا على وهن"
"مبروك حبيبتي .. حامل!"
انهملت عبراتي ووقعتُ على الأرض ساجدة شكرًا وحمدًا؛ خبرٌ كنتُ أترقّبه، كأنما خُتم على دعواتي وصلواتي لا يفارقها ضراعةً ولهجًا، تمرّ الأيام وأتسلّى عنه بأعمال وإنجازات ولهو ولا يزال هو كالنقش في قلبي تسفي عليه الرياح تراب الأيام ويظل رسمه ومكانه باديًا لا يُطمس، رغم عدم مرور الكثير على زواجي إلا أن اللهفة أقوى من الانتظار، والتطلّع أشدّ من الصبر.. حين كنت أترقب الحمل كانت تلوح أمام عيني صورته الوردية التي لا يُكتب إلا عنها! صورةٌ وردية أكلح ما فيها ثقل بطن الأم وثقل حركتها معه وآلام ظهرها ومفاصلها! ربما يكون سبب ذلك بعض غفلتي عن الواقع والحقيقة، وربما يكون بسبب اعتقادي أنه رغم تعب الحمل وثقله وآلامه إلا أن حلاوته وفرحته تذيب ذلك كله! وما هي إلا أيام قلائل بعد يوم البشرى ذاك حتى بدأت أعراض الأشهر الأولى من الحمل تدبّ نحوي؛ فأستشعر يومًا بعد آخر معنى قوله تعالى :"حملته أمّه وهنًا على وهن" فبكل ما في كلمة :"وهْن" من خفة وخفوت تكون آلامه، وهنٌ تستشعر معه أيام عافيتك وقوتك، ضعفك الحقيقي، صورة أمك وهي حبلى بك وبإخوتك، وأن مغانم الدنيا بمغارمها وليست بالمجّان، حق الأم العظيم حدّ أن يُجعل تحت قدميها الجنة، وأشياء كثيرة.. أيام ولحظات صعبة أزحزح فيها أنا الزمن من ثقلها، وزاد من ثقلها أني فتاة لا تقرّ إلا على مَعين العمل والإنجاز، واللهو والمرح، فأصبحت أسيرة الأمرين: الوهن ونفسي المتحفّزة.. أصبحتُ أسيرة الخمول والإرهاق والنوم.. الفراش هو وطائي اللّين ومنتهى آمالي؛ فلا أبالي إن استلقيت عليه بنداءات الجِدّ والعمل.. الخمول يستوطن جسدي وروحي! أصبح الطبخ جهادًا بالنسبة لي؛ فأطهو وأنا أرتدي الكمامة كي لا تثير الروائح كبدي. أما الروائح .. فشأنها عظيم! رائحة طعام تأتي من بعيد فيرتعد لها كبدك قشعريرة واشمئزازًا.. كأن الروائح وباءٌ تهرب منه ! لا أبالغ إن قلت أني أريد المكوث عند أهلي أقصى ما أستطيع لهذا السبب! حسنًا: ولماذا لا أطلب الطعام من المطاعم؟! أما الطعام فشأنه أعظم! نزل وزني كيلوغرامات.. لا أشتهي أي شيء، وأتخوف من الأطعمة أن تضرني.. أصبح القيء أمرًا معتادًا؛ وأحيانًا أشعر بعده براحة، وأحيانًا أشعر بعده بتعب وحرقة تشعل جوفي، فأصبحت أتخوف من الزيارات لهذا السبب..
أما الكآبة والخمول وتدنّي الهمّة فعنوان تلك المرحلة! كانت يدي ترتخي نحو القاع بسهولة ويسر لتلتقط السفاسف ومضيّعات الأوقات فلا أُبالي! ثم يصحو ضميري فجأة فأتقطّع على وقتي الضائع حسرات، فأحاول النهوض فيتهاوى جسمي وتتلاشى أنفاسي وأعود إلى ما كنتُ فيه.. أنشطُ وأجَدّ ما كان فيّ ضميري الذي كانت تذهب صرخاته عليّ أدراج الرياح! لذلك أرى أن أجدى ما تفعله المرأة هنا أن تستسلم ولا تقاوم، وإن أحسّت من نفسها بوادر نشاط فلتقتنصها ما استطاعت، ولا بأس أن يغلب خمولها نشاطها.. الله سمّاها "وهنًا" وكفى بها عذرًا وحجّة!
