السبت، 11 سبتمبر 2021

ألبانيا .. أرض النسور


أحب أن تكون لدي رؤى سابقة عن المدن والبلدان التي أسافر إليها.. لا تعجبني كثيرًا فكرة المفاجآت أو ترك الأمور للصدف والاكتشاف هنا؛ لأني أؤمن أن للمدن روحًا قد لا تأتلف مع أرواحنا، فنحن في السفر لا نمرّ مرورًا كعابري سبيل، أو ننزل ضيوفًا نُقرى ونُضاف في ثلاثة أيام، نحن نمكث أكثر من ذلك؛ فتُطرح المؤنة والكلفة بيننا وبين المدن.. وندخل مزاراتها ونلج أسواقها وحاراتها بلا استئذان.. نستألفها وتستألفنا، ونعقد صداقة وصحبة منها، وربما وقعنا في حبها! 

هكذا خطرت لنا ألبانيا، وقصدناها ولم نقصدها، ونزلناها كما ينزل إليها الضائع في لجّة الصحراء يبحث عن نار وقرى ثم لاحت له هي؛ لم تكن ألبانيا ضمن الخيارات المطروحة للسفر، كانت هناك وجهات أخرى ولكن بسبب كورونا وأمور أخرى متعلّقة بالفيزا وإجراءات السفر اخترناها هي بصفتها دولة مسلمة رفَدَت التاريخ الإسلامي والعثماني خاصة بإسهامات وشخصيات لا زلنا نُروى بمائها إلى اليوم؛ كالإمام العلَم ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، وآل أرناؤوط في الشام وإسهاماتهم في المجتمع، وهكذا انطلقنا إلى ألبانيا وبقايا التاريخ والقلاع والجسور العثمانية والمظاهر الإسلامية هي سائقُنا وهادينا، ولكن حين وصلنا صُدمنا باندثار الإسلام هناك! وقد تعمّدتُ هذه الكلمة :"اندثار"! فكأن الإسلام هناك كان عهدًا بائدًا انطوى عليها ألف عام، أو شيئًا من الأطلال وقصة من قصص البدو؛ فأنت إذا أردته ذهبت تتلمّسه في صحاريهم وتشدّ الرحال نحو مضاربهم ومراعيهم تسألهم عنه وتستبينه منهم! وهو -أي الإسلام- إذا أراد أن يكسر عزلته ويذهب إلى مدن الناس وحواضرهم نظروا إليه نظرة الغريب الطارئ ثم أطرقوا رؤوسهم ماضين في شؤونهم وحياتهم! نعم هكذا حال الإسلام في ألبانيا، والبلاد وإن كان غالبية سكانها من المسلمين إلا أن أكثرهم مسلمون بالاسم فقط غير ممارسين لشعائر دينهم؛ وأكثرهم -يا للأسف- منساقون لأوروبا مقلّدون للأوربيين في أساليب لباسهم وطعامهم وحياتهم، فتجد النساء يرتدين (الشورتات) والتنانير القصيرة جدًا التي لا تغطي إلا السوأتين، والرجال-وكذلك النساء- يملأ الوشم أجسادهم، هذا عدا انتشار الخمور والمسكرات في أكثر المطاعم تقريبا، وكذلك لحوم الخنازير، ولكن سيخفّ عجبك ويقل إنكارك حين تعلم القصة الكاملة لهذا التحول الكبير، فالبلاد رزحت تحت الشيوعية الظالمة بقيادة الطاغية أنور خوجة أربعين عامًا، وقد حارب هذا الطاغية الأديان ونكّل بأهلها إلى حدّ أنه أعلن أن ألبانيا دولة ملحدة لتصبح أول دولة في العالم تنص على أن دين الدولة هو الإلحاد! هنا خبر ما حدث لألبانيا في ظل أنور خوجة لمن أراد الاستزادة 

سقطت الشيوعية في ألبانيا في بداية التسعينيات، وبدأت البلاد منذ ذلك الحين تتحرر من قيودها وآثارها وتستكشف العالم الخارجي ببطء، وكان القطاع السياحي أهم حلقة وصل بين ألبانيا والعالم، وقد ركّزت الحكومة هناك على استثمار هذا القطاع عام ٢٠١٣م لما تتمتع به البلاد من طبيعة خلّابة وشواطئ ساحرة وبقايا تاريخية عريقة، فبدأت وفود السياح بالانهمار عليها خاصة من أوروبا بحكم القرب الجغرافي، حتى فاق عدد السياح عام ٢٠١٩ عددَ سكان البلاد أنفسهم؛ فبلغوا ٨ ملايين سائح.. وأرى أن التفات العرب لألبانيا في السنتين الأخيرتين بدأ يزداد، خاصة من الشعب المصري الشقيق كما رأيناهم هناك، وأنا وإن كنت لا أنوي العودة لألبانيا مرة أخرى لو أتيحت لي الفرصة إلا أني أشجع العرب والمسلمين على السياحة هناك لمن أراد ذلك، فحجاب المسلمات وصور السياح المسلمين هناك كفيل بإذن الله على تعزيز الإسلام في نفوس الألبان وتذكيرهم بماضيهم فيه، ورغم ذلك؛ فالشعب الألباني شعب ودود كريم، يشهد لذلك حسن تجاوبهم معنا.. فمثلًا كلمّا أضعنا طريقنا بالسيارة أو أردنا استشارتهم بشأن الأماكن التي ينصحوننا بالذهاب إليها؛ فقد يحرجك جمود ملامحهم أحيانًا ولكن إذا استوقفتهم وسألتهم فإن تلك الملامح ستسيل ودًا ورغبةً صادقة بالمساعدة رغم حاجز اللغة وأشياء أخرى، وتحس أن فيهم دفائن إسلامية تُريد أن تُستنطق؛ فإذا رأوا الحجاب أو عرفوا بأننا عرب مسلمون بادرونا بـ"السلام عليكم"، وأذكر أننا جلسنا نتحدث مع رجل ألباني في الخمسين من عمره فأخبرنا عن إحدى القلاع العجيبة عندهم فقلنا له:" ما شاء الله!" فتعجّب وقال أن هذه كلمة ألبانية يقولونها أحيانًا إذا رأوا ما يعجبهم، فأخبرناه بأنها كلمة إسلامية يقولها المسلمون جميعًا.. مثل هذه البقايا المسلمة المضيئة من ذلك العهد المشرق، ومثل هذه الشخصية الألبانية التي يتنازعها هويّتان وإن كانت إحداها مثل الرمق في الكأس قلّةً.. إلا أن هذه البقايا والنتف تثير في نفسك الحسرات، تعلّق قلبك فيها تعلّقه بالأمل الواهن.. لا يشعلك رجاءً ولا يخمدك يأسًا إلا أنه موجود؛ وكفى بوجوده معنًى وأمل.. أسأل الله الهداية لهم ولنا ولجميع المسلمين.. وينبغي أن أنوّه بأن مظاهر التفسّخ والانحلال قد يكون بعضها من السيّاح وبعضها من الألبان؛ لأن السياح الأوربيون هناك كثيرون جدًا لرخص البلاد، وأنا أتحدث عن هذه المظاهر في العاصمة والمدن الكبرى، أما القرى والأرياف فلم نمكث فيها، وأظن أن الحال فيها تختلف، إلا أنه بصورة عامة فإن عدد المحجبات الألبانيات التي رأيناهن قليل جدًا ويكاد يكون معدودًا بالأصابع؛ والله المستعان وهو أعلم..

تمتاز البلاد بتنوّع طبيعي خلّاب وساحر: جبال وسهول خضراء ما ترى فيها من فطور، وأنهار وبحيرات كثيرة دفّاقة، وبحر أزرق صافٍ كأنما هو السماء، غيومٌ كأنما هي القطن الملتف كثافة وامتلاء.. تلوّن بديعٌ رائق يجعلك تردد : 

يا أهل "ألبانيا" لله درّكم
ماء وظلّ وأنهارٌ وأشجارُ
ما جنّة الخلد إلا في دياركم
*ولو تخيّرتُ هذا كنتُ أختارُ

