السبت، 13 أبريل 2019

وأصبحتُ للقرآن حافظة

في البدء كانت أمنية

كانت أمنية حفظ القرآن أمنية قديمة جديدة، ثم يسّرها الله لي فأصبحت واقعًا، ولله الحمد من قبل ومن بعد.. لم أكن جادّة في أمر هذه الأمنية، كانت تراوحني في خطرات نفسي وحسب، ولكن قبل التخرج من الجامعة بقليل وفي فترة التدريب الميداني بالذات؛ كنت أتناقش مع الصديقات عن خططهن بعد التخرج، قالت إحداهن: "سأسجّل بإذن الله في معهد البيان لإعداد معلمات القرآن" كانت هذه المرة الأولى التي سمعت فيها باسم المعهد رغم أنه مضى على افتتاحه في مدينتنا وقتها سنوات! سألتها عن المعهد وعن طريقة دراستهم فيه، فأجابتني بأن مدة الدراسة فيه سنتان تحفظ الطالبة فيها القرآن مع دراسة بعض المواد الشرعية.. والتركيز على التجويد، أثارتني الفكرة منذ ذلك اليوم وألهبتني! حفظ القرآن مع طلب العلم الشرعي! نور على نور! خاصةً مع شحّ الوظائف وقلة فرصها في تخصصي (الإعاقة العقلية)، فلأتوكل على الله إذن وأسجّل في المعهد في العام القابل! بعدها اتصلتُ على المعهد وتفاجأت بانتهاء التسجيل للعام القابل.. أُصبتُ بإحباط، خاصة مع ما سمعته من تشدد المعهد في قبول الطالبات، وأن الأولوية لمن تحفظ أجزاء أكثر من القرآن واكتسبت حظًا لا بأس به من التجويد، وأنا والله المستعان لم أكن أحفظ وقتها إلا خمسة أجزاء؛ أنساها أحيانًا وأذكرها أحيانًا، أما التجويد؛ فلي منه حصيلة لا بأس بها اكتسبتها من المرحلة الابتدائية، لم أزل أدعُ الله بعدها أن يجعلني من المقبولات في المعهد ويكرمني بحفظ كتابه، ولم تمر سنة ورأيت إعلان فتح باب التسجيل في المعهد حتى بادرت إلى التسجيل، وبحمد الله وكرمه قُبلت.

"كتاب أنزلناه إليك مبارك"

ابتدأ العام الدراسي وحانت ساعة تحقيق الحلم، أتيت إلى مقاعد الدراسة يحدوني هذا الأمل البعيد..أترقب البلوغ إليه والوصول، وابتدأ هذا الحلم بسورة يس، في اليوم الأول.. حين أخبرتنا الأستاذة بنصاب الحفظ المطلوب عدت إلى البيت متحمسة، أغذ مسيري في الحفظ، أتلذذ بترنيم الآيات، أهتاج لمعانيها وألفاظها، تأسرني فصاحتها..رُزقت حفظًا سريعًا لا بأس به، وحسن ربط بين الآيات أشكر الله عليه، لا ريب أن طريقي سيكون معبدًا بالورود..الحمدلله، لكن لم يكن الأمر بهذا الانبساط؛ فحين جاء اليوم التالي وابتدأت الأستاذة بالتسميع لنا صدمني تدقيقها على التجويد! وسأؤجل الحديث عن مشكلتي مع التجويد في حينه، حيث أوشك أن يكون حجر عثرة تعرقلني عن المواصلة مع المعهد، ولكن الأمر لم يدم كذلك والحمدلله.
 المهم أني مضيت بطريقي مع القرآن، تغمرني أنواره وتتنزّل عليّ بركاته..لا شيء يصف افتخار نفسك وهناءة روحك حين تقضي مع القرآن جُلّ يومك.. يومك الذي قد يخلو من الإنجازات أحيانًا، يغدو باردًا ثقيلًا أحيانًا؛ يأبى القرآن إلا أن يضع قيمة وروحًا فيه! أي شيء أجلى للروح وأنقى للقلب وأثقل في موازين اليوم من تلاوة كلام ربك وترديد آياته وحرصك على تجويده وتحبيره غضًا طريًا كما أنزل وتقليب نظرك وفكرك في معانيه؟ والله الذي لا إله إلا هو إنها للذة عظيمة! أسأل الله أن يجعله ربيع قلوبنا ما حيينا.
ولا أخفيكم أنني كنت أتضايق أحيانًا من استحواذ القرآن على جل وقتي، وتفويتي لخطط ومهام كثيرة لأجله، ولَكم استعجلت في حفظه وترديده حتى ألحق على غيره، ولكنني كنت مخطئة، وفوّت على نفسي خيرًا كثيرًا بسبب هذا، فبقدر ما تعطي من القرآن يعطيك، قد لا يعطيك رزقًا ظاهرًا أو أمرًا محسوسًا، أو حتى بركة في وقتك وجهدك -فاليوم هو اليوم ٢٤ ساعة، فلا تحمله ما لا يسعه من المهام!- ولكنه لا ريب سيعطيك أجرًا، فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، ولكنه لا ريب سيعطيك رشدًا وهداية، ولكنه لا ريب سيدافع عنك ويشفع لك يوم القيامة بإذن الله، ولكنه لا ريب سيجعلك تحظى بهذه المكانة العلية والمرتبة السنيّة حين يختارك الله أن تكون من أهله.. من أهل الله! وهذه صفوة علويّة لن ينال شرفها إلا أهل القرآن!
روى ابن ماجة وأحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ ) قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : ( هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ) وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة"؛ أظن أن هذا الحديث العظيم وحده وقود كافٍ لكي تجاهد نفسك على مصاحبة القرآن وتكون من أهله تلاوةً وعملًا!

