الاثنين، 27 أغسطس 2018

زائرٌ من الجنة


رأيته ساقطًا من أقصى السماء كشهاب..جرمٌ أبيض لامع ككرة ثلج تتدحرج من الأعلى، تتمهّل في النزول لتترك لك فرصة التمعن في معنى السقوط.. ها هو يقترب .. يا إلهي! إن له أجنحة! كأنه طفلٌ رضيع له أجنحة.. بل هو كذلك طفلٌ رضيع بأجنحة! حين اقترب وغدا فوق رأسي؛ أحسستُ وكأنه سيسقط عليّ فابتعدت، وما هي إلا ثوانٍ حتى هوى على الأرض فتطايرت ذرات الغبار من وقع الاصطدام، ارتعدت فرائصي لما رأيته.. كان منظره مرعبًا! فهو ليس من أطفال بني آدم ولكن له ملامحهم.. كأنه تمثال من جصٍ أبيض قد نُحت على هيئة طفل، كان ذلك التمثال.. أو الطفل عاريًا إلا من شيءٍ يستر عورته، كان كل شيء فيه أبيض اللون حتى شعره، والجناحان.. لا أدري إن كانت أجنحةً حقًا أم بقايا أجنحة؛ كأنها خيوط غزلٍ منقوض.. هرئةٌ ومقطّعة، وكان صامتًا هامدًا ممدًا على ظهره لا تسمع له ركزًا، وذلك الضوء الأبيض الذي كان يشع منه وهو ساقطٌ من السماء قد انطفأ، ماذا أفعل ؟ كان خوفي المنتفض يلحّ عليّ بالهروب، ولكني ترددت وأنا أستجمع عزمي على الاقتراب تدفعني غرابة المنظر..وإن من الغرابة ما يُخيفك..وإن منها ما يشُدّك ويُغريك؛ وقد كان كلا الشعورَين يصطرعان فيّ تلك اللحظة إلى أن تشجّعت واقتربت، فرأيت وجهًا كئيبًا وطفلًا معذّبًا يزرع منظره فيك البؤس والأسى.. يا للفظاعة! كيف لوجه طفلٍ أن يغدو كوجه الكبار همًا وظلامًا؟ من اغتال فرحته وسلب أحلامه ؟ من جفّف ماء الطفولة من وجهه وكسَف شمس الحياة في جبينه؟  من أسقطه من ذُراه وكسّر جناحيه وأضلاعه؟ لا بد لي أن أعرف أمره! هممتُ بإيقاظه.. كان مغمضًا عينيه بعمق واستسلام كمن هدّه المرض.. كيف أناديه؟ : أيها الطفل ؟ أيها التمثال؟ أيها الكوكب الساقط من السماء ؟ يا ذا الجناحين ؟ ... اقتربتُ منه أكثر
-"احم احححم! استيقظ استيقظ!"
فتح عينيه بسرعة والتفت إليّ.. شعرت بالخوف الشديد فجفلتُ إلى الوراء..لأول مرةٍ أرى فيه لونًا غير البياض! كانت حدقة عينه سوداء، وكان منظرها وسط هذا المحيط الأبيض مرعبًا بعض الشيء.
-"أين أنا ؟" 
كان ذلك صوته ! أوّاه.. صوتٌ ناعم، واهنٌ وضعيف.. تحس أن مصائب الدنيا الجِسام قد داسته مرارًا ولم ترحم رقته فتكسّر..
-"قل لي أولًا من أنت ومن أين أتيت ؟!"
لا أعلم أي قوةٍ اجتاحتني حين نطقت بهذا السؤال!
نظر إليّ نظرة شاردة ثم قال:
-"أنا من الجنة.. من جنة آدم! "
-"جنة آدم؟!"
ابتسم بوهن ثم قال:
-"نعم.. أنا دمعته النادمة.. أنا آثار قدميه المتعثرة.. أنا صدى صوته المتحشرج.. وُلدتُ فيه يوم بكى وندم .. وقد خرجتُ من الجنة وراءه؛ فما مكوثي هناك في أرض الحبور والنور.. فأكون كقطعة جليد في وسط بحر.. أو كشوكة في حقل ورد.. أو كغراب في سرب نوارس.. لا لن تُدنّس تلك الجنة بأمثالي وقد جعلها الله طاهرة طيبة.. لقد خرجتُ منها يا أختاه ولم يأتِ لتوديعي أحد، لا صراخ أو عويل أو دموع.. كان الصمت العميق يلف أرجاء المكان وكأن كل شيء في الجنة ينتظر مني الرحيل والخروج؛ فخرجت أجرّ أذيال المرارة تابعًا آدم إلى هذه الأرض؛ فهو وحده من يعرفني ويدركني وربما تقبّلني ورحّب بي.. وكذلك فعل، وكذلك فعل بعضُ أبنائه، وبعضهم أنكرني وتبرّم مني، وبعضهم تقبّلني مُتحملًا إياي على مضض.."