تنقّلنا بين طول البلاد وعرضها فزرنا ٥ مدن تقريبًا، وكل هذا التنقل كان بالسيارة لأنه لا يوجد مطار إلا في العاصمة تيرانا، ولا يوجد قطارات، وأطول مدة في تنقلنا كانت ٤ ساعات بين مدينة وأخرى، وأقلّها كان ساعة أو ساعتين؛ وهذه أكبر سلبيّة في هذه الرحلة الأمر الذي جعلها رحلة مرهقة وغير مستقرة بعض الشيء، فلو عاد بي الزمن واستقبلت من أمري ما استدبرت لاقتصرت على مدينتين أو ثلاث كحدّ أقصى مختارةً لذة التأني على ظفر اللحاق والسباق.. فلن تفوتَني جنة عدن ولو فوّتُ ما فوّت. ومن أبرز ما تلاحظه في ألبانيا هذه الفترة هو أن كورونا بدا وكأنها لم تحط في هذا البلد! فالغالبية العظمى من الناس لا يرتدون الكمامات، ولا يوجد جهاز كشف الحرارة في المحلات والمطاعم، ولا حتى في المطار! لأن الإصابات هناك قليلة جدًا، لقلة عدد السكان أصلًا ولاعتبارات أخرى ربما.. المهم أننا عدنا إلى وطننا سالمين غانمين لم يلحقنا مكروه ولله الحمد.
أرضٌ طيبة وشعب ودود هيّن رغم كل التناقضات والتباينات، ورحلة جميلة ماتعة رغم كل شيء.. والحمدلله على وطنٍ نقرّ فيه وبيتٍ نسكن إليه وأهلٍ ورحم نألفهم











 


الاثنين، 26 يوليو 2021

بطولة العطالة

 ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى‏}

أنت لا تملك إلا سَعيَك.. ليس آمالك التي تتخدّر بها، أو أفكارك التي تزهو بها، أو أحاديثك التي تدندنها، أو مُتعك التي تلهو بها.. ليس لك إلا ما عملت وما ظهر على لسانك أو جوارحك، أو نيّة حسنة وعزم صادق اطّلع الله عليه فأثابك عليه.

شاعت ظاهرةٌ منذ زمن حتى اليوم خاصة عند الشباب، وهي ما أسميها :"بطولة العطالة"؛ أي أنك لن يوضع لك القبول بين القوم ولن تبرز عندهم أحيانًا إلا إن كنت خاملًا عاطلًا متمددًا بين اللذّات والمتع، يغدو يومك ويروح بين نُصبها وتماثيلها ! حتى أنك قد تعمل وتتحرّك وتنتقل من هنا إلى هناك لكن شغلك هذا ما زال دائرًا في ظلال هذه المعاني السطحية غير مكلّفٍ نفسك بالغوص في الأعماق! بدأت ألحظُ هذا المعنى بارزًا في المرحلة المتوسطة بالذات، لا زلت أذكر تلك الأيام حين نرى طالبةً نجيبة متفوقة نشيطة تشارك في الإذاعات والمسابقات فإن هذا الأمر الذي هو سرّ تميزها يصبح ملمزًا فيها ومحط سخرية بها في أعيننا! ولا عجب أن أمسَتْ بفضل هذه النظرة كاتبةُ هذه المقالة طالبةً عادية بعد أن كانت من المتفوقات، وطالبةً مزعجة للمعلمات بعد أن كانت مؤدبة.. ليس هي فقط، بل كُنّ زميلاتها كذلك.. ثم لما انتقلنَ للمرحلة المتوسطة اجتمعن فيما بينهن وأخذن على أنفسهن عهدًا جماعيًا أن يتحدْن ويتمرّدن على ماضيهنّ المشرّف! والحمدلله أن هذا الاعوجاج اعتدل في نهاية الثانوية بفضل المعدّل التراكمي المُصلت على رؤوسهن! العجيب أننا كنا في متوسطة إدراتُها من أشدّ الإدارات في مدينتنا رقابةً على الطالبات وضبطًا لهنّ، وتُسجّل المشرفات التعليميات والمديرات بناتهن فيها لهذه السمعة، ورغم ذلك أبَينا إلا أن نطرح التعهدات والتهديدات بإبلاغ ولاة أمورنا بمشاغباتنا جانبًا ونستمرّ في غيّنا! أنا أقص عليكم هذا الخبر كمثال لترسّخ هذه العطالة في عقولنا اليافعة ذلك الوقت وحمل نفوسنا عليها رغم معاكستنا لتيار القوانين والأخلاق والعقل، وهذا ما نجده عند اليافعين والشباب حتى الآن متخذًا صورًا مختلفة في البيت والمدرسة والشارع وشبكات التواصل وغيرها، فتجد مثلًا الصورة المثالية للحياة عند الشاب أو الفتاة أن يجلس أمام الشاشة متنقلًا من فيلم إلى فيلم وبجانبه صحن الفشار والبيبيسي.. ثم يخرج المطاعم باحثًا عن ضالّته في وجبة شهيّة.. ثم يخرج لأصحابه ممضين لياليهم باللهو واللعب.. أو ترى الفتاة أن أحلام حياتها بين بريق المناكير وعلب المكياج أو صبغات الشعر والقصّات والملابس.. أو أن يعلّق أحدهما ثريّا حياته في السفر والتنزّه؛ فإن زُحزح عن بيته أو مدينته وذرع الأرض فهو من الفائزين! ولكن هل الأمر بهذا السوء ؟ من منّا لا يحب هذه المتع ويحب أن يتفسّح في أرجائها؟ كلنا يحب ذلك.. إلا أنه بالغ السوء حقًا حين تصبح الحياة دائرة عليها فقط، وبالغ السوء حقًا حين يؤدي هذا النوع من الحياة إلى قلب المفاهيم ومحوها؛ فلا يصبح للتفوّق معنى، ويصبح العلم والقراءة محض جدية وثقل، والإنتاج جهدًا وكدًا لا طائل منه، والعمل والإنجاز سفاهةً يشفق على أصحابهما العاطلون! أذكر مرةً في الجامعة كانت تدرس معنا طالبة متميزّة أنشأت من المبادرات والأعمال ما لا تفعله طالبة في عمرها الآن؛ فكنت أمتدحها أمام زميلاتي؛ فقالت إحداهن: "نعم.. ولكنها مسكينة لم تستمتع بحياتها!" قد ذهبَ من قال:

بصرتُ بالراحة الكبرى فلم أرَها

تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ!


برأيي أن وجود هذا النمط في مجتمعاتنا يرجع إلى أسباب من أهمها:

تكريس هذه المعاني والصور في الأفلام والمسلسلات، وأن الحياة السعيدة لا تكون إلا بالتنزّه والتسوّق وشاشات السينما وحفلات الرقص والسمر مع الأصدقاء، حتى على مستوى الأمهات والعجائز؛ فتظهر هذه المواد مثلًا صورة الأم التي يكون استمتاعها بالوقت حين تقضيه في زيارات الجارات والصديقات، أو في مشاهدة البرامج التلفزيونية الترفيهية والمسابقات وغيرها فقط.. نعم هناك أفلام ومسلسلات تتحدث عن أشخاص ناجحين لكنها قليلة بالنسبة لغيرها وباعتبارهم استثناءً ومعدودين.. أيضًا سببٌ آخر مهم وهو أُمّ الأسباب حقيقة، ويرتبط مع السبب الأول وغيره بعلاقة عكسية؛ فكلّما زاد هذا نقص ذاك، وكلما زاد ذاك نقص هذا، ألا وهو غياب المرجعية الإسلامية ونصوص ومفاهيم الكتاب والسنة عن سماء الجيل وأُفقهم، ولا شك أن القرآن والسنة تؤسس لمفهوم الحق في الإنسان والكون باعتباره قوةً عميقة راسخة تصدع كل الباطل والخور والسطحية حولها وتشظّيها، وبرهان ذلك النظري مبثوث في نصوص الوحيين، أما برهانه التطبيقي ففي عمل القرون الأولى من الأمة وحضارتها، ثم انحدار هذه الحضارة شيئًا فشيئا وارتباطه بالابتعاد عن هذه المرجعية، رافق هذا الانحدار الديني انحدارًا نفسيًا وسلوكيًا يتمثّل في ضعف الهمة والهشاشة النفسية والميل للدعة والكسل وسفاسف الأمور، أيضًا من الأسباب التي ترجع للتدين وجود صورة نمطية منتشرة للشخص المتديّن الزاهد الذي يحصر تعبّدَه بعبادات ومظاهر معيّنة فقط ولا يوسّعها لدائرة تشمل العلم والبحث والحَرَكية والإنجازات الدَعَوية؛ فإذا تديّن الشاب أو الفتاة ينبغي أن يكون تديّنه بهذه الصورة المتخشّعة التي تعتبر الفاعلية والسعي ضربًا من الأمور الهامشية التي لا يُلتفت لها! أيضًا من الأسباب وجود فهم اجتماعي خاطئ يختزل النفع والعمل والفاعلية في مقاعد الدراسة أو الوظيفة والعمل خارج المنزل، وربّما هناك أسبابٌ أخرى، لكن بنظري هذه أهم الأسباب.

