الثلاثاء، 24 يناير 2017

شكوكٌ في معنى الوطن!

-
 
 
"وقنعتُ يكون نصيبي في الدنيا.. كنصيبِ الطير
لكن سبحانك حتى الطيرُ لها أوطان
وأنا ما زلتُ أطير!" * مظفر النواب




  
شاهدت مرةً برنامجًا وثائقيًا أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان "أتراك لبنان.. سكّان الظل" وهو يحكي عن مجموعات من التركمان والأتراك سكنت لبنان فرارًا من أحداث وظروف مختلفة.
جعلني البرنامج بعد مشاهدته أتفكّر في أمورٍ كان بعضها كالمسلّمات التي لا يستطيع النيل منها شكٌ أو سؤال.. وخلّف لي أسئلةً لم تزل تطنّ في رأسي ولا يسكتها تجاهل أو تغافل.. كانت بداية انفجار هذه الأسئلة عندما سئل هؤلاء الأتراك عن الهوية التي يجدونها تلائم مقاساتهم، وعن المشاعر التي يكنونها تجاه البلدين مفترَق هذه الهوية: تركيا ولبنان.. كانت إجاباتهم تختلف أحيانا باختلاف الأجيال، وأحيانا باختلاف دواعي الهجرة، وأحيانا باختلاف الأوضاع لكلا البلدين في الماضي والحاضر، وأحيانًا لأسباب أخرى..
كان بعض كبار السن من هؤلاء المهاجرين ممن عاشوا فترة قصيرة من عمرهم في تركيا وانتقلوا بعدها إلى لبنان يشعرون بانتماء نحو لبنان أكثر! وأظن أن السبب في ذلك أنهم فروا من بلادهم في ظروف قاسية وصعبة خلّفت انطباعًا مؤلمًا في ذاكرتهم كالحرب العالمية الأولى فوجدوا في لبنان جنةً وملاذًا من هذا كله، فحاولوا بكل ما أوتوا أن يتقبلوا فكرة الوطن الآخر والحقل الجديد الذي سيبذرون فيه أجيالهم المقبلة ويسقونها ويرعونها، وقاموا يتعارفون فيه إلى جيرانهم في هذا الحقل أو سكان البلاد الأصليين ويبذلون قصارى جهدهم نحو التمازج معهم تمازجًا يكاد  يكونون فيه كالكتلة الواحدة، فيُنسى معه أنهم غرباء أو طارئون على لبنان..كل هذه الأمور جعلتهم يشعرون بانتماء نحو لبنان أكثر مع عدم تناسيهم لأصلهم ومنبتهم الأول..
في المقابل كان بعض الشباب من أبناء هؤلاء المهاجرين الأتراك الذين ولدوا وترعرعوا ونشأوا في لبنان ولم يجمعهم مع تركيا سوى أصلٍ ونسبٍ أصبح منسيًا مع تقادم الأيام وتطور التاريخ والدول..كان هؤلاء الشباب يشعرون بانتماء نحو تركيا أكثر من لبنان، ويحسون بغصة من الحنين نحوها لن تقرّ إلا أن يعودوا إليها وتصبح لهم مثوى ومقام.. وأظن أن ظهور هذا التمسك بالوطن الأم والحنين الغريب الذي لم يولد من اجتماعٍ وتلاقٍ يومًا من شباب لم تعرف ذاكرته إلا صور لبنان ومناظره له سببه الوجيه، فهؤلاء الشباب يشعرون بأنهم ليسوا من أهل لبنان وأنهم غرباء عنه أكثر من أبائهم وأجدادهم بسبب ظروف سياسية حديثة نوعًا ما لا تنظر نحو المجتمع اللبناني إلا بنظرة الطائفية والأقليات الضيقة، وهذه النظرة تجلت أثارها حتى على المجتمع نفسه فأصبح الشارع اللبناني ينظر لأبنائه بحسب الطائفة أو الأقلية التي ينتمون لها، هذه النظرة أثارت مسألة الأصل والمنبت في نفوس هؤلاء الشباب باعتبارهم أبناء أقلية تركية نزحت إلى لبنان، فهي تذكرهم بأنهم أبناء أقلية نازحة وسيظلون كذلك بحسب هذا التصنيف، وهذا الطبع ولّد شعورًا بالغربة والاختلاف الذي يغذي الشعور بالحنين نحو الوطن الأم الذي يلغي هذه الغربة. ومما زاد من هذا الشعور بنظري هو التباين الواضح بين وضع البلدين في الفترة الراهنة؛ فالنقلة التي شهدتها تركيا مؤخرًا اقتصاديًا وسياسيًا، والهوّة التي سقط فيها لبنان إثر الحروب والصراعات والتي تركت أثارها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية خلقت في نفوس هؤلاء الشباب تطلعًا وحنينًا للعودة إلى هذا الوطن الأم الذي يشعر المواطن فيه بالهناء والرضا..

