الاثنين، 5 فبراير 2018

انبجاس..



 
هل يفرّق الرأي بين ما أودع الله في ذكرٍ وأنثى من نوازع الطبيعة وغرائز الفطرة ؟ هل يقطع دواعي الحب وأسباب المودة؟ هل يقطع .. فيحجب ما بينهما بحجابٍ غليظ يمنع نور صاحبه واتقاد توهجه عن الآخر ؟ بل قل: كيف أصبح للرأي في نفس كلٍ منهما هذه المنزلة التي علَتْ فوق الفطرة وشمخت فوق الهوى وأركست صوت الشيطان ؟ 
حين أخبرتها صديقتها أن أحد المفكرين سيعقد مجلسًا في بيته يتحدث فيه عن "الحرية" تحمست للفكرة وقررت الذهاب إليه، وهناك التقته لأول مرة، شابٌ عنيد كالعزم، متصلبٌ كالثبات، هازئٌ كالدهاء، مليح..بعينين لامعتين وحاجبين قد تقوسا حزمًا وجِدًا يحسب الناظر إليهما أنهما تنفذان إلى صدره وتجوس في خبايا نفسه، فيهتاب ولا يملك إلا صرف نظره ووجهه بعيدًا عنه، وكانت هي فتاة حازمة كالحق، متقدة كالثورة، واضحة كالحقيقة، بملامح عذبة..وشفتين واثقتين تكاد لفرط انطباقهما أن تنفجران إما عن عين ماء.. أو بركان نار! التقته ولم يكن في المجلس مقعد إلا بجواره، فجلست، وكان وجودهما ملفتًا والأنظار تطوف بينهما لأنهما كانا الشابان الوحيدين في المجلس..يا للصدف التي تجهدُ في الوصال ويا للرؤوس التي تأبى إلا التباعد! حين نظرت إليه أول مرة استلطفته وتمنت أن يكون باطنه على قدر هذا الاستلطاف، وحين رآها أول مرة اطمئن لها وأحس أنها على شيء من صفات فتاة أحلامه..والحب لا يُلقى في القلوب مكتملًا، بل يتخلّق فيها شيئًا فشيئًا ليخرج مكتمل الجسم موفور الحياة، وهكذا كان حبهما سيكتمل لولا أن تناقشا نقاشًا جانبيًا عن الحرية؛ ثم ما لبثا أن تدَابَرا يركب كل واحدٍ منهما رأيَه، ويقوده نحو وجهته المتنافرة عن الآخر؛ هي شرقًا، وهو غربًا، هيَ نحو قضيتها التي لطالما آمنت بها، وهو نحو مبادئه التي لم ولن يتنازل عنها..ومن يومها أكنّ كل واحد منهما للآخر كرهًا عميقًا، إذ أن الرأي والاتفاق فيه والاختلاف هو مقياس التواد أو التباغض عندهما.

ومرت الأيام فإذا هما يلتقيان مرة أخرى في مجلسٍ آخر ولم يكن ثمة حديث بينهما إلا أن شرار الكُره ينبعث من عينيهما كلما التقتا ببعض فجأةً ..أو عن اختيار!..لطالما تساءلت هي عن الذي يجعلها تنظر إليه عامدةً لتحدق في ملامحه وتجسّ ردات فعله عن الكلام الذي يقال حوله، متحسسةً رأيه، مترقبةً بشيء من القلق ما سيقوله كلما فتح شفتيه، وكلما نطق بشيء بدا أنه يخالف رأيها فيه تمنت أن تركض إليه وتلقمه حجرًا في فمه كيلا يكمل كلامه؛ لماذا؟هل هو حنقٌ عليه  وكرهٌ لصوته؟ أم لا تريد أن....؟ لا تدري! لأول مرة لم تكن مشاعرها واضحة مثلها..لأول مرة لا يتطابق ظاهرها مع باطنها؛ وفي مقابل هذا الجزء الغامض من الشعور كان هناك كرهٌ عميق تكنه له ويراودها بين حين وآخر إذا نظرت إليه وكلما وقعت عينها على عينه، ولطالما تساءلت لماذا تكن له كل هذا الكره ولم يتجاوز ما بينهما بضع جمل حدثت في نقاش عابر ؟! لطالما اختلفت مع أُناسٍ خلافات شديدة وابتعدت عنهم ولم تكنّ لهم كل هذا الكره لأنها تؤمن أن تعبيرهم عن آرائهم جزء رصين من الحرية التي تؤمن بها، لكن لماذا هو؟ أهي خيبة القلب وانتقام الحب الذي قُتل قبل أن يولد وقبل أن تسنح له دقائقٌ من حياة؟ وهل الخيبة تكون إلا على قدر الرجاء والانتقام يكون إلا على قدر الفقد.. فهل خابت فيه بقوة وانتقمت منه بقوة لأنها رغبت أن يكون هو.. حب الأيام وفارس الأحلام؟ "لا، لا" نفضت بهذه اللاءات هواجسها وطردتها، "لا يمكن أن أجعل شيئًا آخر يكون فوق قضيتي، لا يمكن أن أُشرك معها أو فوقها من هو أدنى منها.. إن الشرك لظلمٌ عظيم!" وأردفت :"ثم إن الحب لا يليق بفتاة مثلي أرستَ لحياتها جبلًا أشم وأقسمت أن تتسلقه، وإن أعوزها كل شيء لبلوغ ذلك جعلت من أظافرها مخالبًا ومن أسنانها أنيابًا تفتت بها الصخر الوعر، وإن الحب آفة.. أرَضَةٌ تأكل من جذعك العتيد شيئًا فشيئًا وأنت لا تشعر، ثم تُرديك خاويًا متهالكًا، وأنا لا أريد شيئًا حتى يسرقني من انتباه أيامي، فالحب أوله سُهُوم وأوسطه غفلة وآخره نومةٌ تذهب بالعاشقين إلى دنيا أخرى، وأنا حريصةٌ على دنياي ولا أريد أن أتهاون عنها!"
أما هو فقد شعر أن لوجودها معنًى في قلبه، فإذا تكلم برأيه أحس أن كلماته لا تنطلق انطلاقها القوي المعتاد وأن هناك ما يعيق جريانها، وإذا رأى أمامه أحس أن في عينيه جُرمًا لا ينفك عنه أنى أجال بصره؛ كان يشعر أنها تنظر إليه، وأن صورتها تدور في عينيه أينما دارت، كان وجودها جنُاحًا على نفسه، وبغضًا في قلبه، تساءل إن كان يكرهها هذا الكره فلماذا يقيم لها وزنًا ؟ لا يدري، بحزم الرجال طرد هواجسه بسرعة، ثم عاد يستمع إلى المجلس. انتهى المجلس وفي الرواق أثناء خروجهما من المكان تقابلا وجهًا لوجه؛ قطّب لرؤيتها وأشاحت هي وجهها بكبرياء عنه ثم خرجت: "إنه يكرهني وأنا أكرهه" لقد حسمتْ الأمر!

وفي يومٍ من الأيام ذهبت إلى المكتبة كعادتها في كل شهر، وأثناء ما كانت منهمكة في تصفح أحد الكتب؛ رفعت عينيها وإذا بها تتفاجأ أنه يبعد بضع خطوات عنها، وبدا منهمكًا هو الآخر في البحث بين الكتب ويبدو أنه لم يلحظها؛ دسّت رأسها بسرعة في الكتاب المفتوح بين يديها حذرًا أن يراها :"تبًا! ماذا يريد هذا!" كانت رؤيته تعني أن تُثار تلك العواطف الغريبة والمتناقضة في نفسها من جديد! ثم اتقد في نفسها فجأة شيءٌ يؤزّها أن تقول له شيئًا، لقد كانت جريئة وواضحة في كل الأشياء حتى التي لا تعنيها، فكيف بالذي يعنيها ويثير في نفسها حربًا واضطرابًا؟! وهنا أسقطتْ كتابًا على الأرض فانتبه والتفت إليها والتقت العينان، لقد رسم وجودها علامات الدهشة في وجهه ثم ما لبث أن حلّ عليه ذلك التقطيب المعهود وقال بصوت خافتٍ منقبض :"أنتِ هنا؟!"
-"أجل أنا هنا" ثم قالت وهي تنظر للكتب الكثيرة في سلّته :
-يجدر بقرّاء مثلك أن يتخلصوا من القيود والأفكار الخاطئة ويكونوا أحرارًا..أن ينمو لهم كلما قرؤوا كتابًا أجنحةٌ يستطيعون التحليق بها، "العلم نور" هذا أول مثل علمونا إيانا ونحن صغار، وأظنك لم تستوعبه حتى الآن وما زلت قابعًا في جهلك!