قد يعتبر البعض المراحل الانتقالية التي يمر بها الإنسان كمرحلة "المراهقة" سببًا لهذا الطيش واللامبالاة التي يعيشها الشباب الصغار.. حسنًا؛ سأخبركم أمرًا قد يُدهش بعضكم! في المرحلة المتوسطة ذكرت لنا معلمة الدين أنه لا يوجد شيء اسمه مرحلة "المراهقة" وأن هذا المسمى مخترعٌ غربي يبرّرون به طيش ونزوات أبناء هذه المرحلة؛ فجّرت كلمتها هذه إنكارًا واستغرابًا في عقولنا آنذاك، وعارضناها وجادلناها حميّةً عن طيش عمرنا وجهالته أن يخمد فورانَه أحدٌ ولا يطلق له العنان! ومنذ ذلك الحين وكلمتها محفورة في عقلي أبحث عن تصديق لها أو تكذيب..لتنبثق أمام عيني فيما بعد شواهد متواترة من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لفتية قادوا جيوش أو برزوا في علمٍ أو استلموا مهمات ومسؤوليات وهم لا يزالون بعد في مرحلة "المراهقة" وبعضهم دون الثامنة عشرة! كأسامة بن زيد رضي الله عنه حين كلّفه النبي -صلى الله عليه وسلّم - بقيادة جيش وهو دون العشرين! وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها حين تركت أهلها المشركين وخرجت وحدها مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي لا تزال صغيرة بل في السادسة عشرة كما قيل! ومحمد بن القاسم الثقفي حين قاد الجيوش وفتحت على يديه البلدان وهو لا يزال بعد في السابعة عشرة! والإمام الشافعي حين قال له شيخه "آن لك أن تُفتي" وعمره لم يجاوز الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة ! وغيرهم وغيرهم.. فلماذا لم يجارِ هؤلاء نزواتهم واحتياجاتهم وخصائصهم العمرية ويفسحوا لطيشهم وغرارتهم العنان! أؤمن أن لهذه المرحلة خصائص متغيرة وميل للّهو وغرائز وشهوات ظاهرة، وأن ذلك مما يُراعى ويُنظر.. وهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السّن الحريصة على اللهو"، ولكن أؤمن أن هذه المرحلة هي أوان تفجّر القوة والفتوة واتّقاد العقل وسيلان العاطفة والجموح نحو الحياة؛ فهي أولى أن تُحوّر للخير والعلم والصراط المستقيم؛ وما تسقيه اليوم تحصده غدًا، ومن شبّ على شيء شاب عليه؛ ويكفيك أن تعلم أن الإسلام ينظر للشاب أو الفتاة أنهما بمجرد بلوغهما أصبحا مكلّفين عاقلين، عمومًا هذه حلقة رائعة علمية موثّقة للأخ سعد القحطاني تحدثت عن مفهوم "المراهقة" وتطوره وتبدّله عبر السنين : (خرافة المراهقة)

إذن لا أسباب حقيقية ترجع إلى عمرٍ أو دينٍ أو فكرٍ قويم تبرّر أو تشرعن هذه العطالة، إنما هي أهواء وطبائع فاسدة وجاهلية حديثة ابتُلي بها شباب هذا العصر، والحل أن تُنشر دائمًا ثقافة العمل والنفع والانتاجية الخالية من الشوائب والمنظورات الاجتماعية والفكرية الخاطئة، سواء بنصوص من تراثنا الإسلامي، أو من ثقافات ومرجعيات أخرى؛ لأن الغرض أولًا هو الحشد لفكرة العمل في النفس واعتبارها خصيصة إنسانية تستقيم بها حياة المرء والناس.. أحب كثيرًا تأمل ما قاله أحد الصالحين: "يا بني، همّتك فاحفظها لأنها مقدمة الأشياء" وقد أوجز بهذه الكليمات اليسيرات دروسًا عديدة في تطوير الذات وفن الحياة والسعي للأحلام وتحقيق الذات! فمن لا همّة له، لا عمل له ولا إنجاز في صغير الأمور وكبيرها، ولاحظ قوله: "فاحفظها" لأن الهمة تُحفظ بالحركة والسعي، وتفسد بالكسل والعجز! مهما كانت ظروفك؛ أبقِ شعلة الحياة "الهمة" مشتعلة في أعماقك، ولو كان ضوؤها وإحراقها لا يجاوز إبهامك.. قد يأتي يومٌ وتصبح شمسًا ! عن عبيد الله بن زياد قال: كان لي خالٌ يقول لي: "يا عبيد هِمَّ؛ فإن الهمة نصف المروءة"، وأحب مقولة عمر -رضي الله عنه-: "إني أكره الرجل يمشي سبهللًا، لا في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة!"؛ قد تكره ما تفعله الآن لأنه بنظرك ليس من معالي الأمور أو من أمور الآخرة، ولكن حتى الأمور الدنيوية اليومية فعلك لها هو دلالة نفعٍ وحياة فيك، وتستطيع تحويلها لنيّة خير يمتد أجرها إلى الآخرة بإذن الله، المهم أن لا تكون "سبهللًا"؛ تحدثت الأديبة (ميّ زيادة) في مقالة لها رائعة بعنوان (غاية الحياة) عن أوجاع النساء وقتامة أرواحهن المتمثلة في داءِ واحد يسلب ما فيهن من ماء الحياة وبريق الإنسانية، ألا وهو "الفراغ" والفراغ من القيمة بالذات؛ تقول ميّ:


"كثيرات هنَّ التعبات اللاتي وقعن فريسة ذلك الشلل المعنويِّ، مولِّد المجازفة والانحطاط الذي يدعى: السآمةَ، فيجرين هنا وهناك هربًا منه مخاطِرات بما وجب صونه، ناسيات ما عليهنَّ أن يذكرنه، ومنهن من لا تطيق البقاء يومًا واحدًا بلا زيارات واستقبالات وأحاديث جارات وخالات وعمات، كأنها تخاف الاختلاء ومقابلة نفسها وجهًا لوجه فتفقد بذلك أعظم تعزيةٍ وأعظم أمثولة في الحياة، وإن أحسنت القراءة دفنت سآمتها في الروايات دون أن تفقه ما فيها من مغزًى اجتماعيٍّ أو أخلاقيٍّ، مكتفيةً بتتبع الصلة الغرامية والاستسلام إلى ما يُبديه أبطالُ الرواية من انفعالٍ اصطناعيٍّ مضخَّمٍ، جاهلةً أنها بتطلب ذلك التحريض القهريِّ تُطفئ نور ذهنها وتُضعف من نفسها جميعَ القوى حتى قوة الحب الذي ينتقم من مُهينيه ومُزيفيه انتقامًا صارمًا.


وكيف نتناول ذلك الدواء ونتغذى بذلك القوت الإلهي؟ السبيل واحد لا ثاني له، وهو: العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعمًا لذيذًا، ويروِّح النفس الواجمة، ويرضي الطباع الساخطة، ويصرف العواطف المتلازبة في منافذ ومخارج حسنة العائدة على المرأة الواحدة وعلى من يلوذ بها. فلتعمل المرأة أيَّ عملٍ ينتظر يدًا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جِدِّيٍّ إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهريُّ هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه وتكبر به مهما كان صغيرًا حقيرًا، ولكن لفظة الحقارة لا تصلح لمعنى العمل؛ لأن كلَّ عمل شريف في ذاته، وليس منظِّف الشوارع بين الغبار والأقذار بأقلَّ أهمية من الرجل العظيم في قصره بين التهليل والإكبار، ولا هو أقلُّ نفعًا لأمته وللإنسانية."


عثرت على مقولة مؤخرًا أحب استذكارها كلما شعرتُ بالضياع أو بهتت في عيني نضارة الحياة: "إنّ التشاغلَ بالدفاتر والمحابر  والدفاتر والدراسة؛ أصلُ التعبّد والتزهّد والرئاسة والسياسة"‏ ؛ أؤمن كثيرًا أن العمل والتشاغل بما نفعله ترياق فعّال لكثير من همومنا وأحزاننا، وأن الجلوس بلا فعل شيء هو موتٌ بطيء يزحف على أعضائك واحدًا تلو الآخر زحف الثعبان، وكلما كان العمل جيدًا زاكيًا كلما جاد العقل وزكا الفؤاد وتفتحت في روحك أزاهير الحياة الطيبة! وإلا فما هي الحياة الطيبة؟ في القاموس المحيط: طابَ يَطِيبُ طابَاً وطِيباً وطِيبَةً وتَطْياباً: لَذَّ وَزَكَا، أي أن جواب الحياة الطيبة ببساطة هو : اللذيذة الزاكية، وما معنى اللذيذة الزاكية؟ (اللذة) في معجم لسان العرب هي: نقيض الألم،و(الزكاء): تأتي بعدة معانٍ ، وأصلها في اللغة كما في لسان العرب: الطهارة والنماء والبركة والمدح، أي أن الحياة الطيبة ليست فقط في الأشياء التي نستلذها، أو أن مفهوم اللذة لا يقتصر على الغرائز والمحسوسات كما اعتدنا أن نتصوّر، بل الأشياء التي نستلذها وتزكو بنا، اللذائذ الزاكية، المجردة والمحسوسة، الغائبة والمشهودة! فعلينا أن نبحث عن الحياة الطيبة في هذين الأمرين: اللذة، والزكاء، ولن تجتمع اللذة والزّكاء إلا في عمل صالح في الدنيا والآخرة! 

