الثلاثاء، 10 يناير 2017

الشيخ الجوّال !




كان هناك شيخ كبير طاعن في السن يجول بين القرى..يدخل قريةً ويتأمل فيها وفي أهلها، وإذا فرغ منها ذهب إلى قرية أخرى تليها فيمكث فيها إلى أن يفرغ منها ويذهب إلى التي تليها، وهكذا كان وهكذا ظل وسيظلّ.. لا يتقن في الحياة وظيفة غيرها
وكانت له هيئة غريبة، تشبه هيئة البشر، ولكنه ليس ببشر! وكان حديثه كحديث البشر وصوته كصوت البشر،  ولكنه ليس ببشر! وكان يُحدّث الناس ويتقبلونه ويألفونه رغم كل ذلك..

وفي أحد الأيام دخل إحدى القرى التي لم تكن تختلف عن غيرها سوا أن بنيانها وطرقاتها كانت أحدث قليلا، أما أهلها فلم يختلفوا كثيرًا عن غيرهم إلا في طبائعهم وتفكيرهم، ككل القرى؛ تختلف طبائع أهلها وتفكيرهم بحسب ما تقتضيه قراهم وبيئاتهم. فلما دخلها وتأملها وتأمل أهلها مليًا.. وقف على أعلى الأماكن ارتفاعًا فيها كعادته، وطفق ينادي بأعلى صوته: "يا أهل هذه القرية.. هلُمّ إلي جميعكم، كبيركم وصغيركم، فلدي ما أقوله لكم، وما فيه نفع لكم ولقريتكم، هلم إلي أحدثكم، هلم إلي!".
فلما سمعه الناس، استنكروه، فعلموا أنه غريب عنهم، وذهب نصفهم إليه ليسمعوا ما سيقول، ولم يأبه به نصفهم الآخر؛ إما لانشغالهم بما هو أهم منه بالنسبة لهم، وإما لأنه غريب لا يهمهم أمره، وبالتالي لا يهمهم أمر نفعهم ونفع قريتهم كما يدّعي.
ولما جلس إليه من جلس، تفحص وجوههم ثم قال: "أيها الناس، اعلموا أني أطوف بين قرى هذه الأرض منذ خلقها الله، وما كان تطوافي بينها لحب الأسفار ولا لخلو الديار، ولكنه تطواف رسول مبلّغ قد أرته الحياة من الناس أخبارها بكل ما فيها من سعادة وشقاء، ومن بقاء وفناء، ومن هبوط واعتلاء.. أيها الناس.. إني قد جمعت لكم من أخبار القرى من غيركم ما فيه بلاغ لكم، أعظكم به موعظةً تستبصرون بها بواطن الأمور ومآلاتها، فتجتنبون المهالك وأبوابها، وترِدون النجاة وأسبابها، فاستمعوا إلي" ..
وطفق يحدثهم عن آلاف القرى التي زارها وعن أمرها وأمر أهلها وكيف عاشوا وكيف بادوا، وكيف اندثرت ديارهم من بعدهم ولماذا اندثرت، وأخذ يتحدث عن كل شيء، لم يهمل شيئًا بالرغم من كبر سنه إلا بعض التفاصيل.
البعض منهم قد ملّ حديثه وظن أن الأمر لا يعنيه ولا فائدة ترجى منه فخرج، أما جُلّهم فقد كان يستمع له كما يستمع لقصص أو حكايات شعبية قديمة وكأن الأمر لا يعنيه أو يعني قريته. وأما القليل منهم فكان يستمع وقد بلغه مراد الشيخ من حديثه، فاستقرّ في نفسه وأخذ يقلّبه فيها ويتدبّره مليًا، حتى استنبط من هذا الحديث فحواه، وتنبأ للرسائل الكامنة فيه، فاعتزم رأيه واتخذ قراره أن ينقاد لما فيها من أوامرٍ خفيّة..وكان هؤلاء يُعرفون بـ" أهل القلّة".
فلما فرغ الشيخ من حديثه قال: "أما وهذا حديثي قد بلغته لكم، فلتأذنوا لي أن أجاوركم في دياركم وأتخذ لي في أطراف قريتكم مأوًى أبيت فيه، لأدوّن أخباركم ..وأنظر كيف تصنعون بعد مقالتي هذه لكم ". فأذنوا له.
فصار في ربوةٍ عالية من أطراف القرية ينظر من بعيد ويكتب ويدوّن، والناس منه في شغل، وهو كذلك لا يعبأ بهم، وهكذا دأب يكتب يومًا بعد آخر..
أما القرية..  فلم يتغير من أمرها شيء سوا أن "أهل القلة" الذين وعوا كلام الشيخ وفهموا غايته وعقلوها قد تغيّرت طبائعهم وأعمالهم ونظرتهم للأمور بشكل أفضل.. بشكل يؤمّن حياتهم ويحفظها ويطيل أمدها وهم بوفرة من العيش والرزق، وقد أصبحوا يتجنبون كل ما من شأنه أن يودي بهم نحو الهلاك.. أما الباقون فلم يتغير من أمرهم شيء وقد استمروا على ما هم عليه، وربما أن بعضهم قد وضع قدميه على طريق الهلاك دون أن يشعر فانزلق في الهاوية.