-نظر إليها برهة مستغربًا جرأتها في الكلام، ثم وكمن سنحت له فرصة التحدث أخيرًا قال مندفعًا :"ويجدر بالقرّاء أمثالك أن يحكّموا عقولهم في ما يقرؤونه، أن يتفهموا لا أن يفهموا فقط، وأن لا ينجرفوا وراء الشعارات الخادعة والأوشحة البرّاقة، ثم.. ثم إنك تكلميني وكأنني عبدٌ من زمن العبيد، أذلّ لسيدي ولا أخرج عن قوله.. أو كأنني سجينٌ رضي بسجنه ويرى باب السجن مفتوحًا فيأبى الهروب ؟! مالكِ ؟ وماذا أصاب عقلكِ؟ ألا ترين أمامكِ إنسانًا يملك أمره؟ يذهب متى وأين شاء.. يعمل ما يشاء.. يأكل ويشرب وينام ما شاء ومتى شاء..أم ما هي الحرية التي تريدونها ؟ هل هي حرية الانفلات والانسلاخ من كل كل شيء؟!! فاعلمي إذن بأن هذا مستحيل لأنه لا يمكن؛ البشر ... (قاطعته هنا وقالت):
-من قال أني أقصد هذا! لست بهذا السوء الذي تظنه كي أقصد ذلك!! المشكلة أنهم يسلبونكم حريتكم ثم يرمون عليكم قطعة منها كما يرمي الغني درهمًا للفقير ثم تتلقونها أنتم بكامل البِشر وتقلبونها بين أيديكم بكل حفاوة رافعين أيديكم بالشكر والدعاء لهم! (ثم لفت نظرها فجأة في سلة كتبه وجود رواية "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف فابتسمت ابتسامة هازئة) وتابعت: وتقرأ لمنيف؟! واشتريت روايته هذه أيضًا ؟!
-نعم سبق وأن قرأت له، وأعرف ما تعنين بابتسامتك هذه! (ثم أخذ الرواية ونظر إليها وقال): لا أعرف ما الذي تتحدث عنه هذه الرواية؛ اشتريتها بدون تخطيط.
-إذن عندما تقرؤها أكثر ستعرف أنه ليس عبدًا من زمن العبيد.. ولا رجلًا متفلتًا بلا مبادئ أو حدود.. بل رجلٌ حر..منعه ضميره أن يصمت عن الظلم وأخذ الحقوق فطوّع قلمه وأدبه لأجل العدل والحرية ولم يخف في ذلك لومة لائم!
-أووه، مسكينة هذه "الحرية"! يعبث بمعناها سماسرة الفكر وأدعياء الثقافة كيفما ومتى شاؤوا؛ يعرضونها في سوق نخاستهم ويرتزقون من ورائها ليجنون منها ما يريدون! أخبريني ما هو هذا الظلم الذي تتحدثين عنه؟ أهو موجود أم يفترض آخرون أنه موجود ؟ لحظة..لحظة لا تغضبي..أنا أعلم أنه يوجد ظلم، وهل خَلَت الدنيا يومًا  من الظلم؟! ولكن المرء يحكّم عقله إذا كان واقع الحال أكبر منه، ويرجح المصلحة من المفسدة، ويسدد ويقارب، ويكبح بالمبادئ رغائب القلب وشهوات النفس، فمن عصاه هواه فرّ للواجب؛ لينجو من الهوى! 
-لمَ تختار أن لا تكون مبادئك مع العدل والحرية ؟ من أقنعك أن المبدأ هو يعني أن تصمت وتلتزم الحياد؟
-الحرية التي تريدونها قد طلبها أُناسٌ وماتوا دونها ولم يبلغوها، وأسباب ذلك عديدة، ولكنها تؤدي إلى إجابة واحدة: هي أن هذه الحرية قدَرٌ أكبر مني ومنك.. وأنها موجودةٌ فقط في مرتفعات الفِكر والخيال وليس هنا على جادّة الواقع! 
-هذا ما أقنعوك به! رسموك كما يريدون وقالوا هذا أنت.. مكثوا عاليًا وحين حاولت الصعود لهم قالوا لك اجلس فهذا مكانك.. هم يهنأون وأنت تشقى، وينالون وأنت تقنع، ويسرحون وأنت مقيد.. وإذا فتحت فمك معترضًا رموك بتهم الفساد وإثارة الفتنة وأخ...(قاطعها):
-اششش، أخفضي صوتك!
-أرأيت! أرأيت أنك مقيد حتى عن الغضب والاعتراض!
-(قال بغضب): لا فائدة من التفاهم معك! أخبرتك أن المرء يحكم عقله وأنتِ تصرين على الانجراف مع غضبك وعواطفك! لقد ظننتك فتاةً متزنة وحكيمة مذ رأيتك أول مرة ولكن خاب ظني!