ولم تقتصر أفضال القرآن عليّ في الوقت وبركته وتنظيمه، بل امتدّت والله إلى أشياءٍ كُثر تقال ولا تُقال، من انشراح الصدر وتذليل الصعاب وتيسير الأمور بشكل عجيب.. بركات القرآن عظيمة :" ما مسّ القرآن شيئًا إلا باركه!" ومن جرّب عرف، فقط أقبل عليه بصدق واسأل الله أن يجعله ربيع قلبك وسترى من صلاح حالك وتيسير أمرك ما لا يخطر على بالك! :

"من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن!"

"يهدي به الله من اتّبع رضوانه سُبل السلام"

ما أُنزل القرآن إلا ليُعمل به، عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال:
"كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلمهن ونعمل بهن، ونعلمهن، ونعلم حلالهن وحرامهن، فأوتينا العلم والعمل"
هذا هو الأصل، وهذا الذي يطالب به كل مسلم، وهو من حافظ القرآن أجدر وأحرى لأنه جمع القرآن في صدره فهو أحق أن يعمل به..الأمر مخوفٌ حقًا! لأنك إن حفظت القرآن ولم تعمل به كان حجةً عليك لا لك! لكن لنرى الأمر من جانب آخر: أن تحفظ القرآن يعني = أن تتذكر الآية عند كل موقف يذكرك بها فتعمل بما فيها..أن تحفظ القرآن يعني = أن ترسّخ الآيات في قلبك أكثر عند كل ترديد لها فيعينك على العمل بها! وصدّقني.. لن يرسخ حفظك ويثبت إلا بحسب تأثرك بالآيات واستشعار عظمة مُنزلها سبحانه وأنه يخاطبك أنت أولًا لتعمل بها! تجد كثيرًا من الناس يخطئون في آيات السورة الواحدة ولكن عند وصولهم إلى آية معينة أو عدة آيات يسردونها سردًا بلا خطأ! لماذا؟ لأنها لامستهم وأثّرت بهم.. فماذا لو مرّرنا مجسّ أرواحنا وأيقظنا أعين قلوبنا عند كل آية واستشعرنا أنها كلام رب العالمين يريدنا أن نفهم مرادها ونغوص في أسرارها ونعمل بما فيها؟ لا ريب أن قراءتنا للقرآن ستتغير، وحفظنا كذلك سيتغيّر
لا أخفيكم أن فكرة حفظي للقرآن ستكون حجة عليّ إن لم أعمل بما فيه كادت تجعلني أحيانًا أحجم عن مواصلة الحفظ، ولكن حسبي وحسبنا جميعًا قوله -صلى الله عليه وسلم- :"استقيموا لن تحصوا" ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. وكما أن ارتباط الحفظ بالعمل قد يكون هاجسًا ومدخلًا للشيطان أحيانًا، فهو أيضًا مانعٌ وعاصم أحيانًا؛ حين تهم بفعل معصية وتستحيي من كلام الله الذي في صدرك.. حين تصرخ عليك نفسك اللوّامة قائلة: "أهكذا يفعل حافظ القرآن!" فتعود أدراجك مستعيذًا بالله من شر الشيطان، ويكفيك القرآن معصيتك ويخرجك من الظلمة إلى النور، والحمدلله!
وفيما يتعلق كذلك برسوخ الحفظ وثبوته واعتماده على العمل؛ تروي لنا معلمتنا قصة مؤثرة عن طالبة كانت تبتعد عن مجالس الغيبة والنميمة وتكره الخوض في الناس؛ وكانت من أجل ذلك من أتقن الطالبات وأضبطهم حفظًا، وفي يوم من الأيام حين قرأت عند المعلمة أخطأت في آية، وبعد انتهاء الحلقة وجدنْها صديقاتها تبكي، فسألنْها عن السبب؟ فقالت: "أنا أعلم لم أخطأت اليوم في الآية، لأنني بالأمس كنت جالسة مع أهلي وشاركتهم في الغيبة بفلانة!"، ويحكي الحافظ بن حجر -رحمه الله- عن رجل كان ينسى القرآن لكثرة وقيعته في الناس ! فتأمّل :" وصدق من قال :"ونورُ الله لا يؤتى لعاصي" ! 