قد يرى العاطلون أن العمل إتعابٌ للعقل وخدش لنعومة الجسد وإرهاق للروح، وأن المتعة والراحة أن تبتعد عن ذلك، ولم يتفكروا يومًا أن متعتهم وراحتهم هذه ميّتة باردة لا طعم لها ولا لون، وأن طعم المتعة والراحة الحقيقية تُذاق بعد العمل.. بين أوقات الإنجاز.. في توازنات الحياة وإعطاء كل شيء حقه؛ فهكذا لن يُضيّع العمر ولن تُهمل الراحة ولن تُلغى البهجة والمتعة.

السبت، 10 أبريل 2021

بين مدينتين


 

مرّ عامٌ ونصف تقريبا على زواجي وانتقالي للعيش من "الخرج" المدينة التي ولدت وعشت فيها ومنها أهلي إلى "الرياض" عاصمة البلاد ومدينتها الكبرى التي لا تنام، وأنا لا أقيس الوطن بالبلاد التي ننتمي إليها أو الجنسية التي عُلّقناها أو المدن والقرى التي وُلدنا فيها أو غيرها من أشياء اكتسبناها ولم نخترها.. نعم كل تلك فيها معنًى من الوطن ..ولكن الوطن الحقيقي برأيي هو ما حوته حدود صدرك وجرت فيه عروق دمك وبُسطت له أرض قلبك وهبّت عليه أرواحٌ من روحك.. الوطن هو الشعور الذي يسعك والحب الذي يدفئك والسكينة التي تمدّك وتمتدّ بها ولو كان مداها وأقصاها الحي الذي تعيش فيه أو حتى جدران بيتك أو غرفتك، الوطن هو صوت أبيك وابتسامة أمك ومناكفة إخوتك واجتماع قرابتك وضحكات أصدقائك وشمسٌ تداخلك أشعتها كل صباح وعصافيرٌ تضج قرب نافذتك وليل تغشاك سكينته وسَحَرٌ تُجلّلك قدسيته وأريكتةٌ ألِفتَ القراءة عليها ورفوفٌ تُغريك كُتبُها وطعامٌ مذاقه حنانُ أمك وقهوة نشوتُها تحلُّقُ عائلتك وطفولة حيّة وفتوةٌ نزقة مستوفزة وحاضرٌ طامحٌ وما هو أكثر وأكثر مما استوطنك قبل أن تستوطنه ومما هو "وِطـاء" ليّنٌ رحْـب قبل أن يصير "وطن"؛ لذلك نحب المدن ونحامي عنها، ولولا ذاك لاستوت "الخرج" مع باقي المدن، ولم يكن لها من فضيلة عندي سوى أنها منبت عائلتي وموطن أجدادي، وهي مع ذلك فضيلةٌ لها حنينٌ يعزف على وَتَرٍ لا ضاربَ لعوده سوى أنه ممتدٌ كدماء الأجداد السارية في عروقك، ولو تأملت المعنى الذي ذكرته لوجدت أنه وحده الذي يزن لفظ "الوطن" وزنًا لا زيادة فيه؛ فكم من شقيٍ يعيش في وطن آبائه وأجداده ودار طفولته وصباه وهو مع ذلك يخطو فيه على مثل الشوك؛ ينزف دمه ويُنكّد عيشه، وكم من سعيد يعيش في وطن آخر غير منبت أهله وأصله، وهو مع ذلك على مثل ريش النعام؛ ليّنٌ وطاؤه رغِدٌ عيشه.. هذا هو المعنى الخاص للوطن، وهو ألصق بالفرد من المعنى العام؛ والمعنى العام هو ما تعارف عليه الناس بينهم؛ وهو قطعة الأرض الكبيرة المترامية الأطراف التي يعيش فوقها مجتمع من الناس اتصلوا بينهم برابطةٍ ما، والدين أو اللغة أو الثقافة والهوية هي العُرى الأكيدة التي تشدّك لهذا الوطن، وبحسب وجودها فيك بحسب وجود الوطن فيك، والأغاني والقصائد والأعياد الوطنية بواعثٌ من أخطر وأوهى البواعث في آن لمثل هذه المعاني الوطنيّة، ولو عُدمت هذه البواعث في بعض الأوطان الفاسدة لانقطعت أسباب الانتماء بينها وبين مواطنيها، وعادت محبتهم سبابًا، واستيطانهم اغترابًا!


أحب في "الخرج" مزارعها التي تحوطها، تربتها الرطبة، وهواءها الذي يتنفّس الزروع.. زافرًا رائحتها خلَلَ بعض أرجاء المدينة، نخلها الوفير، وتمرتها الطيبة، وعيونها السحيقة التي يتعب المطر في ملئ أغوارها؛ أرضٌ يكتب الماء قصتها ويصوّر معالمها، فكانت تسمى سابقًا بـ "السيح" وهي الآن "الخرج"؛ والسيح مأخوذ من سيحان الماء من عيونها، والخرج من خراج الأرض من الزروع، وكلا الاسمين وجهان لصورة واحدة هي النبع والخضرة، أحب فيها مدنيّتها التي لا زالت منقسمة بين الجِدّة والانفتاح، والتقليد والمحافظة.. تشدّها إلى الأول ضرورةُ الزمن السائر، وتبقيها على الثاني ضرورة الهوية والماضي الحاضر، يدعوها إلى الأول قربها من الرياض وتردد أهلها عليها، ويثبتها على الثاني أنها لا زالت تلك المدينة التي تخفي في داخلها طباع القرية.. فلا هي تلك، ولا هي تلك.. أحب أنها مسقط رأسي وملعب طفولتي ومدرج شبابي وتراب بيتنا وموطئ قدَمي والدَيّ وكفى، وإن لمعاهد الصبا وذكرياته لصوقًا بالقلب وأطلالًا لا تملك إلا أن تقف عندها يموج بك الشوق والحنين.. وإن عشنا فيها أيامًا صعبة ومسّنا فيها الضرّ :

كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى

وحنينه أبدًا لأول منزلِ


أحب في بيتنا اتساعه بالحب قبل اتساعه بالمكان، وحبوره بالطمأنينة قبل حبوره بالنور:

أحبِب فيغدو الكون قصرًا نيرًا

وأبغض فيمسي الكون سجنًا مظلمًا


ويقال أنه حين ضاق بميسون الأعرابية قصرُ معاوية بن أبي سفيان الفسيح وتمنّت العودة إلى خيمتها النائية في البادية أنشأت تقول أبياتًا من ضمنها:

وبيتٌ تخفقُ الأرواح فيه

أحب إليّ من قصرٍ مُنيفِ!


فطلّقها معاوية وعادت إلى خيمتها مغتبطة جذلى.. إنما يعمر مسكنَ الإنسان نفسُه؛ فإن نهضت فيه نهض، وإلا انهدّ وتقوّض!

وأحب في بيتنا غرفتي.. تلك الجنة الصغيرة المبنيّة من رخامٍ وجدار! غرفتي التي تعاقبت عليها فصول نفسي وحُفرت فيها أعماقها وأغوارها.. وسادة دموعها ومخدع آمالها وأريكة تأملها ونافذة فكرها وخيالها.. غرفتي المفتوحة على الشرق فهي تشرق مع الشمس؛ وقد عببتُ من وحي هذا الإشراق ومعناه الكثير، وامتزج ضياؤه مع معنى اسمي "نورة" فشكّل في نفسي شمسًا أخرى لا ترضى بالأفول، وإن دارت عليها كُرة الحياة دورتها يُعزّيها أنها ستشرق من جديد. كان من عاداتي في بيتنا والتي لم أنقطع عنها حتى الآن المشي قبل الغروب في الفناء وترديد الأذكار والتسابيح مع الطير وتحت السماء المتموجة بصُفرة الأصيل.. لحظاتٌ ساحرة مليئة بالبهاء والجلال، وخفّةٌ في النفس كخفّة ذلك النسيم الذي اشتبه عليه أمرك: أأنت ريشة أم إنسانٌ طائر؟ ليحملك معه! تلك الذكرى هي كالشذرة الذهبيّة من جواهر تلك الذكريات.