-(قالت بغضبٍ أكبر): وأنا ظننتك شجاعًا ورجلًا بحق ولكن خاب ظني! (ثم جذبت سلة كتبها بقوة من الأرض واندفعت خارجًا بخطوات تقتلع الأرض من قوتها)
(أما هو فكان ينظر إليها وهي تغيب عنه ضاربًا كفًا بكف مع ابتسامةٍ هازئة عُرِف بها)


وحين كانت تقف عند البائع لتدفع ثمن الكتب؛ دخل المكتبة رجلان ملثمين يرتديان ملابس ثقيلة، أرابها مظهرهما كما أراب غيرها؛ فما الذي يدعوهما إلى التلثم واللباس والجو حار؟! وحين دفعت ثمن الكتب مضت نحو الباب للخروج، لكن أحد الملَثمين أغلق الباب وأقفله في وجهها ثم أخرج مسدسًا وأطلق النار باتجاه السقف..صرخت وصرخ الناس وبكى الأطفال، ثم أطلق مرة أخرى وقال بصوت عالٍ:
-هدوووء هدوووء..قفوا أماكنكم وسلموا هواتفكم المحمولة حالًا..من يحاول الخروج سنطلق عليه؛ لا نريدكم أنتم بل نريد صاحب المكتبة الذي يقف هناك (وأشار على رجلٍ كهل قد سقط نصف شعره واكتسى بالأبيض نصفه الآخر، يرتدي النظارات، حليق اللحية، ذو شنبٍ كثيفٍ أبيض) .. (ثم تابع):يا سيد عبدالله؛ نعرف أنك تخبئ المخطوطة التي في حوزتك في مستودعات المكتبة وفي أحد الخزائن .. أعطنا إياها بالحسنى وإلا سيبقى هؤلاء الناس رهائن عندنا؛ أو تضطرنا أن نوثقك ونعذبك إلى أن تعطينا إياها!
-أعطه ما يريد! (صرخ بها شاب كان يقف بجوار السيد عبدالله.. ثم تتابعت الصرخات من الناس الموجودين بذات العبارة)
-ثم قال السيد عبدالله: أيها الناس: إن أرواحكم عزيزةٌ وغالية علي.. ولكن هذه المخطوطة هي أمانة والدي لي، قد كتبها أحد أجدادي الذي كان عالمًا كبيرًا، وهي في الوقت ذاته أمانة الدولة أودعتها عندي وشددت عليّ حفظها وصيانتها، افهموا أرجوكم.. إنها أمانة غالية..يريد لصوص الآثار والمخطوطات هؤلاء سرقتها وبيعها والتكسب بها في الخارج!
(ثم علَت جلبة الناس وازدادت تهديدات الملثمين واشتدت لهجتهم، واجتمع الناس حول السيد عبدالله مرتفعة أصواتهم معه وهو يحاول أن يشرح لهم ويطمئنهم أن يجد للأمر حلًا، وأن يحاول التفاوض مع الملثمين وإغراءهم بالمال، وطلبهم أن يمهلونه وقتًا للتفكير لأن الأمر صعبٌ عليه، فوافقوا)
وأثناء ذلك كان كل الموجودين قد حركهم الخوف ولمّهم حول بعضهم، الأم وقفت بجانب ابنتها تضمها إليها..الطفل قد ارتمى في حضن أبيه..الزوجة أمسكت بذراع زوجها.،الصديق قد لزم صديقه كظله.. وكانت هي من بينهم وحيدة، وهو كذلك، لم ينتبها لبعضهما بادئ الأمر ثم وقعت عينها عليه فجأة؛ يبدو مضطربًا..يروح ويجيء ووجهه مطرقٌ في الأرض،.. رفع وجهه فالتقت عينه بعينها، وياللدهشة، فلم يصرفا أعينهما عن بعض بسرعة هذه المرة! لقد شعرت وهي تنظر إليه في خضم هذا الخطب بالأمان؛ وأنها ستهرع إليه إن أرادها هؤلاء الملثمون بسوء، ولقد شعر هو في خضم هذا الخوف والأحداث المفاجئة أنه ما عاد ينتمي لشيء في هذه اللحظة إلا إليها؛ لا إلى الكتب التي في يده، ولا إلى هذه المكتبة التي أحب زيارتها، ولا إلى موظفيها الذين تعود ممازحتهم.. لا إلى شيء، فقط كان طرف حبله الآخر موصول بها وحدها.