وفي مقابل هذه الإجابتين اللتين تستحق منا أن نتفكر فيها وأن نفسرها كانت هناك إجابتان تبدوان طبيعيتان، فكان هنالك كبارٌ في السن لم تبرح جذورهم في تركيا عن مناداتهم نداءات الانتماء والحنين؛ فهم يقولون بأنهم أتراك أولًا ولبنانيون ثانيًا، وكان هنالك أيضًا بعض الشباب الذين لم يعرفوا غير لبنان وطنًا وحضنًا واستطاعوا التماهي والذوبان فيه فهم لبنانيون أولًا وأتراك ثانيًا كما يقولون.. لم تكن في هذه الإجابتين غرابة ودهشة كما في السابقتين اللتين تركتاني أتفكّر بهما.. أعني بحال كبار السن أولئك الذين لم يحدقوا بالوطن الذين خلفوه وراءهم، ولم يجذبهم ترابه الذي خطوا عليه خطواتهم الأولى ولا هواؤه الذي تنشقوه في أول ما تنشقوا من هواء ولا أهله الذين حفظوا ملامحهم ولغتهم في أول ما حفظوا من ملامح بشر ولغاتهم.. ولم تشدهم إليه حشود الذكريات التي ما انفكّت تحدوهم إليه؛ حتى إذا ما أعياها الحداء سكتت واستسلمت! لم يلتفتوا لكل ذلك يوم عانقهم الوطن الجديد فنسوا في غضّ إهابه ولذيذ حضنه ودفء أنفاسه وطنًا قديمًا أهزل أشعث ! وكأنهم يسلّمون بقول القائل :"ليس بينك وبين البلاد نسب؛ فخير البلاد ما حملك!"
 فهل الأوطان إذن منازلٌ يغنينا ما نجد فيها من خيرٍ عميم وراحة دائمة عن دورِنا ومنازلنا الأولى ؟!!

وماذا أيضًا عن أولئك الشباب الذين لم يعرفوا إلا لبنان ولم يجمعهم مع تركيا سوى أسماءٌ وأنسابٌ تسمّوها هم وأباؤهم وأجدادهم ..ما الذي يزيدهم تحديقًا صوب وطنهم الأم ويجعلهم يشعرون بالحنين الدائب إليه؛ أهيَ الأحاديث عن سهله وترابه ومائه، وعن الأسلاف الذين أقاموا فوق ترابه ما أقاموا وبنوا ما بنوا وحصدوا ما حصدوا، ثم أبى هذا التراب ألا يغيّر في عهده معهم وأن يرعى ذمم الوفاء التي بينه وبينهم فاحتضنهم ميتين كما حملهم أحياءً.. بل لو ربما لو سُئل أولئك الأسلاف وكان لهم في مكان موتهم ودفنهم تخيير لما اختاروا غير ثرى الوطن
أم هي سكرة الزهو ونشوة الفخار التي تسري في نفوسهم بمآثره وأمجاده حين يقرأونها في قصائد شعرائه أو يسمعونها في أغاني مغنيه، أم هي الملامح الظاهرة أو التقاليد الذائبة التي تجمعهم مع أهله أم ماذا ؟! وهل يتولّد من هذا كله انتماءٌ قوي عنيد؟

هذه الأسئلة التي أثارها هؤلاء المهاجرون زلزلت الأرض من تحت أقدام اعتقاداتي ومسلماتي القديمة عن مفهوم الوطن خاصةً للمهاجرين والمغتربين.. أولئك الذين ينشطر معنى الوطن في نفوسهم إلى وطنين أو أوطان.. فهل يقبل هذا المعنى الانقسام والتجزئة؟ وهل يصحّ أن يكون للإنسان أمٌ ثانية؟ .. وما الذي يجعل لهذه الأم أحقيّةً بهذا الابن أكثر من الأم الأخرى؟ أهو الحَبل والإنجاب والرضاعة فقط أم ماذا؟ ثم .. ما هو الوطن ؟؟!