يقع بيتنا في طرف الخرج، أو في ضاحيتها تقريبا، في حيّ تكثر فيه الأراضي الفارغة إذ لم تعمّر بيوته كلها بعد، وعلى بعد كيلومترات منه تقع مزارع غنّاءَ بالنخيل الباسقات، كان لهذا الموقع أثره في ازدحام سمائنا بالعصافير، وفي الهواء الذي نتنفّسه ونقائه وهبوبه ورائحته المنعشة أحيانًا.. حتى إن اسم حيّنا "حيّ الورود"؛ فكأن زكاء الهواء نسيمُ بستان مترعةٌ أرضه بالورود. أزعم أن لذلك الجو الذي كنت أعيش به أثره في شخصيتي وأدبي، والإنسان يتطبّع بما يحيطه أيضًا، والرافعي يقول:

"وإنما قوة الشعر في مساقط الجو، ففي كل جوّ جديد روح للشاعر جديدة؛ والطبيعة كالناس: هي في مكانٍ بيضاء، وفي مكان سوداء، وهي في موضع نائمة تحلم وفي موضعٍ قائمة تعمل، وفي بلد هي كالأنثى الجميلة، وفي بلد هي كالرجل المصارع؛ ولن يجتمع لك روح الجهاز العصبي على أقواه وأشدّه إلا إذا أطعمته مع صنوف الأطعمة اللذيذة المفيدة ألوانَ الهواء اللذيذ المفيد" 


ثم تزوجت وانتقلت للعيش في الرياض تلك المدينة المضطربة اضطراب الطريق في الجبال.. صاعدًا ونازلًا،  لا تهدأ، متفجرة بالناس.. وبالفرص والأرزاق والترفيه كذلك، وقد أخذتُ من طبعها الذي لا يهدأ طبعًا لحياتي وأسلوبي بعد الزواج إذ أصبحتُ سيدة منزلٍ مستقل وربّة أسرة جديدة بإذن الله، فزاد جهدي ومسؤولياتي وأصبحت في وقتي ساعية بين أعمالي المختلفة. وحين افتتحتُ حياتي الزوجية في بيتي الجديد كان من أصعب ما واجهته هو نقل الإلف الذي صحبته والتناغم الذي راقصته والقرار الذي تنعّمته في/ من بيت أهلي إلى عشي الصغير هذا.. لم يكن الأمر سهلًا لفتاة ألوفةٍ و(بيتوتيةٍ ) مثلي تُكنّ الوفاء لأصغر شيءٍ أحبّته وصاحبَته زمنًا! كنتُ أبحث في عشّي الصغير عن زوايا بيتنا.. عن جدرانه وأنواره الشمسيّة الداخلة من فتحاته المتعددة .. عن أشياء كثيرة فيه! ولكن الزمن مرّ، ويومًا بعد يوم كنتُ أعقد مع الأشياء الجديدة صداقةً.. فإلفًا.. فتعلّقًا.. فوفاءً .. فجمالًا وإحساسًا فريدًا مختلفًا! أن أكون سيدة منزل مستقل وهذا المنزل هو (مملكتي) أنا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.. ثم أن تكون هذه الوظيفة لها ما بعدها إذ ستثمر بإذن الله أبناء وأسرة، ولها ما قبلها ومعها وبعدها : زوجٌ وحبيب وشريك قلبٍ وحياة بإذن الله.. أنتِ له وهو لك كشجرة يُستظلّ بها أو يُجنى من ثمرها.. بردًا في الضرّاء وغدقًا في السرّاء؛ أن أكون في كل ذلك هو هبةٌ إلهية وعطاءٌ ورزقٌ جميل! 

أعطاني الزواج أشياءً قد لا أتحصّل مثلها في العزوبية؛ أولها أني أحببتُ الطبخ كثيرًا وكأني ولدتُ في المطبخ! كنت أطبخ في بيت أهلي ولكن ليس بصفة مستمرة وبمساعدة الخادمة، فضلًا أني كنت كثيرًا ما أفعله إرضاءً لأمي ليس إلا، ولكن حين تزوجت مارسته أولًا على طريقة :"إذا كنت مُجبرًا فاستمتع" ثم هداني الله سُبلَه وأحببته وأدركت أنه فنٌّ وذكاء يُتقن بالإحساس ويلَذّ بالحبّ.. ثم أي شرفٍ أحسنُ من أن تدلّل بطنك؟ ثم تكون بعد ذلك أنت من صنع هذا الطعام اللذيذ؟ :)، ومهارات منزلية واجتماعية عديدة أزعم أني لم أكن لأكتسبها وأنا فتاةٌ منزوية في ظلّ والدَيّ.

في كنف هذا التغيير الظرفي والحياتي تغيّرت شخصيتي واهتماماتي؛ حتى قراءاتي وميولي العلمية تغيرت بدرجةٍ ما، وقد فصّلت شكل هذا التغيير هنا، ولا يُلام المرء على ذلك ولا يُستغرب، بل الغرابة أن يكبر عمرك وتتلقّفك الظروف وتمرّ عليك الأحوال وأنت ثابتٌ على حالك، وهذا لا يدل على صلابتك كما تزعم وتكابر، بل يدلّ أنك خشبة أو جدار لا بشر وإنسان ! حين أصبحتُ زوجة أصبحت اهتماماتي وميولي قويمة كالمسؤولية التي تقلّدتها والميثاق الغليظ الذي صرت طرفًا فيه؛ فكان لذلك أثره على الأدب والكتابة.. أصبحتُ منظّمةً وجادّة أكثر، والأدب مُنسرحٌ وليّنٌ أكثر..  فتغيّرت على الأدب وتغيّر هو عليّ؛ صرتُ أمكث المُدد الطويلة لا أمطر منه قطرة، وإن جاءت فهي واحدة لا تروي الغليل، أو يجيء غيثه معه ظلماتٌ وبرق ورعد؛ تقصف أفكارُه أو تخطف الأبصارَ حُجَجُه، ليس له من المعنى الرقيق والإحساس الجميل إلا قطراتٌ تتساقط عليك هنيهة قبل أن يروعك مرة أخرى صوت رعده وضوء برقه.. وهذا الأمر له حسناته كما له سيئاته.


وبعد، فإن سألني سائل: أين تجد نورة نفسها وأين تلقي عصا روحها فتقول أن هذا هو وطنها: الخرج أم الرياض؟ هذا البيت أم ذاك؟ 

مرة أخرى: لماذا نضيّق معنى الوطن ونحصره في بقعةٍ معيّنة وصورة شاخصة وكأنه لفظٌ خلَعَ معناه أو قصةٌ مُسحت شخوصها أو خبرٌ أُهملت حقيقته؟ ألا يكون معناه أكبر وأصغر في آن؟ ألا يكون يكون واقعًا في روح الإنسان قبل أن يقع في الخريطة .. فيكون وطنًا متنقلًا يحمله معه أينما يذهب؛ فروحه تلقي على الموجودات انعكاسها، وتتجاذب مع أشباهها هنا وهناك فيتحقق له وجودٌ ووطنٌ أينما يكون؟ نعم.. كلهم أهلي، هناك حبيبٌ وهنا حبيب، وأنا لكليهما أنتمي.

الأحد، 21 مارس 2021

انبعاثي الأول

يخيل لي أن الكتابة الأدبية خُلقت لي؛ فحين كان لكل أحد وجهةٌ هو مولّيها كانت هي وجهتي وغايتي التي هديتُ لها وجعلت لي، وأني مهما يمّمت وجهي في المناحي وظننتُ أن في الأرض مُراغمًا كثيرًا وسعة لا أزال أُكتب ضائعًا وأُحسب في عداد المفقودين؛ فمن يُخرج من بيته فهو طريد، ومن يأوي إلى غير حماه فهو لاجئ، ومن يسكن بيت غيره فهو مغتصب وإن قزّحه وزيّنه واستبدل فيه جديدًا بقديم.

هناك عند باب غايتي سادنٌ يسأل عن موعد قدومي كل مرة، يحصي الأيام والساعات حتى أعود، يتفقدني دائمًا ويسأل عني في الطرقات والفيافي والسهول المجاورة، ويجدني أحيانًا منهكةً شعثاء غبراء هائمةً على وجهي أكاد أسقط من التعب.. فيملأ قربتي من الماء، ويهذب شعري ويمسح على وجهي بيديه المباركتين فتسري في جسدي رعشةٌ تعقبها يقظة، فيظل يحدثني حديثًا كحديث الأوائل فيه قبس من نور السماء يذكرني فيه بالأمر القديم لا يبلى، وبالماضي ساريًا لن ينتهي، وبالذكرى حادثةً تتجدد، وبالحلم عتيدًا في المنام واليقظة.. يذكرني بفطرتي وانبعاثي الأول، بالأدب معجونًا في تُربتي متشكلًا في ملامحي منفوخًا في روحي.. بصفوةٍ منه رُزقتها وبسطةٍ منه أُعطيتها.. أقبضها حتى كأني أمسك كل شيء، وأُرسلها حتى كأني أذرو كل شيء هباءً منثورًا تبعثره وتبعثرني الرياح معه في كل واد.. فمالي بدّلتُ وتبدّلتُ حتى كدتُ أمسخ نفسي؟! ماذا ارتضيتُ غير الأدب حتى أعرضتُ عنه؟ ارتضيت؟! نعم ارتضيتُ! لا يصلح في هذا المقام إلا الرضا! فمن اختار وطنًا آخر عن وطنه لن يطير إليه إلا بجناح الرضا والاطمئنان، وإلا لما اختار عن وطنه بديلًا! نعم لقد ارتضيتُ عن الأدب شبيهًا ونديمًا آخر لا يمكن أن يكون هو..ارتضيتُ عنه مواضيع فكرية أو معرفية، رأيتها أنضج منه ثمرة وأنجع منه فائدة فخلعت عليها خاصّة وقتي وأرويتها ماء عقلي وفكري.. ولكن أين الفكرة من الخطرة؟ وأين الحقيقة من المجاز؟ وأين العبارة من الإشارة؟ وأين الضجيج المزدحم من المخدع الهادئ اللّين؟ وأين الصخور وعرةً من السهْل الوطيء؟ وأين العصافير صادحةً تتجاوب بالتغريد من الأزهار صامتةً تتراسل بالأريج؟ أين النفس يتكشف بعضها للآخر وكأن الأحرف تتراصّ كجيش عنيد يسقط أسوار النفس ويفتح الطريق للقلم حمًى مستباحًا يفعل به ما يشاء ؟ 