"غضًّا طريًّا كما أُنزل"

قلت سابقًا أن المعلمة لم تعبأ كثيرًا بجمال التغني وحسن الصوت ولا بإتقان الحفظ، كان شغلها الأكبر التجويد! وأشياء أسمعها لأول مرة! : "لا تهمسي في التاء..ضُمي الشفتين عند المضموم.. اكسري جيدًا.. افتحي جيدًا...إلخ" ما هذا؟! ليس بالتجويد الذي أعرفه!! كنت أعرف الإخفاء، الإظهار، الإدغام، القلقلة، المدود.. أما هذه الأشياء فمن أين جاءت؟؟ شعرت بالضجر.. الطريق الواسع الذي بدأته بحماسة بات يضيق ويتوعّر.. فكّرت بالانسحاب من المعهد، ولبثت وقتًا يتنازعني هذا الأمر، لكني قررت أن أتصبّر لأجل القرآن والمواد الأخرى، فما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه.. فقبلت به على مضض صابرة على مكارهه، ولم يكن نفوري منه من هوًى في نفسي أو متابعةً لقلبي فقط، بل لأني كنت مقتنعة بـ"ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر" وأن الأمر لا يحتاج لكل هذا التعقيد.. لا يحتاج الأمر إلى إتمام الضم أو الفتح أو الكسر؛ يكفي أن يدرك السامع أن هذا الحرف مضموم أو مفتوح أو مكسور.. لا يحتاج الأمر إلى مبالغة! ولا يحتاج الأمر أن أخرج الحروف من مخارجها الدقيقة المحقّقة.. ما المانع إن لم أفخّم الراء التفخيم المطلوب ؟ أو أن لا أهمس في الثاء الهمس المطلوب؟ أو أن تخرج الغنّة في بعض المواضع؟ يقولون هذا من أجل الفصاحة، وأن العرب كانت تنطق هكذا، والقرآن نزل بعربية مبينة.. نعم صحيح، ولكني لا أعتقد بوجوب هذا الأمر، وكنت أرى بأنه تشديد وتعسير وعائق عن فهم الآيات وتدبرها، وليس هذا من عندي.. بل قال به كبار العلماء كابن عثيمين رحمه الله وغيرهم، ثم إني لا أتصور أن العرب أو الصحابة رضوان الله عليهم كانوا على درجة واحدة من الفصاحة وضبط المخارج لكي يصبح نطقهم مقياسًا نحاكم به، الصحيح أن نقول بأن الأفصح والأكمل هكذا، لا أن نقول أن العرب تنطق هكذا، (طبعًا أعني بالتجويد هنا ما يُعنى بتحسين الأداء وتكميله، أو ما يخصّ اللحن الخفي، وهو اللحن الذي لا يعلمه ولا يكتشفه إلا علماء القرّاء وأهل الأداء، أما اللحن الجلي كإبدال حرف بحرف مثل إبدال التاء طاء كمن يقرأ "قانتين" "قانطين"، أو تغيير الحركة، أو زيادة حرف أو نقصان حرف؛ فهذا اللحن متفق على حرمته إن تعمده القارئ، ويأثم من أهمل تعلمه مع قدرته عليه).
استمر حالي مع التجويد "على المزاج".. آخذ منه وأدع بحسب إقبالي عليه أو إدباري منه، أو لأجل الدرجات فقط، وانتهت السنة الأولى في المعهد على ذلك، حتى جاءت السنة الثانية ولا أدري ما الذي تغيّر بي حتى اقتربت منه أكثر؛ ربما هو دعائي الدائم بأن يفتح الله عليّ في أمره ويذيب الجليد بيني وبينه؟ ربما لأني استشعرت جمال التجويد وبدأت أذني تدرك الفرق بين قراءتي القرآن قراءة مجوّدة وقراءة عادية؟ ربما لأني تذوقت حقًا جمال الفصاحة ومعنى إخراج الحروف من مخارجها المحققة.. صحيحة وعميقة؛ وكأنك لا تُخرج الحرف إلا وتسحب معه شحناتك السلبية إلى الخارج؟ ربما لأني أدركت معه جمال البلاغة المتمثّلة بتناسب التراكيب مع المعاني؟ لا أدري.. ولكنه حقًا شعورٌ لذيذ لم أجد أفضل من محمد عبدالله دراز حين شرحه وقال:

"...إن أول شيء أحسّته الأذن العربية في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قُسّمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط يساعد على ترجيع الصوت وتهادي النفس فيه آنًا بعد آن، إلى أن يصل إلى  الفاصلة الأخرى فيجد عندها راحته العظمى. وهذا النحو من التنظيم الصوتي إن كانت العرب قد عمدت إلى شيء منه في أشعارها فذهبت فيها إلى حد الإسراف في الاستهواء ثم إلى حد الإملال في التكرير، فإنها ما كانت تعهده قط ولا كان يتهيأ لها بتلك السهولة في منثور كلامها سواء منه المرسل والمسجوع، بل كان يقع لها في أجود نثرها عيوبٌ تغض من سلاسة تركيبه، ولا يمكن معها إجادة ترتيله إلا بإدخال شيء عليه أو حذف شيء منه.
لا عجب إذًا أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن في خيال العرب أنه شعر؛ لأنها وجدت في توقيعه هزة لا تجد شيئًا منها إلا في الشعر، ولا عجب أن ترجع إلى أنفسها فتقول: ما هو بشعر؛ لأنه -كما قال الوليد بن المغيرة- ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، ثم لا عجب أن تجعل مردّ هذه الحيرة أخيرًا إلى أنه ضرب من السحر؛ لأنه جمع بين طرفي الإطلاق والتقييد في حد وسط: فكان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته.
فإذا ما اقتربت بأذنك قليلًا قليلًا، فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة؛ فاجأتك لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها؛ هذا ينقر، وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع يجهر، وآخر ينزلق عليه النفس، وآخر يحتبس عنده النفس، وهلم جرّا، فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة.. لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا معاظلة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلامًا امتزجت فيه جزالة البادية وفخامتها برقة الحاضرة وسلاستها، وقُدّر فيه الأمران تقديرًا لا يبغي بعضهما على بعض، فإذا مزيجٌ منهما كأنما هو عصارة اللغتين وسلالتهما..."

نعم ما زلتُ عند الرأي القائل بعدم وجوب القراءة بالتجويد (أعني بالتقيد بأحكام القراءة والأداء من مخارج وصفات وغيرها) ولكنه والله أفضل.. ولكنه والله أكمل.. ولكنه والله أجمل! ولكنه والله أطرب للأسماع وأروح للقلوب وأقرب للفصاحة، ومن له حاسّة وبصر في الأصوات والجمال الإيقاعي في اللغة العربية وإيحاءات الحروف واستعملاتها عرف ولم ينكر، وأذعن لسلطان الجمال الإيقاعي القاهر المتمثل في تجويد أفصح كلام عرفه البشر، وإني اليوم أحمد الله أن علمني التجويد ويسّر لي تطبيقه، وأدعو من أراد تعلمه ألّا يتردد ويحجم، ويحتسب في تعلمه أن يقرأ القرآن كما قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا والله أعلم وأحكم.