وتمرّ الأيام.. وتعلّمك رسائل الضعف والقوة، والخمول والنشاط.. وتحمد الله أن ضعفك هذا بما فيه من تبريح لا يعدو الصحة والعادة، وأنه أمر طبيعي لا يدخل في مسمى المرض.. وأنه مرور وعبور لا مكوث وتطاول.. فتستشعر آلام المرضى الذين يعانون كما تعاني أو أشد، لكنهم مرضى وأنت طبيعيٌ صحيح مهما تألمت.. أذكر في تلك الفترة أخبرتني أمي عن أحد القريبات -رحمها الله- التي أصيبت بالسرطان وكيف انتشر السرطان في جسدها وعن معاناتها في تجرّع الكيماوي وآلامه وأنها كانت تتقيأ أي شيء باستمرار، فحمدتُ الله على ألمي الصغير الذي يعقبه فرحة مرجوّة -بإذن الله- مقابل آلامها التي الله وحده أعلم بمنتهاها وعاقبتها .. غفر الله لها والحمدلله على كل حال..
مرّت الشهور الثلاث الأولى (مرحلة الوَهن كما أسمّيها) على خير وأجر -بإذن الله-.. وشيئًا فشيئًا بدأ النور يبدد ظلام الونى والوهن، بدأت الأحاسيس الحلوة والملتمعة تتقاطر في القلب وتبلّ عروق الروح.. وكأنه السلام الوديع الذي يعقب هرج الحرب ومرجها فتتفجّر معه الآمال وتنطلق الأحلام وتتعلّق فيه القلوب بمستقبل يملؤه زينة الحياة الدنيا وأمل الأيام.. شيئًا فشيئًا تعودين كما أنتِ ببطنٍ صغير يكاد لا يُرى تطوف خواطرك حوله، شيئًا فشيئًا تحاولين استدراك ما فات؛ فنفسُك وطفلك الذي بين أحشائك يتسابقان فيك كفرسي رهان، فتحاولين إعطاء كل منهما ما يليق به من الاهتمام والتقدير.. فسبحان الله كيف ينتهي الألم ويحل مكانه السرور! وهذا من رحمة الله أن جعل الأم تنتقل في حملها بين ثقلٍ وخفّة فتستشعر به صورة حياتها المقبلة : التعب والفرح، الصبر والراحة، القلق والأمل! فالحمدلله دائمًا وأبدًا.. الحمدلله من قبل ومن بعد.. الحمدلله الكريم المتفضّل ذي اللطف والجلال والعظمة والكمال .
السبت، 12 فبراير 2022
أدب بلا أدباء!
كنتُ أتصفح الانستقرام فشاهدتُ قصة فُلانة التي عُرفت بثقافة وقلمٍ جميل تابعتها لأجلهما؛ فإذا هي غير التي عرفتها منذ سنوات وقد تغيّرت اهتماماتها كثيرًا؛ أصبحت من المفتونين بالقهوة ومريدي المقاهي والمطاعم.. لا يكاد يمر يومان إلا وتراها في مقهى أو تستعرض إعلانًا لقهوة أو لباسٍ أو حذاء أو تحف أو هدايا، ليس هذا فقط بل أصبحت من زوّار الفعاليات المتنوعة التي لا نسب بينها وبين الثقافة والأدب لا من قريب ولا بعيد؛ والتي لو زار إحداها الطنطاوي أو المنفلوطي لَخرَج وقد تعكّرت روحه وفسدت نفسه ولبث أيامًا يحاول استعادة عافية أدبه وقلمه! مما جعلني أتساءل عن الفارق بين صاحبتنا ومشاهير السنابشات جوّالي الشوارع والأماكن المزدحمة سوى أنها تكتب أحيانًا من بقايا أدبها القديم نصوصًا اختلط فصيحها بعامّيّها قصدًا لا عَرَضًا!