السبت، 15 أكتوبر 2022

الأمومة.. المبتدى

 كغريقٍ يصارع الأمواه والظلمات واليأس، قد أحاط به الموت من كل مكان ثم يُلقى إليه لوح النجاة فيستمسك به بكل ما أوتي من قوة.. يرى فيه الحياة ولمّا يخلص من الموت والخطر بعد؛ فما الذي فعله به لوحٌ صغير وموجةٌ واحدة من أمواج البحر هي أكبر منه وأعظم وما الذي أعطاه له من حياة وأمل؟ فانظر إلى رحمة الله كيف جعل لبعض الصغائر قوة قادرة على تفتيت أعصى الأهوال والكبائر! لقد كنتُ أنا كهذا الغريق، وكان البحر هو آلام المخاض والوضع الشداد، وكانت طفلتي "سناء" هي الخشبة التي لمّا لاحت لي تبدّت لي الحياة.. قاهرةً بسناها القوي الشفيف كل ظلمات الألم! لا أنسى ولن أنسى.. والتقريب والتشبيه هو أجدى ما تفعله الكلمات هنا؛ تلك اللحظة التي رفعوها أمام عيني حين أخرجوها من بطني وأنا وسط أرطال من الصراخ والألم، وحين رأيتها خمدت فجأة ثائرة توجعي وانهالت الدموع من عيني صارخة : الحمدلله الحمدلله الحمدلله! تلك كانت قرة عيني الأولى بها..! أسأل الله أن يتبع القرة بالقرة ممتدة إلى بعد موتي برًا ودعاءً.



