السبت، 11 سبتمبر 2021

ألبانيا .. أرض النسور


أحب أن تكون لدي رؤى سابقة عن المدن والبلدان التي أسافر إليها.. لا تعجبني كثيرًا فكرة المفاجآت أو ترك الأمور للصدف والاكتشاف هنا؛ لأني أؤمن أن للمدن روحًا قد لا تأتلف مع أرواحنا، فنحن في السفر لا نمرّ مرورًا كعابري سبيل، أو ننزل ضيوفًا نُقرى ونُضاف في ثلاثة أيام، نحن نمكث أكثر من ذلك؛ فتُطرح المؤنة والكلفة بيننا وبين المدن.. وندخل مزاراتها ونلج أسواقها وحاراتها بلا استئذان.. نستألفها وتستألفنا، ونعقد صداقة وصحبة منها، وربما وقعنا في حبها! 

هكذا خطرت لنا ألبانيا، وقصدناها ولم نقصدها، ونزلناها كما ينزل إليها الضائع في لجّة الصحراء يبحث عن نار وقرى ثم لاحت له هي؛ لم تكن ألبانيا ضمن الخيارات المطروحة للسفر، كانت هناك وجهات أخرى ولكن بسبب كورونا وأمور أخرى متعلّقة بالفيزا وإجراءات السفر اخترناها هي بصفتها دولة مسلمة رفَدَت التاريخ الإسلامي والعثماني خاصة بإسهامات وشخصيات لا زلنا نُروى بمائها إلى اليوم؛ كالإمام العلَم ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، وآل أرناؤوط في الشام وإسهاماتهم في المجتمع، وهكذا انطلقنا إلى ألبانيا وبقايا التاريخ والقلاع والجسور العثمانية والمظاهر الإسلامية هي سائقُنا وهادينا، ولكن حين وصلنا صُدمنا باندثار الإسلام هناك! وقد تعمّدتُ هذه الكلمة :"اندثار"! فكأن الإسلام هناك كان عهدًا بائدًا انطوى عليها ألف عام، أو شيئًا من الأطلال وقصة من قصص البدو؛ فأنت إذا أردته ذهبت تتلمّسه في صحاريهم وتشدّ الرحال نحو مضاربهم ومراعيهم تسألهم عنه وتستبينه منهم! وهو -أي الإسلام- إذا أراد أن يكسر عزلته ويذهب إلى مدن الناس وحواضرهم نظروا إليه نظرة الغريب الطارئ ثم أطرقوا رؤوسهم ماضين في شؤونهم وحياتهم! نعم هكذا حال الإسلام في ألبانيا، والبلاد وإن كان غالبية سكانها من المسلمين إلا أن أكثرهم مسلمون بالاسم فقط غير ممارسين لشعائر دينهم؛ وأكثرهم -يا للأسف- منساقون لأوروبا مقلّدون للأوربيين في أساليب لباسهم وطعامهم وحياتهم، فتجد النساء يرتدين (الشورتات) والتنانير القصيرة جدًا التي لا تغطي إلا السوأتين، والرجال-وكذلك النساء- يملأ الوشم أجسادهم، هذا عدا انتشار الخمور والمسكرات في أكثر المطاعم تقريبا، وكذلك لحوم الخنازير، ولكن سيخفّ عجبك ويقل إنكارك حين تعلم القصة الكاملة لهذا التحول الكبير، فالبلاد رزحت تحت الشيوعية الظالمة بقيادة الطاغية أنور خوجة أربعين عامًا، وقد حارب هذا الطاغية الأديان ونكّل بأهلها إلى حدّ أنه أعلن أن ألبانيا دولة ملحدة لتصبح أول دولة في العالم تنص على أن دين الدولة هو الإلحاد! هنا خبر ما حدث لألبانيا في ظل أنور خوجة لمن أراد الاستزادة 