-"تقول أنك نزلت إلى الأرض مع آدم، ولكني رأيتك قبل قليل وأنت تهوي من السماء.. فكيف يكون ذلك؟ أو ماذا كنت تفعل في السماء ؟!"
صمت برهة ونظر إليّ نظرةً حزينة غائرة.. ثم تنهد وقال:
-"لا ينسى المرء المكان الذي أتى منه وإليه ينتمي.. فكيف إذا كان ذلك المكان الجنة؟ نعم لقد حاولت مرارًا منذ خرجت أن أزورها، ولكني في كل مرة أذهب وأطرق الباب فلا يُسمح لي بالدخول.. آه لقد حرّمت الجنة على أمثالي.. ولم يبقَ لي منها إلا الذكريات، وتأوهات يطلقها ابن آدم شوقًا لها كلما رآني..آه لم يبقَ من انتمائي للجنة إلا أن أتذكّرها وأُذكّر بها فقط.. فويحُ شأني ما أصغره وأحقره !"
ثم وضع راحتيه على الأرض يريد الاستناد بهما محاولًا النهوض ولكنه لم يستطع، فأخذ بالتأوّه ثم نظر إلي نظرة منكسرة وقال:
-"إحمليني يا أختاه..يا بني آدم.. يا ذكرى الجنة؛ ارفعوني ولو قليلًا من أرضكم من هذه.. فكلما دنوت منها مضّتني نيران العذاب ولافحات البعد أكثر .. إحمليني يا أختاه.. تقبّليني أرجوكِ!" 
ولّدت فيّ استغاثاته شعورًا رهيب.. مزيجًا من الشفقة والقلق والفزع.. ولكني رغم ذلك لم أجد بُدًا من الاستجابة! اقتربت وانحنيتُ.. مددتُ ذراعيّ لأحمله، ثم سحبتها فجأةً بلا شعور! فنظر إليّ نظرة خذلانٍ ممزوجٍ بالرجاء وقد التمعت في عينيه دمعة، لم يحتمل قلبي وقع هذه النظرة فممدتُ من جديد ذراعيّ ببطء، فوضعتُ يديَّ تحت كاهله وفخذه، ثم رفعته بحركة سريعة إلى صدري.. ثم..يا الله ! ما هذا!! أشعر وكأن الأرض تنزلق من تحتي وتنخسف، أشعر وكأنها ستبتلعني.. آه صدري .. صدري!! أشعر وكأن بركانًا يتفجّر فيه فتغمر نيرانه كل كياني.. آه.. أشعر أن قلبي جمرة ملتهبة.. ما هذه المخالب التي تمزق أحشائي!!..آه آه أشعر أني سأموت..أخذتُ أصرخ وأبكي: "يا الله .. يا الله ساعدني! يا الله.. يا الله ما هذا الألم!!" نظرتُ إلى الطفل بين يدي وقد نسيت في هذه الأثناء أمره .. وكأن ملامح وجهه قد انقلبت، وكأن جناحيه قد نبتا من جديد! لقد كان يشعّ نورًا وملائكية، وينام فاغرًا فمه ببراءة الأطفال، أجل لقد كان غارقًا في عالم آخر وادعٍ وحالم وكنت أنا أهلكُ في عالم عاصفٍ وفظيع! صرختُ باكية: "أنت..أنت السبب.. أنت يا كوكب السوء .. يا طفل السوء.. يا بياضًا ملعونًا.. يا قطعةً موبوءة!" فدفعته من يدي أريد طرحه أرضًا لكني لم أستطع، كان ملتصقًا بي!! حاولت مرارًا صارخةً وضارعة ولكن بلا فائدة.. صرختُ منتحبة: "من أنت.. ماذا تريد مني.. دعني .. دعني ماذا فعلت لك لتصيبني بكل هذا الألم!!" لكنه رغم صرخاتي العنيفة كان لا يزال نائمًا لم يستيقظ! هززته بقوة :" أيها اللعين.. قُم..