يحدثوننا دائمًا عن وهن الحمل، وآلام المخاض والوِلاد، ولا يحدثوننا عمّا بعد ذلك.. يصورون لنا الأمومة زهرًا يفيض رقة وندى، ولا يخبروننا بما قبل النعومة من تعاهد وسقاية ورعاية، لا يحدثوننا عن أنها تحتاج جبالًا من الصبر حتى تثبت ثباتًا ما فيه اهتزازٌ اللهمّ إلا هزّ اليدين للمهد! وأن الشدة ستصدمكِ فيها منذ أول يوم مهشمةً نظارة أمومتك الوردية.. نعم؛ ستَشْرَقين بالصبر أيامًا، ستقبضين عليه كما تقبضين على الجمرة ليس لها إلا يدكِ لتطفئها! لا ماء المحبة ولا رمال الضعف! الحب والعطف والرحمة شعارُ الأمومة، والصبر دِثارُها! انتهى مخاضكِ الجسدي، وسيبتدرك بعدها مخاضك المعنوي الذي تولَدين فيه وتلدين في كل مرة، ومن ثَمّ.. فقُبلةٌ أو ضمّة أو شمّة لطفلك قادرة على اختراق كل لحظات التعب والسهر والوصب! ومن رحمة الله أن جعل الصبر والحب شقّي الأمومة؛ يحمل هذا ذاك وذاك يحمل هذا، ويستقيم هذا بذاك، فلا يميع الضعف، ولا تخشوشن الصلابة، ومن ثم ؛ ليست الفضيلة أن تُجرح فتُشفى، بل أن تُجرح فلا تتألم، وترى الدم فلا تنقبض! ثم تزهر بعدها أشواك الصبر، وتتفجر ينابيع الأمومة في أعماقكِ عطاءً ومحبة.. ستصبح شؤونها طوع يدك بعد أن كنتِ أنتِ طوع يدها.. ستكتشفين الأم التي ركّبها الله في فطرتك، وسيتبدّى صغيرك كأغنية أنتِ من يغنيها، وكضحكة أنتِ ثغرها، وكحبٍ أنتِ قصته، وعطفٍ أنتِ رقّته وعذوبته.. كل إناث الأرض مهما اختلفت طباعهن وشخوصهن أمهات بالفطرة؛ سواء منهنّ من أوتيت حظًا وافرًا من الشفقة والحنان أو من قَسَت طباعها ظاهرًا ولكن في داخلها قدْرًا من الأمومة تستطيع أن ترعى به صغارها وإن لم يقنع بهذا القدْر المغالون والمقدّسون للأمومة أو لاكتها بسببه ألسنةُ الناس! نعم.. انظروا حولكم مغمضين أعينكم عن الصورة الوردية المقدسة للأم التي تصورها كقديسة هبطت من السماء قد ظللت صغارها بجناحي النورانية والعطف والإشفاق الغامر.. انظروا إلى شتى أمهات الأرض ممن حولكم وممن سمعتم عنهن وقرأتم في الماضي والحاضر، في صنوف الأقطار والبلدان وألوان الشعوب والبشر، بل حتى في ممالك الحيوان! ستجدون الأم/ الأنثى مهما ظُنّ أنها أرْخَت يدها عن صغارها وابتعدت عنهم أو تركتهم يبتعدون عنها لا بد أن تقبض يدها عليهم في لحظة أو يوم أو زمنٍ ما! إنها "الرحمة"! وهي القدر الضئيل من الأمومة الموجودة في كل أنثى.. وقد خُلقت معها وخُلقت فيها؛ إنها مقتطعة ومنتسبة إلى "الرحم" الذي هيأه الله للولد في جسمها، ثم لما انفصل عنها ولدها لم تنفصل هي عنه فألحقت به رحمتها فكأنه رحمها الذي يمشي على الأرض وبه ترعى وليدها.. يختلف الناس، ويختلف الأطفال، وتختلف الأمهات كذلك! وكل أم مهما وُجّه لها من النصح واللوم ستبقى في داخلها بوصلة بها تشق رحلتها مع أطفالها؛ ألا وهي: غريزة الأمومة.. ذلك الخيط الذي يصلها بابنها، ويصلهما جميعًا إلى اختيار مسدد خاصٍ بهما وإن تعدّدت الاختيارات والنظريات، وإن اجتهدت وأخطأت فخطؤها مغفور! 
إنّ رسْم صورة واحدة مقدّسة للأمومة ومحاولة تنميط الأمهات عليها يزيد من ثقل المسؤولية على الأم وتأنيبها لضميرها، لأنها ستظل دائمًا تحاكم نفسها إلى تلك الصورة وتقيسها عليها ولا تجد من يطمئنها على أمومتها التي لا ريب أنها موجودة فيها! ولولا اختلاف الأمهات لما اختلف الناس في طبائعهم وأحوالهم.. ثم أين أصحاب الصورة الوردية تلك من الأمهات اللاتي ينذُرْن أبناءهنّ للجهاد أو للعلم مثلًا في أماكن قاصية محتملات ألم فقدهم وابتعادهم عنهن؟ أينهم من والدة مريم عليها السلام حين نذرت الجنين الذي في بطنها للعبادة؟ وأينهم من الصحابيات اللاتي يموت عنهن أزواجهن أو يطلقونهن فيتزوجن بعدهن رغم صغر أعمار أبنائهن؟ أينهن عن أسماء بنت عميس مثلًا؟ أينهن عن سبيعة الأسلمية التي حين مات عنها زوجها وهي حامل تزينت للخطاب بعد خروجها من نفاسها مباشرة ولم يقل لها أحد وليدك أجدر بك من زوج وغيره أو يتهمها في أمومتها وينبزها بعدم التضحية! لم يلم أحد أولئك الصحابيات؛ فلم يفعلن إلا شيئًا قد أباحه الله لهنّ ومارسْنَ حقوق أنفسهن بالزواج رغم وجود أولاد صغار تحت أيديهن! لا تعارض بين أن تمارس الأم حقًا شرعيًا أباحه لها في الزواج أو طلب علم أو ترويح أو غيره ما لم تضيّع أولادها أو تفرّط في حقهم! ثم أين هؤلاء وأين أصحاب الدعاية الإعلامية بتشجيع الرضاعة الطبيعية عن تلك العادة العربية التي اشتُهرت في قريش بإرسال أطفالهم بعد ولادتهم إلى قبائل البادية لتقوم نساؤها بإرضاعهم، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير مثال؛ حين أرسلته والدته مع حليمة السعدية في تلك القصة المعروفة.. ولم تلطم أولئك النسوة القرشيات والعربيات خدودهن وتشققن ثيابهن عويلًا على أبنائهن وجزعًا على فقدهم وابتعادهم عنهن! فماذا يقول أصحاب تلك الدعاية عن هذه العادة؟ هل سيشكّكون في أمومة هؤلاء النسوة ؟ وأين ادعاءاتهم بتقوية الرضاعة الطبيعية للعلاقة بين الأم ووليدها منها؟! إن اللوم الموجّه للأمهات "المقصّرات" الآن ينبغي أن يوجّه لمن أظهرهن بتلك الصورة وحمّلهُنّ قدرًا زائدًا عن أمومتهنّ من معتقدات أو عادات أو أعراف، أو حتى ظروف اجتماعية واقتصادية أدّت إلى عدم وجود معين أو مساعد لها في تربيتها ورعايتها لأطفالها وبيتها، فغدت الأم في نهاية الأمر كالغصن الذي يُحرق ليستضيء ويستدفئ من ناره الآخرون.. لا كالغصن الذي يورق ويثمر ليستظل ويأكل منه الآخرون! فهل يستويان مثلًا!