"ابنتي -قال لي السادن- : الأدب طيرٌ من السماء لا يحط إلا على الغصن البهيّ المورق، وذاك غصنك أنتِ .. الأدب روحٌ في الفضاء لا تراها إلا الأرواح اللطيفة الشفافة، وكذلك روحكِ أنتِ .. 

فحذارِ أن تُقذف في الماء كراتُ الطين، وحذارِ أن تجرف القاصدَ حشودُ المُدبرين، وحذارِ أن يرتدي المرء ثوب غيره وإن كان أبهى من ثوبه، وحذارِ أن تُشغل الشجرةُ بأمرِ الوردة، وأن يحدق الحمام في النحل متمنيًّا تذوق الزهرة.. يا ابنتي؛ أنتِ هناك.. رُفعت المحاريب وأذّن مؤذن الروح وانتصبَتْ الأقلام واصطفت المعاني وقامت صلاة الأدب" وأشار إلى الأدب حيثُ غايتي.. ومضى عائدًا نحوه.

أما أنا فظللتُ أحدّق فيه شاردةً حتى توارى.. ثم انتبهت فجأة وأكببتُ على آثار قدميه أحفرها بعمق حتى لا تمحوها الريح بسهولة.. فأضيع!

السبت، 6 مارس 2021

إن شأنكنّ عظيم!



 لو أن ملكًا أرهب البلدان وأخضع الملوك وأكل جيشُه جيوشَ الأرض مجتمعة وأهلك الحرث والنسل وشَكَت منه الأرض وضاقت السماء، وحتى في خاصّته وأهله هو الفزع المهول والشر المستطير.. يبتعد عنه كل من مرّ بجنبه رعبًا كأنه ملَك الموت، وإذا أمرَ أمرًا طار الجميع لتنفيذه كما تطير الغزلان هربًا من زئير الأسد، وإذا نهض من عرشه انتصبوا جميعًا كانتصاب الأعمدة لا تسمع لهم ركزًا.. هذا إن كانوا يجلسون قبلها! لو أن ملكًا كذلك لَحلَف كل من سمع به أن هذا لا يخضعه شيء إلا المرض المقعد أو الموت.. ولكن لا.. وُجدت ملوكٌ وعتاةٌ مثله وكان من أخضعهم كائنٌ لطيف روّضهم كما تُراض الوحوش؛ كائنٌ ليس له سلاحٌ أو قوة إلا نعومةٌ هي أحَدّ من السِنان، ورنينُ حُليٍّ هو أفتك من صلصلة السيوف، ودَلٌّ هو أقوى من ألف إقناع، وتمايلٌ  هو أخدر في الرأس من سِنةِ الوسنان، وشفتان كالثمرة النضرة في البستان، وصوتٌ وهمسٌ كطعم النغمة الحالمة لدى العاشق الطربان.. إنه المرأة.. المرأة المعشوقة؛ التي بلغت من سحرها وجلالها أن أخضعت الصخر وفجّرت منه الأنهار؛ واسألوا هنري الثامن ما الذي أحدثته في قلبه ومملكته آن بولين، واسألوا كيف عقلَت شهرزاد جنون شهريار وسكّنت شرره، واسألوا عابدًا زاهدًا متحصنًا في صومعته محكمًا إغلاقًا عليه أبوابها وأبواب نفسه.. فارًّا إلى أغلال خشيته وتقواه كيف خرقت تلك الحُجب وأزلّته من ذرى التقوى إلى قاع الرذيلة مليحةٌ في خمارٍ أسود، واسألوا الملوك والسلاطين كيف تسلّلت نساءٌ وجواري إلى مستودعات سرّهم ومعاقل رأيهم التي لا يجرؤ على الولوج فيها أحد.. فصرن شريكات حكمهم ووزيراتهنّ المحجوبات اللاتي يُصدر عن رأيهن ويُسمع كلامهن! والسلطانة هورم والسلطانة كوسيم مثالٌ لا حصر ! 

وربما لا تكون تلك المرأة أجمل النساء وأحسنهن.. قد يكون غيرها أجمل منها، ولكن اجتمع فيها من الأنوثة ما فاض عنها وغمر الرجل الذي عشقها، والأنوثة سرٌّ يختلف كنهه من امرأة لأخرى، ويدرك أمره كلُّ رجلٍ وقع في روعه ومضٌ منه، والجمال بعضٌ من الأنوثة وليس كلّها.. إنها قوة المرأة وجبروتها الذي تعمى عنه أعين الرجال وتدركه قلوبهم حين يمسّها طائفٌ منه! خدَعهم منها رقّة طبعها ولين جلدها فصوّروها ذلك الكائن الضعيف الذي يحتمي بأكتاف الرجل، ولكنها القوية جدًا للحد الذي تخضع فيه أقوى رجل بلا سهم أو سيف :"مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ" ويستعمل كثير من الجهلة عبارته -صلى الله عليه وسلم- : "ناقصات عقل ودين" لتحقير المرأة وإرخاصها، ففضلًا عن أنهم لم يحفظوا من الحديث كله إلا هذه العبارة ولم يطّلعوا على بقية كلامه -صلى الله عليه وسلم- فإن فيها شهادة قوتها لو فقهوا! فانظر مقدار تعجبه -صلى الله عليه وسلم- في قوله :"ما رأيت!" ثم تبيينه ذلك باجتماع النقيضين اللذين هما عُنصرا كلِّ عجَب؛ وهما هنا : النقص والقوة، فحين التقيا غلب النقص القوة! فانظر كيف طارت الرجولة شعاعًا بحضور امرأة! 


وليست قوّة المرأة محصورة باستوفازها قلوب الرجال واقتيادها لهم بجمالها وفتنتها؛ بل تكون أيضًا بحصافتها وحسن رأيها وتدبيرها كما هو الرجل، بل تزيد قوتها بذلك وتصبح لفتنتها وأنوثتها أنيابًا يُخشى منها أو يُستسلمُ لها، ويصبح لرأيها اعتبارًا عند اثنين: المقسط من الرجال، أو المحب المستهام؛ بل يصبح لرأيها سلطانًا عند المحب المستهام أقوى من رأي الرجال مجتمعين! أما غيرهما من الرجال فينكر تلك القوة والحكمة ويصرّ أن يردّها إلى ضعفها وسفهها الذي يتصوره ويراه؛ وكأن المرأة عندهم لا تصبح إنسانًا إلا إذا كانت محبوبة، ففتنتها وتأثيرها هو انعكاس قلوبهم عليها، لا انعكاسها هي عليهم! ولو لم يشهد القرآن لبلقيس لرأوا أنها أخطأت وأصاب من حولها من الرجال! 

والمرأة التي لا تفهم من الأنوثة إلا الضعف الخانع والغَنَج السمج والخواء المائع فهي وإن اصطبغت بألف لون 

وتلمّعت بالأساور والحُليّ لم تكن زينتها إلا أصوات الشهوة ونداءات اللذة؛ ثم ماذا؟ كالحيوان يُمضغ لحمه ويُهضم.


لا.. ليست هذه الكلمات فتنة وتزيينًا.. أو إعلان حرب بين الرجال والنساء؛ بل تذكيرٌ للمرأة أن تميس اعتزًازًا بسحرها وسلطان أنوثتها ويشرّئب عنقها فخرًا وكبرياءً، أن تطيف حول طبيعتها كأنما هي معجزة تُقدّس وتُعظَّم.. كائنٌ يخضع كائنًا آخر يظن أنه الأقوى -ليس من المرأة فقط ولكن ربما من الكائنات كلهم- ألا يحق لها بأن تفخر بإركاعه؟! ولا عيب أن يقال بأن المرأة تؤدي وظيفتها إذ تستميل الرجل لسلطانها.. وهل تُعاب الحاجات والغرائز في لغة الطبيعة ؟ وهل يُسأل لمَ تسعى النمل أو هل تُلام على طيرانها الفراشة؟ ومن الذي يقول للطرف الكحيل اقصُر ولا تنظر؟ وهل تلامُ الحاجة أو يُلقم فمُ الشوق بحجر؟! وهل يُقال للفنّ اعجب بنفسك ودُر حولها، لا تسأل غيرك عنك، يكفيك أنت منك!