"يرفع الله بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين"

من النماذج الملهمة التي أثّرت بي أثناء دراستي في المعهد والتي تستحق أن تُذكر
-طبيبة سودانية، في الوقت الذي تعمل به في أحد المستشفيات كانت تدرس في المعهد! وكأني أرى الآن وجهها المتعب وهالاتها السوداء التي أظلّت نصف خديها.. كانت كثيرًا ما تأتي إلى المعهد بلا نوم بسبب ظروف عملها، كنت أراها أحيانًا جالسةً على الكرسي والنوم يُرنّح رأسها..كانت تتغيب كثيرًا، ورغم التعب والنصب لا زالت تأتي في إصرار عجيب! وكأنه قد قيل لها بأن هذه فرصتك الأخيرة في حفظ القرآن، فإما هي أو لا! هي والله في جهاد عظيم.. أسأل الله أن ييسر أمرها ويبلغها مرادها ويخلف عليها في وقتها وجهدتها خيرًا كما أخلفت منه لكتابه.
-نموذج آخر لموظّفة أخرى، ولكنها هذه المرة مُعلّمة متميزة استقالت من وظيفتها في إحدى المدارس الأهلية، حين سألتها إدارة مدرستها عن السبب؟ قالت بأنها تريد أن تُقدّم شيئًا لآخرتها بحفظ القرآن :" وهكذا سجّلت في المعهد وبدأت طريق هذه الأمنية.. تذكرت أيضًا إحداهن تصف ترددها وتنقلها بين الوظائف والأعمال وتجاذب الدنيا لها؛ تحكي عن إنهاك روحها قائلة: "أنا (صفّقتني) الدنيا يمنة ويُسرة وتعبت، فأبيتُ هذه المرة إلا أن أستظلّ من حرّها ووعثائها وأُفيء روحي في رياض القرآن، فسجّلت في المعهد!".
-نموذج آخر لطالبة كانت تدرس في حلقتنا حكت عن تجربتها في الجلسة؛ ومن عادة المعهد أن تعقد كل حلقة جلسةً في نهاية الفصل الدراسي بين الطالبات والمعلمة تتبادلن فيها الأحاديث العفوية والنصائح والإرشادات، وكان من بين الأحاديث السائرة سؤال طرحته المعلمة عن تأثير القرآن والمعهد على كل طالبة منا، فأجابت هذه الطالبة بأنها لأول مرة تكاشفنا وتخبرنا عن هذا الأمر؛ وهو أنها مُصابة باكتئاب مزمن، وأن حفظ القرآن فتح بداخلها منفذَ نور وشرفة سعادة لاحظ وجودها زوجها وأهلها فاستبشروا به خيرًا.. وقد كانت ترجو هذه الطالبة أن يديم عليها هذه النعمة ويتمها، ولكنها للأسف لم تواصل معنا، إذ أنها كانت أستاذةً جامعية تداوم يومين في الجامعة وباقي الأيام في المعهد- وقد سمحت لها إدارة المعهد بذلك تشجيعًا منهم للطالبات جزاهم الله خيرًا- وكانت تحكي لنا عن الضغط الشديد والانشغال الذي تمر به، بالإضافة إلى مسؤوليتها كزوجة وأم لطفلتها الرضيعة، ولكنها رغم ذلك جاهدت وكافحت لأجل ذلك النور حتى اضطرت إلى الانسحاب مؤخرًا بسبب تكليف الجامعة لها بمهمات أكثر، أسأل الله أن يبلغها مرادها ويسعدها في الدارين.
-نموذج أخير..وهو من النماذج المؤسفة في مجتمعنا حقيقة، والتي تعبّر عن نظرة كثير من الأزواج للمرأة ومكانتها، والتي تعبر أيضًا بشكل آخر عن قلة قيمة القرآن وهوانه في نفوس كثير من العامة جهلًا أو استخفافًا! تحكي معلمتنا عن طالبة من الطالبات اللاتي درستهن أنها كانت كثيرًا ما تأتي إلى المعهد غير حافظة لنصابها أو بحفظ ركيك، وكانت كثيرًا ما تبدو آثار التعب والإرهاق باديةً على وجهها، تقول معلمتنا : "أخذتها مرة على انفراد وسألتها عن سبب حفظها الركيك، فأجابتني بأن زوجها يكره أن تذهب إلى المعهد، ويكره أن يراها تحفظ القرآن! وهو لأجل أن يضيق عليها حتى تترك المعهد كان كثيرًا ما يعمد إلى استضافة أصحابه ومعارفه عنده في المنزل، ويجلسهم إلى ساعة متأخرة من الليل لكي يجبر المسكينة أن تهيء لهم وتطبخ لهم العشاء وتهتم بأمرهم!، والمسكينة لا تطيق أن تعترض أو تقول شيئًا لكي لا يمنعها من المعهد منعًا مؤبدًا، فهي لذلك ترضخ وتتعب!" لا حول ولا قوة إلا بالله.. إلى متى يعتقد بعض الرجال أن المرأة ما خلقت إلا للبيت والأولاد ؟! إلى متى لا يفهمون أن المرأة كما الرجل كائنٌ خُلق بعقل وفكر وشعور وطموحات وأشواق؟! ودعكَ من الطموحات والأحلام البعيدة..هذه المسكينة لم تطمح إلا لحفظ القرآن ! لم تطمح لأمر دنيوي قد يفسد عليها دينها ودنياها كما يتوجس البعض.. حفظ القرآن، وأكرم به من شغلٍ وأكرم بها من مشغول! المفترض أن يرضى عنها الزوج وهو مغمض العينين بلا تفكير، ولا يضطرها مثلًا أن تشرط في عقد الزواج أن تكمل الدراسة في المعهد! كمت فعلت إحدى الطالبات معنا حين خُطبت أثناء الدراسة واشترطت على زوجها في العقد أن تكمل في المعهد توجسًا من أن يمنعها! والله المستعان على بعض العقول.. والله المستعان على غضاضة شأن القرآن في النفوس!

