الاثنين، 5 أغسطس 2019

تأمل في سورة التكاثر

كنت أتأمل في سورة التكاثر؛ فلفت نظري ذكر مرتبتين من مراتب اليقين مجتمعتين في سورة واحدة: علم اليقين :"كلا لو تعلمون علم اليقين"، وعين اليقين :"ثم لترونّها عين اليقين"، ومراتب اليقين كما هو معلوم ثلاثة، وهي على الترتيب :
 ١-علم اليقين: مثل : علمك بأن في هذا الوادي ماء .
 ٢- عين اليقين: مثل: رؤية الماء في الوادي .
 ٣-حق اليقين: مثل : الشرب منه، أو الخوض بقدميك فيه.
فما الحكمة من ذكر مرتبتين من مراتب اليقين في سورة لا تزيد آياتها عن الثلاثة أسطر؟ 
يظهر لي والله أعلم أن لذلك علاقة بالتكاثر والاشتغال الزائد بالدنيا عن الآخرة، وهو طبيعة بشرية إن لم تُشذّب وتُهذّب كانت كالمخالب التي تستنزف الإنسان وتخلد به إلى الأرض. ليس كل اشتغال بالدنيا مذموم، ولولا ذلك لما جعل الله المباحات، بل لما جعل الله أصل الأشياء الإباحة؛ قال تعالى :"قل من حرّم زينةَ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة"، وفي الحديث الصحيح :
عن حنظلةَ الأسيدي رضي الله عنه، وكان مِن كتَّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلتُ: نافَق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافَق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافَسْنا الأزواج والأولاد والضَّيعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فُرشكم وفي طرقكم، لكن يا حنظلة ساعة وساعة))، ثلاث مرات؛ رواه مسلم،وغيرها من النصوص التي تبين سماحة الشريعة ومراعاتها لمقتضى الطبيعة البشرية المجبولة على النزوع إلى الدنيا، إلا أن هذا النزوع ينبغي أن يكون له حد إن تجاوزته النفس شطّت وتمرّدت وطغت، والقليل من الاشتغال بالدنيا مباح، والكثير منه مذموم قد يكون حرامًا، لذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته أحرص على هذا القليل من أن يزيد،  فيُفتح بابٌ يدخل معه شرٌ قد يهلك به البلاد والعباد، والدنيا والدين ! عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : إنا لجلوس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ، فاطلع علينا مصعب بن عمير ، ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو فيه اليوم ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلة ، وراح في حلة ؟ ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى ، وسترتم بيوتكم كما تستر الكعبة ؟ " ، قالوا : يا رسول الله ! نحن يومئذ خير منا اليوم ، نتفرغ للعبادة ، ونكفى المؤنة . قال : " لا أنتم اليوم خير منكم يومئذ " . رواه الترمذي.. انظر كيف كان يذكر لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النبوءة المتحققة ويفصّل لهم فيها وكأنه يرسم لهم المشهد بكل أبعاده ليغري به نفوسهم، ثم يضعهم موضع الاختبار والسؤال، فبماذا أجابوه؟ هم يومئذ خير ولكن ليس لكثرة المال ونعيم الحال كما سيجيب أمثالنا، بل لأنهم سُيكفون السعي للرزق ليتفرّغوا للعبادة! لو كان داعيةٌ أو مصلح مكان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- لسرّه جوابهم وطمأنه عليهم، ولكن الرسول كان ينظر بعين الغيب وبصر الحقيقة : "بل أنتم اليوم خيرٌ منكم يومئذٍ" ولو كُفيتم السعي والطلب لتتفرغوا لأمر الآخرة! ومصعب بن عمير ؟ ألم تذرف عيناك متوجّدًا عليه يا رسول الله حين ذكرت ما كان من أمره ثم صار؟! : "بل أنتم اليوم خيرٌ منكم يومئذٍ" ولو بات أحدكم يربط الأحجار على بطنه من الجوع!
ورغم ما كان عليه الصحابة من الإيمان والإسلام كان رسول الله يخشى عليهم وعلى أمته تكاثر الأموال والإقبال على الدنيا؛ قال صلى الله عليه وسلم :"والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم"، لاحظ أن الخشية هنا من"البسط" في الدنيا لا من الدنيا نفسها لأن :" ما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى" كما في الحديث الصحيح.
هذا الفهم لطبيعة البشر وضابط اشتغالها بالدنيا فقهه وفطنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان لا يعطي المسلمين من غنائم الفتوحات وبيت المال إلا حقهم فقط ولا يزيد، ويمنعهم من اقتناء الثروات وتشييد القصور وامتلاك المساحات الشاسعة خوف الالتهاء بالدنيا عن الآخرة، ولهذا لما تولى من بعده عثمان بن عفان -رضي الله عنه- واتسعت الفتوحات في عهده شرقًا وغربًا؛ سمح لهم بامتلاك ما كان عُمر يمنعهم عنه، فكان الرخاء الاقتصادي والاجتماعي سمة بارزة في عهد عثمان رضي الله عنه، ويشير المؤرخون أن هذا الرخاء والإقبال على الدنيا كان من أهم أسباب الفتنة التي أدّت إلى استشهاده لاحقًا رضي الله عنه، لأن الناس لا يعصمهم من الفتن والهرج والمرج فيها إلا مخافة الله والزهد في الدنيا.
 