سقطت الشيوعية في ألبانيا في بداية التسعينيات، وبدأت البلاد منذ ذلك الحين تتحرر من قيودها وآثارها وتستكشف العالم الخارجي ببطء، وكان القطاع السياحي أهم حلقة وصل بين ألبانيا والعالم، وقد ركّزت الحكومة هناك على استثمار هذا القطاع عام ٢٠١٣م لما تتمتع به البلاد من طبيعة خلّابة وشواطئ ساحرة وبقايا تاريخية عريقة، فبدأت وفود السياح بالانهمار عليها خاصة من أوروبا بحكم القرب الجغرافي، حتى فاق عدد السياح عام ٢٠١٩ عددَ سكان البلاد أنفسهم؛ فبلغوا ٨ ملايين سائح.. وأرى أن التفات العرب لألبانيا في السنتين الأخيرتين بدأ يزداد، خاصة من الشعب المصري الشقيق كما رأيناهم هناك، وأنا وإن كنت لا أنوي العودة لألبانيا مرة أخرى لو أتيحت لي الفرصة إلا أني أشجع العرب والمسلمين على السياحة هناك لمن أراد ذلك، فحجاب المسلمات وصور السياح المسلمين هناك كفيل بإذن الله على تعزيز الإسلام في نفوس الألبان وتذكيرهم بماضيهم فيه، ورغم ذلك؛ فالشعب الألباني شعب ودود كريم، يشهد لذلك حسن تجاوبهم معنا.. فمثلًا كلمّا أضعنا طريقنا بالسيارة أو أردنا استشارتهم بشأن الأماكن التي ينصحوننا بالذهاب إليها؛ فقد يحرجك جمود ملامحهم أحيانًا ولكن إذا استوقفتهم وسألتهم فإن تلك الملامح ستسيل ودًا ورغبةً صادقة بالمساعدة رغم حاجز اللغة وأشياء أخرى، وتحس أن فيهم دفائن إسلامية تُريد أن تُستنطق؛ فإذا رأوا الحجاب أو عرفوا بأننا عرب مسلمون بادرونا بـ"السلام عليكم"، وأذكر أننا جلسنا نتحدث مع رجل ألباني في الخمسين من عمره فأخبرنا عن إحدى القلاع العجيبة عندهم فقلنا له:" ما شاء الله!" فتعجّب وقال أن هذه كلمة ألبانية يقولونها أحيانًا إذا رأوا ما يعجبهم، فأخبرناه بأنها كلمة إسلامية يقولها المسلمون جميعًا.. مثل هذه البقايا المسلمة المضيئة من ذلك العهد المشرق، ومثل هذه الشخصية الألبانية التي يتنازعها هويّتان وإن كانت إحداها مثل الرمق في الكأس قلّةً.. إلا أن هذه البقايا والنتف تثير في نفسك الحسرات، تعلّق قلبك فيها تعلّقه بالأمل الواهن.. لا يشعلك رجاءً ولا يخمدك يأسًا إلا أنه موجود؛ وكفى بوجوده معنًى وأمل.. أسأل الله الهداية لهم ولنا ولجميع المسلمين.. وينبغي أن أنوّه بأن مظاهر التفسّخ والانحلال قد يكون بعضها من السيّاح وبعضها من الألبان؛ لأن السياح الأوربيون هناك كثيرون جدًا لرخص البلاد، وأنا أتحدث عن هذه المظاهر في العاصمة والمدن الكبرى، أما القرى والأرياف فلم نمكث فيها، وأظن أن الحال فيها تختلف، إلا أنه بصورة عامة فإن عدد المحجبات الألبانيات التي رأيناهن قليل جدًا ويكاد يكون معدودًا بالأصابع؛ والله المستعان وهو أعلم..

تمتاز البلاد بتنوّع طبيعي خلّاب وساحر: جبال وسهول خضراء ما ترى فيها من فطور، وأنهار وبحيرات كثيرة دفّاقة، وبحر أزرق صافٍ كأنما هو السماء، غيومٌ كأنما هي القطن الملتف كثافة وامتلاء.. تلوّن بديعٌ رائق يجعلك تردد : 

يا أهل "ألبانيا" لله درّكم
ماء وظلّ وأنهارٌ وأشجارُ
ما جنّة الخلد إلا في دياركم
*ولو تخيّرتُ هذا كنتُ أختارُ

تنقّلنا بين طول البلاد وعرضها فزرنا ٥ مدن تقريبًا، وكل هذا التنقل كان بالسيارة لأنه لا يوجد مطار إلا في العاصمة تيرانا، ولا يوجد قطارات، وأطول مدة في تنقلنا كانت ٤ ساعات بين مدينة وأخرى، وأقلّها كان ساعة أو ساعتين؛ وهذه أكبر سلبيّة في هذه الرحلة الأمر الذي جعلها رحلة مرهقة وغير مستقرة بعض الشيء، فلو عاد بي الزمن واستقبلت من أمري ما استدبرت لاقتصرت على مدينتين أو ثلاث كحدّ أقصى مختارةً لذة التأني على ظفر اللحاق والسباق.. فلن تفوتَني جنة عدن ولو فوّتُ ما فوّت. ومن أبرز ما تلاحظه في ألبانيا هذه الفترة هو أن كورونا بدا وكأنها لم تحط في هذا البلد! فالغالبية العظمى من الناس لا يرتدون الكمامات، ولا يوجد جهاز كشف الحرارة في المحلات والمطاعم، ولا حتى في المطار! لأن الإصابات هناك قليلة جدًا، لقلة عدد السكان أصلًا ولاعتبارات أخرى ربما.. المهم أننا عدنا إلى وطننا سالمين غانمين لم يلحقنا مكروه ولله الحمد.
أرضٌ طيبة وشعب ودود هيّن رغم كل التناقضات والتباينات، ورحلة جميلة ماتعة رغم كل شيء.. والحمدلله على وطنٍ نقرّ فيه وبيتٍ نسكن إليه وأهلٍ ورحم نألفهم