"ومعلم القرآن أجمل من يُرى"

ومعلم القرآن أجمل من يُرى
لا ذاقت العينان فقد جمالهِ..
ما ذاك إلا والدٌ مِن حولهِ
أبناؤهُ ، حمل الهُدى لعيالهِ

*أمل الشيخ 

ما أصدق ما وصفت به الشاعرة معلّم القرآن! واللهِ في حياتي لم أرَ أصفى قلبًا ولا أصدق عطاءً ولا أحلى خُلقًا ولا أدوم ابتسامةً من معلمة القرآن وبضع معلمات هنا وهناك من مراحلي الدراسية! تراها تجلس في الحلقة كما يجلس معلم أمام طلابه، غير أنها كما حكى الربيع بن سليمان عن الشافعي حين قال له :"يا ربيع ! لو قدِرْتُ أن أطعمك العلم لأطعمتُك إياه!" وهي والله تطعمنا إياه بصبر وحب.. وبلا جفاءٍ أو استحقار أو لمز بفهم الطالبة أو قدراتها.. بلا ترفّع بعلمها أو اغترار، هذا في الحلقة فما بالك بخارج الحلقة ! كأنها مع طالباتها صديقتهنّ.. أو أختهنّ! جزى الله معلماتنا عنا خيرًا كثيرًا.. والله إن كل واحدة منهن تركت فيّ أثرًا لا يُمحى..

"وصحبة أهل القرآن قطعة من الجنة"