قُم!" ثم فتح عينيه فجأة ونظر لي نظرةً انقلبت هي الأخرى تمامًا.. نظرةً ناعسة.. مطمئنةً سَكْرى! وقال بصوتٍ مختلف.. دافئٍ وحالم :"كيف تريدين أن تطرحي عنكِ شيئًا من الجنة وتصفينه بـ اللعين؟!"، صرخت: "أنت كاذب كاذب.. لم تأتِ من الجنة ولم تعرفها.. الجنة أصل السعادة ورمزها.. طيبة حسنة لا يتعلّق بها إلا كل طيبٍ وحسن.. وحاشاها أن يكون منها المخادعون والأشرار والمؤذون أمثالك!" رفع حاجبيه مستغربًا وقال بابتسامة خفيفة واثقة :"ولم يا أختاه؟! أليست أول معصية وقعت في الجنة حين أكل آدم من الشجرة؟ ألم تكن أول صرخات الندم وقرعات الضمير وعذابات القلق فيها حين فعل آدم ما فعل ؟! لم تتبرأ الجنة من كل ذلك براءً أبديًا إلا بعد أن خرج آدم منها.. حينئذٍ أصبحت دار السعادة الخالدة والنعيم المقيم، فازدادت لهفتكم إليها وتشوقكم نحوها عِلّةً على علّة؛ لأنها موطنكم الأم ودياركم الأولى، ولصفة النعيم الأبدي التي اكتسبتها،  فضاعفها ذلك في أعينكم حُسنًا على حسن! أجل يا أختاه، لئن تبرّأت الجنة مني فإنني لم أبرأ من الانتماء لها..وإنكم تعرفونني ولكنكم تنسون حقيقتي ومن أكون كما نسيتم الجنة وغيرها من الحقائق الأولى، أعرّفك بنفسي .. أو أذكركِ بنفسي.. فحتى أنتِ قد نسيتِني؛ أنا الألم.. هذا المخلوق المشع الأبيض ذو الملامح الوادعة والجناحين الناعمين هو الألم.. ونعم، قادم من جنة ربكم.. أتنزّل عليكم كل مرة لأذكركم بها، أذكركم بحرقة أبيكم آدم وندمه لفراقها، وأذكركم بما آلت إليه آخرًا؛ دارَ سعادة الأبد، ووعد الله وموعوده للمؤمنين الصابرين المحتسبين.. أختاه.. هيّا كفّي عن البكاء..صدّقيني.. لن يفيدك نكرانك لي وتبرمك مني شيئًا، تقبّليني.. لا تجزعي مني ومن حَملكِ لي، تصبّري.. واحمليني اسمًا لا همًا.. مجازًا لا حقيقة.. رضًا لا سَخَطًا.. كفاحًا لا استسلاما.. بشيرًا لا نذيرًا! هيا انظري لي وتبسّمي .. فما أنا إلا ذكرى للجنة!" كانت كل كلمة من عباراته الأخيرة يتبعها نشيجٌ مني يتصاعد.. أحسست بالدوار فسقطت ركبتاي على الأرض.. آخ تعبت من البكاء! توقفت عن البكاء وصمتُّ للحظات ثم نظرت إليه وأخذت دموعي تنزل مرة أخرى بلا صوت؛ وكأن بكائي يحتضر وينتهي، وكأنني أخضع وأستسلم.. وكان لا يزال ينظر إليّ مبتسمًا بنفس تلك الوداعة والاطمئنان، ثم مدّ يده نحو خدي فجأة وأخذ يمسح دموعي.. خمدت نيران أحشائي وسكنت فورة مشاعري؛ فأحسست بمياه الرضا الباردة تنسكب بغتةً في صدري، نهضتُ واستجمعت أشلائي، فنظرت إلى الطفل وابتسمت في وجهه رغمًا عني..شددت يدي حوله وضممته جيدًا إلى صدري؛ ضحك بصوتٍ عالٍ كطفل بشريّ فضحكتُ معه..انبعث فيّ فجأة نشاطٌ غامر، فانطلقت أتقافز  كغزالة وهو بين يدي.. أجل..حتى الألم رسالة مختومة بمسك الجنة، حتى الألم يأتي ليذكرنا بالجنة!.

تمّـت.