وفي يوم من الأيام.. أُذيع في القرية أن هنالك إعصارًا قويًا سيضربها وأنه سيصل إليها في مدة أقصاها يوم فقط، فضجّت القرية بأمره، وفزع الناس.. وهرعوا يبحثون عن النجاة وأسبابها، أما "أهل القلّة" فكانوا يبدون مطمئنين هادئين لم يرُعهم نبأ هذا الإعصار، كأنهم كانوا يعدون العدة له ولمثله من قبل، فكانت بيوتهم الجديدة التي بنوها بعد مقالة الشيخ قد بُنيت من مواد قويّة وصلبة وصممت على قواعد ثابتة وراسخة، فضلًا عما تحتويه من  أسباب العيش الكريم والهادئ الذي يورثهم الشعور بالأمان والراحة، وأما الشيخ.. فكان يكتب كل ذلك ويدوّنه!
وصل الإعصار إلى القرية سريعًا، ولم يسعف الوقت الباقين كي يحتموا منه، وقد بدأ أول ما بدأ في هيئة أمطار شديدة وغزيرة، ورياح متوسطة، وقد جعل استمرار المطر وغزارته الأودية من حول القرية تسيل وتندفع في سيلها بشدة صوب القرية، فلجّ الناس واخترقت صرخاتهم السماء، واحتمى من احتمى فوق الأشجار أو البيوت أو أي شيء يبدو مرتفعًا عن ما عداه، أما "أهل القلّة" فقد اعتلوا أسطح منازلهم التي كانت الأعلى من بين المنازل الأخرى؛ فنجوا ونجت منازلهم. أما الآخرين؛ فقد دمر السيل منازل الضعفاء منهم والتي كانت هشّة متصدعة تنتظر أي فرصة لها لتسقط. وأما منازل الكثرةِ منهم فلم تسقط ولكن صدّعها السيل، وإذا تكرر الأمر مرات أخرى فإنها حتمًا ستسقط.. وقد كان الشيخ يكتب كلّ ذلك بالتفصيل
ومن رحمة الله أن الإعصار لم يستمر، فقد انعطف نحو جهة أخرى وابتعد عن القرية.وأخذ الضعفاء الناجون منه يندبون أهلهم وبيوتهم وحظهم السيء، وينظرون بحسدٍ "أهل القلّة" الذين لم ينلهم الإعصار بشيء. أما الذين صدع السيل بيوتهم فقد استفاد بعضهم من هذه التجربة ووعى كلام الشيخ، فقام ببناء بيت له كبيوت أهل القلة، وصار منهم ومثلهم في كل شيء. أما البعض الآخر فحمد الله على النجاة، ولم يقم بإصلاح ما أفسده السيل متذرعًا أن جدران بيته ما زالت قوية ويمكنها الاحتمال إذا ما حدثت أمور مشابهة مرات أخرى! ولكن هذا الأمر قد كُتب أنه مستحيل في كتاب الأيام ولا يحدث إلا في خيالات البشر وأمانيهم، فقد مضت الأيام وتوالت المصائب والبلايا على القرية، وفي كل مرة تسقط بيوتٌ ويموت أناسٌ أو يتشردون، ويزداد الصدع في جدران البيوت المتصدعة فيتعظ بعض أهلها، أو يسوّف الأمر بعضهم الآخر ويؤملون النجاة في كل مرة. ولكن الخراب لا يأتي إلا من خراب، ولئن كان الخراب صفةً في الإنسانية؛ فالسلام عليها والسلام على الدنيا من حولها! ولن ينجو من هذا الشر المستطير والبلاء النازل أبدًا إلا قلّة.. كان يكتب الشيخ عنهم دائمًا في كل مرّة أنهم "قلّة"
تمّت..

*************




*الشيخ : "التاريخ" بسننه وحوادثه ..
*القرية: "العصر، أو الحقبة الزمنية"
*أهل القرية: "الأمم" التي تعيش في ذات العصر أو الحقبة.
*الإعصار والمصائب: هي "السنن والنواميس والحوادث" والتي تكرر دائمًا وإن اختلفت المسميات والأشكال..

هناك تعليق واحد:

  1. أسعدك الله بودي تنتبهين لصورة عرضك تويتر ❤️

    ردحذف