سعي المرأة للرجل وسعيه لها تفريغ للطبيعة مهما جحدت الجاحدات أو شمخت المتكبرات! المرأة قوية بأنوثتها، عزيزة بسحرها.. ولكن كل ذلك يتقوّض إن ظنّت أنه لوحدها؛ المرأة نبات مرتفع وارفٌ مستغنٍ بنفسه يُسمّى لوحده: شجرة، وهي بانتمائها لحضن أوسع حولها تتناغم به وتنسجم معه يسمّيان: طبيعة، ولا وجود للشجرة إن لم توجد الطبيعة، ولا تمام للطبيعة إن لم توجد الشجرة.


وليست العلاقة بين المرأة والرجل علاقة مفاضلة تؤدى بالميزان فمن رجح فهو الأفضل وغيره هو المفضول، كيف وهما لا يجتمعان حتى يفترقان ولا يفترقان حتى يجتمعان .. فكيف يُحكم بينهم؟!.. كوكبان تولّدا عن سماء واحدة؛ شمسٌ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، أو ليلٌ لا يسبق النهار.. جمعتهما الإنسانية وفرّقتهما خواص وطباع شتى تؤلف كل منها نظامًا مختلفًا عن الآخر.. فمتى يُدرك أن المرأة نظام مختلف قد تنقلب فيه المعاني وتتضاد عن التي عند الرجل! فضعفها كما يسميه الرجال هو في نظامها قوة! ولا أدلّ على ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم "فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ،"؛ فانظر إلى عبارته :"فإن ذهبتَ تُقيمه كسرته" فأنت أيها الرجل لا تستطيع أن تحوّر هذا "الضعف" لـ"قوة" كما تفهمها أنت، دعِ الاعوجاج وشأنه.. فهو قادرٌ رغم انحنائه على إخضاعك! واتركي أيتها الجاحدة ذلك الضعف وشأنه، ولا تحاولي إلباسه ثيابًا تُخفي حدَبه وانحناءه، واقطعي إن شئتِ كل سبيل وتفرّقي في كل واد حتى تبلغي قوة الرجل، ستدركين لاحقًا أن غايتك في مبتدئكِ؛ عند الفطرة التي ضيعتِها! 

اللافت أن هذين المتناحرين من الجنسين تجد أن كلًّا منهما قد أغلق عليه نفسه وقُلبت عيناه إلى الداخل فلا تنظر إلا إليه وطُبّقت يداه على خاصرته كهيئة المستكبر المتحدّي.. فلسان أحواله كلها يقول: "وماذا لي؟ وما لي أنا؟!" .. ولو أنهما فتحا باب نفسيهما وأهرقا من دلوِ قلبيهما صبابة تمتزج بصبابة الآخر لطأطأت الريح ولأوْرق الشوك وصارا لبعضيهما سكنًا ومودة ورحمة؛ ومن وُفِّق في علاقته وذاق طعم الاستقرار الزوجي والعاطفي عرَف حلاوة الآخر وأنه لا غنى عنه، ورأى دعوات التفرّد والتمرّد الفجّة ضلالًا وتحريش شياطين، أما المتطوّح المهتز فتارةً سيلعن الرياح لأنها تحرّكه وتارة سيشتم الطين الواقف عليه لأنه يُزلقه وتارة يسبّ الذباب الذي يحوم عليه لأنه يُشتّته وتارةً سيلعن أهل الأرض وتارة سيناكف الفطرة وتارة سيغاضب السماء و....


تسب الجاهلةُ الرجال وتلعن الأعراف والمجتمع والقانون ثم هي تتبعهم في كل طريق وتطلع لهم في كل ناحية وتطلب المساواة معهم في كل أمر ثم تسمي نفسها خداعًا "نسوية"! استقلالٌ ليس سوى اسم.. وتفرّدٌ هو المجاز لا الحقيقة! فلتتمثل النسوية إذن كنظام متميز لوحده..يتبع صوت أنوثته وفطرته.. وينظر أمامه فقط حيث طريقه ووجهته ولا يتلفّت إلى غيره!: 

"ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"

الأربعاء، 13 يناير 2021

سبعٌ وعشرون دُرًّا من عِقْد أعوامي

 التاسع والعشرون من جمادى الأولى ..

أكملتُ عامي السابع والعشرين ..


هناك سنوات فارقة في عمرك، ليس بأحداث ضخام أو أمور جسام مررتَ بها، بل بشيء كان يعتمل في داخلك لا يراه الآخرون، أنت فقط كنت تبارزه وحدك بعيدًا عن الأعين! عامي السابع والعشرون هو نضجٌ سريع.. كأن منجنيقًا قذفني فجأة إلى قمة صرت فوقها أتأمل العالم ونفسي: ما الذي رماني فجأة إلى هنا؟ ومن أنا؟ ومن أولئك الناس في الأسفل هناك؟! كنتُ أتغيّر ولا أشعر بذلك في نفسي، كان التغيّر كظلي الذي يرافقني أينما أذهب، وهل يستغرب المرءُ ظلَّه ؟ لا .. هو ظله، وظله هو، الآخرون ربما لاحظوا ذلك! أرسلت لي صديقتي الأقرب لي ثقافة وأدبًا قصيدةً لأحد شعراء تويتر تطلب رأيي فيها؛ لم أمهلها تأملًا وتحليلًا حتى وصفتها بالسخف وهاجمت شاعرها- وكانت بالفعل سخيفة بعض الشيء-، فردّت عليّ مستغربة مندهشة من جوابي واندفاعي قائلةً: "نورة.. لقد تغيّرتِ كثيرًا! أصبحتِ عقلانية ومنطقيّة أكثر، لاحظت هذا الأمر فيك واضحًا بعد الزواج!" لم تكن في الواقع تمتدح عقلانيتي، بل كانت تذمها، كانت ترى أنها سلبتني رِقةً عرفَتني بها، وعاطفةً رزينة؛ لا جيّاشة ولا ناضبة، فإذا بهذه العاطفة تُزحزح ويحل بدلًا منها عقلٌ وافر، ووقار لا مذموم ولا محمود.. إلا أنه ليس لأمثالي! لا لم تُمسخ مني تلك العاطفة تمامًا، ولكنها لم تُتح لها الفرص للخروج كثيرًا! والمرء يتطبّع بما يزاول من أعمال، وبما يعالج من أفكار، وبهما يتغيّر مزاجه وتتشكّل نفسه.. فحين تزوّجت أُلقيت عليّ المسؤولية إلقاءً وكأنها كانت ماءً أُهريق على وجهي فاستيقظت به من نومي بغتة بلا مقدمات، لا لم يكن حجم المسؤولية التي تقلّدتها كبيرًا بقدر ما كان معناها واسمها.. أن تصبح مسؤولًا فجأة.. أن تصبح اليوم أميرًا لاهيًا وغدًا تصبح ملكًا مسؤولًا، أن تؤسس أسرة فتسكن رمالك ويتصلّب طينك.. لتصبح جبلًا ترسو تحته الأرض ويستقر به المجتمع.. هي مسؤولية أيًا كان مقدارها! ثم إن هذه المسؤولية لا تقنع بمكانها ودورها فقط، بل لا بد أن يصيب معنى الحياة كله بالنسبة لك شيءٌ من بَلِلها؛ ستنظر للحياة بعين الجِد، وستسحب عليها قدماك بثقل، وفي الوقت ذاته ستجري.. وستركض.. وتحاول أن تلحق في عمرك الصغير خطوات الكبار وعقولهم، لا وقت لديك ! أنت الآن مسؤول، الوقت لن يكون طواع أمرك.. عليك بالمهمات والشاهقات.. لا تشغل نفسك بالتوافه، والنتيجة: عقلٌ يتضخّم ونضجٌ يسرع، وعاطفةٌ مسكينة تكاد تخرج رأسها من بينهما.