قبل أيام بينما أنا جالسة مع صديقات الحَلقَة نتجاذب الأحاديث؛ أخذنا نتساءل عن رأي كل واحدة في الأخريات وماذا كان شعورها حين رأتنا لأول مرة، قالت إحداهن:" هناك واحدة منا حين رأيتها لأول مرة كانت تبدو كالمغرورة في مشيتها ونظراتها وأسلوب كلامها، فقلت في نفسي: أعانني الله عليها فأنا لا أحب المغرورين :) ثم حين جالستها وعرفتها عن قرب تغيّرت نظرتي عنها تمامًا"، وللأسف أن هذه البنت هي أنا :) ولكن في نظرتها هذه وجه من الصحّة، فأنا حين أتيت للمعهد كنت أظن أن مجتمعه كمجتمع الجامعة؛ حيث التصنع في المظهر وحتى المشاعر، حيث المصالح و"نفسي نفسي"، حيث النظرات المتوجسة تدور بين البنات في اللقاءات والتعارف الأول.. حيث العبوس في الوجوه، والتشامخ في المشية طلبًا للهيبة المزعومة.. حيث التكلف الزائد والعفوية الشحيحة، هكذا أتيت للمعهد حاملةً معي أخلاق الجامعة.. إن لم يكن طبعًا فتطبّعًا ومسايرةً لمن حولي، وأجزم أن ذلك خطأ مني فالمفترض أن أن أفرض للناس أخلاقي وشخصيتي لا أن يفرضوها هم عليّ، ولكن الإنسان يتأثر، أو فلنقل يصانع لجلب مصلحة أو دفع مفسدة.. المهم هو أن هذا ما جعل الفتاة تعتقد أنه غرور مني، بالإضافة إلى أني -غفر الله لي- كنت أجد في نفسي اعتدادًا بثقافتي وبما لدي من فكر وموهبة.. والحمدلله الذي أراني حجمي وردّني إلى التواضع والإخبات، المهم أني تفاجأت بمجتمع المعهد ومجتمع أهل القرآن عمومًا! أرواحٌ من الزلال صافية.. تمحو الزلة ولا تستبقي الخطيئة، أفئدتهم على بعضهم وكأنهم خلقوا من فؤاد واحد، يبادرون إلى الكلمة الطيبة لا يتركونها حبيسة ألسنتهم، التبسم لا يفارق شفاههم، التعاون والإيثار سيّدا مواقفهم، التواضع..رغم أن بعضهم بلغ من العلم والمكانة ما بلغ إلا أنه يمشي مُتطامنًا كأن على رأسه الطير، العفوية تنساب بينهم بلا رسوم أو تكاليف؛ أذكر أني مرة في بداية المعهد كنتت جالسة مع زميلات لي من المستوى الثالث-أي ممن سبقوني في الدراسة وعلى أعتاب التخرج- وكنا نشرب القهوة، فجاءت أخت مصرية بلا مقدمات ومدّت كأسها قائلة :"أنا أحب القهوة العربية، اسكبن لي فضلًا!" فأخذت زميلتي الكأس وسكبت لها بكل سرور، ومضت الأخت، بينما أنا أثار هذا التصرف استغرابي! سألت زميلتي :"هل تعرفنها من قبل؟" فابتسمت وقالت :"ليس تمامًا، هي فقط معنا في نفس المستوى" فأخبرتها أني استغربت مجيئها لنا وطلبها للقهوة بلا مقدمات، فأجابتني مبتسمة :"نحن هكذا في المعهد؛ طبيعي أن تري من يعرفك ومن لا يعرفك يتحدث معك ويطلب منك أو يعطيك هكذا بلا سابقة تعارف!" أحببت هذا الالتمام الذي وجدته هنا.. ولو كان هذا التصرف في مكان آخر لاعتبرناه نوعًا من "القطّة" أو الفضول المتطفّل! "إنما المؤمنون إخوة" هكذا يربي القرآن أهله ويخبرهم أن الإيمان رابطة وحيدة جامعة تلغي كل الحواجز! سنتان بصحبة أهل القرآن وقربهم غيرت فيّ الكثير.. هم فعلًا قطعة من الجنة! أسأل الله أن لا يحرمني وصالهم ويجمعنا على القرآن والخير في الدنيا والآخرة.

"الفضل فضل الله لا فضل الكفاح"