على الصعيد الأممي أو التاريخي: التكاثر رأس الفتن والأمراض التي بُليت بها الأمة منذ أُفول عصر الراشدين إلى يومنا هذا: تشتت الأمة فرقًا وطوائف، تآمر المسلمين على بعضهم، تعدد الدول الإسلامية وتناحرها مع بعضها، الاستنصار بالعدو، غلبة العدو وتمكنه، الغزو الثقافي والفكري من الأعداء، وغيرها من الأدواء التي دواؤها أمرٌ واحد وهو التمسّك بالدين والتخفّف من الدنيا، وتزاحم الدنيا لن يحلّ أبدًا مكان الإيمان المنفرد، ولن تغني الكثرة شيئًا ولو تعاظمت.
وعلى الصعيد الفردي والاجتماعي: التكاثر أخو الغفلة، وجماع أمرهما الإعراض؛ فمن كثر ماله قد يلتهي، ومن يلهو يستغني، ومن يستغني يطغى ويتكبّر، فيقسو القلب وتموت الروح وينغمس العبد في الشهوات والمنكرات والمعاصي وينسى أمر الآخرة.. وشيئًا فشيئًا يصبح المال هاجس رأسه وحاكم علاقاته، فيتوجس من الأيادي التي مُدّت لمصافحته، أنها مُدّت تبغي صدقة، ومن النظرات المتوددة له، أنها تستطلع مخابئه، ويفحص الكلام الذي قيل والكلام الذي لم يقال؛ ماذا أراد صاحبه؟ هل أراد به وده وصداقته حقًا؟ أم أراد به قناطيره؟ وهكذا يبني المال بينه وبين الناس جُدرًا، فتنشأ الطبقات في المجتمع، وتفشو أمراض القلوب من غيرة وحقد وحسد وكراهية وطمع، ويسعى الناس إلى مكاثرة بعضهم البعض ويصبح المال شغلهم الشاغل، إذ به يتمايزون ويترافعون، فتُنسى بذلك معايير الآخرة ويصبح الترافع بالتقوى والدين شيئًا كأساطير الأولين
والمتأمل لسورة التكاثر؛ يجد حتى في أسلوبها وسرد آياتها حقيقة ما يفعله التكاثر في النفوس وكيف يستشري في القلوب حتى يغطّ الإنسان في سكرةٍ لا يوقظه منها إلا الموت! انظر كيف بدأ الخطاب القرآني بتقرير فعلهم :"ألهاكم التكاثر" ثم ماذا بعد؟ وما الفصل التالي من هذه القصة الإنسانية؟ ليس إلا الفصل الأخير! النهاية! :"حتى زرتم المقابر"! لا فصول أخرى في قصة هذا الإنسان اللاهي، هو في غفلةٍ ثابتة وإعراضٍ أُفقي وإن ارتفع خط أرباحه وتنوعت أمواله، وإن لم يتداركه الله برحمته فلن يوقف زحف لهوه إلا الموت! فصلان لا ثالث لهما! والانتقال القرآني بحرف (حتى) في قوله : "حتى زرتم المقابر" عميقٌ دقيق يشوّق السامع ثم يصدمه في آن؛ إذ أن الفصل التالي لم يكن إلا النهاية.. في المقابر!
فلا عجب إذن لإبطال هذا السحر وهذه القوة العاتية أن  يحمل الخطاب القرآني في هذه السورة تقاريع صارمة ونُذر مُرعبة تُقرن بمرتبتين من مراتب اليقين تزيد المعنى مهابة والصورة قُربًا مثل: "علم اليقين" و "عين اليقين"، فالدنيا مهما اقتربت وصارت بين يديك فهي ظنون وأوهام، والآخرة وإن بدت لك بعيدة فهي اليقين التام!
 
...................

*من المفسّرين من فسّر التكاثر بالأموال، ومنهم من فسّره بالمال والأولاد، ومنهم ومن فسّره بالرجال والقبائل والعشائر ...إلخ؛ لكني ركّزت هنا على المال باعتباره أكثر هذه الملهيات شيوعًا وأشدها تأثيرًا في النفوس.. هذا والله أعلم.