ليس الأمر بهذا السوء، فبحمدلله نهلتُ خيرًا كثيرًا؛ زاد إقبالي على العلم الشرعي ولم أزل منه في ازدياد والحمدلله، وأقبلت على غيره من العلوم النافعة الجادّة، ولكن في المقابل قصّرت في الكتابة والأدب وكادت تخمد نارهما في روحي.. لم أختر ذلك ولم أرده؛ فكلما اقتربت من الأدب كان يصدني عنه حِسٌّ متبلّد وطبع مُجدب، زاده عليّ قلة الممارسة للكتابة نتيجة لكمون عاطفتي وازدياد مساحة المنطق فيّ وحرصي الشديد على تقسيم وقتي وأيامي تبعًا لمسؤولياتي وأعمالي، والأدب يأخذ من الفوضى أكثر مما يأخذ من النظام، ويذوب في الماء أكثر مما يتخلّل في التراب! وحينما أريد العودة إلى الكتابة والأدب لا أرضى إلا أن أكون كما كنت وكما كان أدبي سابقًا مُشعًا زاهيًا سهلًا جاريًا، وأنّى يولد الإنسان تامًا مكتملًا؟! فأصبحتُ كما قال ابن المقفع: "الذي أرضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه"، فرأيتُ المحاولة ذُلًّا، والنقص عيبًا.. أعاذني الله وإياكم من وهم الكمال! ولكن بحمدلله مؤخرًا بدأت ينابيع الأدب تتفجر في بيدائي وأقاحيه الجميلة تزهر في روحي.


أعود إلى سيرة التغيير.. فحين يُقال بأنك تغيّرت سيُريبك هذا التغيّر، بغض النظر هل كان تغيرًا للأحسن أم الأسوأ ما دمت لم تختره بملء إرادتك.. نعم تغيّرتُ؛ وانساق كل شيء فيّ نحو هذا التغيير، كأنه القطيع الذي يلحق براعيه؛ مشاعري القديمة.. بريقها ولمعانها، غزارتها ورِيُّها، شغفها وانطلاقها، خيالها وأحلامها، طربها وغناؤها، قلقها واضطرابها، حزنها وقتامتها، كل تلك كانت تتبدّل نحو شكل آخر أكثر ثقلًا ونضجًا، كان هذا الأمر يحزنني، فحتى لو كانت تتغير للأحسن فإني لا أزال كما قال المتنبي:

خُلقتُ ألوفًا لو رجعتُ إلى الصِبا

لفارقتُ شيبي موجع القلب باكيًا


نعم فأنا أخت الأُلفة ونديمة الحنين، حتى أني عزمتُ مرة إن رزقني الله بابنة سأسميها: "حنين".. حتى المشاعر التي عشتها والأفكار التي قلّبتها أحن إليها لمجرد أني لم أختر التخلي عنها.. والإنسان حين لا يصبح قادرًا على الاحتجاج فإنه يحنّ بصمت، يتكسّر حتى يلين، فيقف على أطلال كل ذكرى ويرسل الحنين موالًا جاريًا، وتجري الأيام، ثم يألف مشاعره الجديدة ليحزن إذا فارقها.

تغيرت مشاعري، ونضجت أفكاري وتبلورت معها شخصيتي؛ أصبحتُ أكثر صراحة ووضوحًا، لا يهمني ما يقول الناس عن أفكاري وسلوكي، على الأقل بقدر ما.. وكأن تعقّلي الذي ازداد يناقضه أن أخجل من بعض أفكاري وما أؤمن به، وكأنه أكسبني -بعد الله - صلابة لا يهمها رأي الناس فقط بل تُكسبها هيبة ومظهرًا أمامهم، وهذه من المفارقات التي لا يدركها كثيرٌ من الناس؛ فيتخلون عن مبادئهم هيبةً من الآخرين ولو اعتزّوا هم بأدنى ما يؤمنون به لهابَهُم الآخرون.. الناس يُريحهم أن يشبه بعضهم بعضًا، وفي الوقت ذاته يرمقون بإعجاب من خالفهم وأشبه نفسه لأنه يذكرهم بذواتهم المطمورة! والمؤمن الصادق لا يُباليهم باله ولا يُسلمهم عِقاله، بل حسبه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :" مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ ، رَضِيَ الله عَنْهُ ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَأَسْخَطَ عليه الناس"، لم أكن خجلى هكذا طوال عمري، وأعني بالخجل هنا الخجل مما يقوله الناس من حولي عن بعض ما أعتقده ويخالفهم مما يخص القضايا الفكرية والأحكام الشرعية -سمّوه إن شئتم خجلًا أو جُبنًا :) - فحين كنت صغيرةً في الابتدائية؛ كنت مضرب المثل في الجرأة، لم أترك محفلًا أو إذاعةً إلا كنت المقدّمَة فيها مجربةً كافة الفنون من إنشاد وإلقاء وتمثيل.. كنت أحب تجريب نفسي في كل شيء وكنت أصلح لكل شيء :)، وما أكسبني تلك الجرأة إلا اندفاع ونزق طفولي يدور في فَلَك نفسه فقط ولا يهمه كلام الناس، ولأني كذلك كنت أدرس في المدرسة التي تعمل فيها أمي معلمة، فكان وجودها يكسبني ثقةً ودعمًا: "جريئة وموهوبة وابنة أ.سارة"، هكذا كان اسم أمي يُعد ميزةً من ميزاتي، ولكني حين انفصلت عن أمي ومرّت السنوات بعد ذلك بدأتُ الاستقلال برأيي وشخصيتي مخالفةً اهتمامات وتوجهات أقراني، فبدأت معها الانكفاء على نفسي وكأني أحدودب على أفكاري التي تتكون بداخلي كجنينٍ أخفيه عن العيان، أما الآن فحين اكتمل حملها وولدتُها صرت لا أخجل من إظهارها وملاحقتها وهي تتقافز وتشغب في كل مكان.


إن كان من دروسٍ تعلمتها في هذا العام فأهمها هو أن تطمئن نفسي بأقصى ما أستطيع، أن أكفّها كلما رأيتها هالعةً متوثبة ترومُ إصابة حكمة القدر في كل الأمور التي تصيبها، أن تهدأ قليلًا لتعرف أين تُجلس ضعفها وأين ترسل جموحها.. فمدّ الرقاب للأعلى انقطاعها، وتحديقها في الأسفل انكسارها! الدنيا بمشيئة خالقها لا بمشيتنا نحن.. فيوم يُسرٍ ويوم عُسر، ويوم صبر ويوم شُكر، والمؤمن من لا يُغرّ في اليسر، ولا يعاف في الصبر.. واليقين رُبّانٌ يرسو بالمؤمن على شاطئ الأمان، تعلّمت أن كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلّم- غُنية عن كل شيء، وبهما الميزان الكامل لكل شيء في الحياة بدءً من النفس ومرورًا بالعالم من حولنا وانتهاءً بأصغر ذرة في الكون، وأن من جعلهما وراء ظهره والتفت لثقافات وفلسفات وأفكار مغايرة كمن مَلَك نجمةً وزهد في السماء كلها! تعلمت أن الأعلى أعالي.. وأن القمة ذُرًى مختلفة.. وأن السعادة كالهواء تحيط بك من كل الجهات، تعلمت أن أرفق بنفسي وأن أكون وسطًا في كل شيء بلا وهمِ كمال أو جلدِ ذات، وأن الموازنة في الأمور هي سر الطمأنينة، تعلمتُ أننا حين نحدّق في امتيازات الآخرين ونرغب أن نكون هم، فقد يُحدّق الآخرون أيضًا في امتيازاتنا ويرغبوا أن يكونوا نحن! فككفتُ حينها من قلق المقارنات وتشتيت نفسي في صفحات هذه وتلك في مواقع التواصل المختلفة.. فكلُّ إنسان متميز، لأنه غُذّي بقصص ومشاعر وأفكار مختلفة قادرة على إحداث معنًى وإبداع مختلف، وكلُّ روحٍ تأخذ من الآخرين ما ليس لها تظن أنها تقتبس نورًا؛ وإنما هو في الحقيقة دخانٌ ونارٌ يخنقها ويؤذيها! تعلمت أن لا أحب تبسيط المعقّد.. ولا تعقيد المبسّط، بل أن تكون الأمور وسطًا بينهما، تعلمت أن لا أدّعي حسن الظن.. ولا أتقصّد إساءته، ولكن أن أطلب الفطنة وأن أتنبه للخداع ما استطعت، تعلّمت أن لا أتقنّع بالصمتِ ضعفًا وعِيًّا.. وأن لا أُطلق الكلام صراخًا ومجاراة، بل أحترس للكلام وأصون لساني خشية أن يقع في النهر الفاسد، تعلمت لا أتمدد في بحر الثقافة.. ولا أتقلّص في جدول التخصص، بل أن أكون نهرًا يأخذ من البحر ويصب فيه، ويشقّ لنفسه مجرًى محددًا.. تعلّمت أن الحياة بلا الله صفيرُ ريح يخلع قلبك، وأن القرب منه هو عين الأمان والسلام والحياة الطيّبة، وبه سبحانه وحده أتقدّم للحياة وفي الحياة 

..صابرة في ضرّائها شاكرةً في سرّائها.. وهو الربّ والمربّي والحفيظ والوكيل..

وكل عام أنا بخيرٍ ومع من أحب ♥️