الحمدلله الذي بلغّني.. الحمدلله الذي يسّر لي وأعانني.. الحمدلله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله.. أسأل الله العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه ويتقبله مني ويجعله حجة لي لا عليّ، ويُلبس والديّ به تاج الوقار، وييسر لكل راغبٍ نوال هذه الأمنية العزيزة.
بقي فقط أن أشير إلى أمرين أحب أن لا يبقيا في صدري:
الأمر الأول: هو أن هذا الكتاب العزيز الذي لن ينهض حالنا ويستقيم أمرنا جميعًا إلا به واللهِ إنّا مقصّرون معه علمًا وتدبرًا وعملًا ! "نزل القرآن ليُعمل به فاتخذ الناس تلاوته عملًا!" * الحسن البصري.. بل حتى في التلاوة وهي أبسط الأشياء مقصّرون؛ ولا أعني بالتحديد قلة تلاوته وهجرانه بل حتى في كيفية قراءته ونطقه! فكم تفاجأت من كلمات قرآنية عديدة اكتشفتُ أني كنت أنطقها خطأً أو بتغيير حركاتها.. وأنا التي أزعم أني عاشقة للعربية وأني قد بلغت شأوًا في ألفاظها وكلماتها ! فلولا الله ثم السماع من القرّاء -الذي يلزمنا المعهد بالسماع لهم ٣ مرات كحد أدنى- لاستمررت على هذا الخطأ طوال عمري! ما ضرّنا قبل قراءة وردنا اليومي لو استمعنا إليه من قارئ مجوّد؟ ما ضرنا لو تعلمنا التجويد ولو تقليدًا واستماعًا وزيّنا به تلاوتنا؟ ما ضرّنا بدلًا من تشغيل القرآن في المذياع يصدح هكذا بلا إصغاءٍ في مطابخنا وبيوتنا لو أرعينا أسماعنا له وغرقنا في معانيه والتذذنا بنظمه ومبانيه ؟ كان السلف رحمهم الله تعالى يقولون: "ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن، لقول الله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، و(لعلّ) من الله واجبة
هذا كلام الله.. وهو كتابٌ عزيز؛ لا يُقرأ هكذا بلا تدقيق أو معرفة للنطق الصحيح، وهو رغم عزّته سهل وميُسّر؛ فالقرّاء تملأ تسجيلاتهم التطبيقات والانترنت، وليس علينا سوى أن نرعي أسماعنا له!

الأمر الثاني: وهو عن مكان القرآن في خططنا وإنجازاتنا؛ فأنا بفضل الله لو لم تنصحني أحد الأخوات قبل تخرجي من الجامعة بحفظ القرآن، ولو لم تدلني زميلتي على معهد البيان لم أكن لأحسب لحفظ القرآن ضمن خططي حسابًا! وهنا المشكلة؛ أن كثيرًا منا يعرف أنه سيجلس فارغًا بعد تخرجه إلى أن يكتب الله الوظيفة، وتراه يفكر في المهارات التي سيطورها ويبحث عن الدورات التي سيحضرها والأشياء التي سيجربها ولا تجد ضمن ذلك كله فراغًا للقرآن! فإن لم يستثمر الواحد منا فراغه وشبابه في حفظ القرآن وتعلمه فمتى سيفعل ذلك؟! المضحك المبكي في الموضوع أن البعض إذا أخبرته أنك تستثمر عطالتك حاليًا في حفظ القرآن زمّ شفتيه وردّ عليك بتشجيع باهت، وإذا أخبرته أنك تحضر الدورات في المجال الفلاني أو التي تهم تخصصك برقت عيناه رضًا وأثنى عليك وأمطرك بنصائح هنا وهناك عن فائدة هذه الدورات ومستقبلها! وكل هذا كما قلت سابقًا من غضاضة شأن القرآن في النفوس ومن استحواذ الدنيا والماديات على القلوب، رغم أنه :"من أراد الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن!"، وواللهِ لو علم هؤلاء عن أهل القرآن وما هم فيه من البركات والنعيم لتراموا عليه ترامي العِطاش على نبع الماء

ختامًا : حُقّ لصاحب القرآن أن يفرح بما منّ الله عليه من نعمة من غير غرور أو بطر؛ فالله سبحانه يقول: "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" وجاء في تفسيرها :
"قل - أيها الرسول - للناس: ما جاءكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن هو فضل من الله عليكم، ورحمة منه بكم، فبفضل الله عليكم ورحمته بكم بإنزال هذا القرآن فافرحوا لا بسواهما، فما جاءهم به محمد صلّى الله عليه وسلّم من ربه خير مما يجمعونه من حطام الدنيا الزائل" وحقٌ على من في بيته حافظ للقرآن أن يحتفي به كما يحتفي الناس بالمهندس أو الطبيب أو الفنان أو غيرهم؛ محتسبين في ذلك التذكير بشرف القرآن ومكانته ومكانة حامله حتى تلتفت إليه الأعين ويكون قدوة لغيره.. نسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص وينعم علينا بالقبول ويزين بالقرآن فِعالنا ويكون حجةً لنا لا علينا وسائقًا لنا ودليلًا إلى الجنات.. هذا ما لدي فإن كان من صواب فمن الله، وإن كان من خطأ فمن نفسي والشيطان.