ثم قرّر بعد حين أن يفعل شيئًا..ألا يجلس هكذا، تلفّت في الأشياء حوله، ثم رأى شيئًا يلمع هناك في زاوية المكتبة، مشى ببطء كي لا يثير انتباه الملثمين، ولما اقترب كان ذلك الشيء سكينًا.. نعم سكين! ياللصدفة! أو ليست صدفة، بل وحيٌ ألقاه الله في نفسه ليدله على السكين ثم يحدث ما سيحدث على قَدَر، أخذ السكين وخبأها في جيب بنطاله بسرعة، عاد إلى مكانه السابق ببطء وهو يفكر بما سيعمل وكيف ينهي هذا الأمر، لاحظ أن الملثم الأول يقف قريبًا من الباب وأن الثاني يقف أمام الرف الذي يقع يمين السيد عبدالله مصوبًا المسدس، ثم دارت بباله فكرة، فذهب للبائع الذي كان اسمه "أحمد" وكان واقفًا مع الناس، فأخذه على انفراد وقال له:
-يا أحمد..ما رأيك بالحال هكذا؟ هل يجب أن نبقى مكتوفي الأيدي! الواضح أن المخطوطة ثمينة ونادرة..وعزيزةٌ على السيد عبدالله، وإلا لما عرّض أرواح الناس للخطر من أجلها!
-ما تقوله صحيح، هي كذلك.. ولكن ما العمل؟ إن لم يرضَ اللصوص بما سيعرضه عليهم السيد عبدالله فلابد أنه سيسلمهم المخطوطة!
-يعزّ علي كما يعز على السيد عبدالله أن يسلمها لهؤلاء الأوغاد! لابد أن نعمل شيئًا!
-وأنا كذلك يعز علي، ولكن ما بأيدينا حيلة!
-بل لدينا! (ثم أراه السكين التي في جيبه) (اندهش أحمد وقال):
-من أين أتيت بها؟! ما الذي تفكر بفعله!!
-اسمع يا أحمد: إنك شاب قوي البنية، وأنا أتوسّم فيك أمارات الشجاعة، وقد فكرت بخطة؛ ما رأيك أن تعود إلى مقعدك هناك فتصبح خلف ذلك الملثم، وأنا أذهب إلى هذا الملثم( وأشار على الملثم الذي بجوار الرف) ثم أطعنه وأنت في نفس اللحظة تقفز على الملثم عندك وتأخذ منه المسدس وتطلق عليه؟ 
-ماذا..لا أدري..أخاف أن لا ننجح!
-سننجح بإذن الله، يكفينا أن نغامر ونبذل جهدنا ولا نبقى هكذا خائفين عاجزين!
-ولكن!
-أرجوك لا تقل لكن..لست وحدك.. أنا معك!
(تردد أحمد قليلًا..ثم وافق!)
وذهب أحمد إلى مقعده وطاولته..حدجه الملثم الذي بجواره بنظرات مرتابة، قال له:
-ماذا تفعل هنا !!
-لقد شعرت بدوار في رأسي، ربما انخفض ضغط دمي، قلت أعود إلى مقعدي وأستريح!
-استرح على الأرض!
-لا أستطيع، المقعد أفضل لي، أرجوك أن تأذن لي قليلًا فقط..
-حسنًا حسنًا..سأسمح لك قليلًا فقط!
ابتسم هو لحسن تصرف أحمد، ثم مشى بخطوٍ خفي متسترًا بالناس والرفوف إلى أصبح وراء الملثم الثاني، أشار لأحمد..نهض أحمد وتظاهر بالعودة لموقعه السابق، وفي هذه الأثناء ركض هو بسرعة نحو الملثم الثاني وطعنه بالسكين في خاصرته، وفي نفس اللحظة وثب أحمد على الملثم الأول الذي شتتت انتباهه صرخة صاحبه المطعون فطوق عنقه بذراعه وخنقه، أما هو فلم تمضِ على طعنته الناجحة ثوانٍ حتى..طع طع طع! أتته رصاصة أصابت جنبه فسقط على الأرض! لقد كانت رصاصةً لم يحسب لها حسابًا هو ولا أحمد، لقد أتت من رجلٍ آخر تابع لأفراد العصابة كان يستند على الجدار هناك، ولكنه لم يكن ملثمًا مثلهم ولم يلحظ أحد وجود سلاح معه إلا في تلك اللحظة، وكانوا قد أوقفوه هناك لكي يراقب المشهد عن خفاء خشية أن يقوم أحد بفعلةٍ ما..وحين رأى أحمد ذلك صوب المسدس الذي حصل عليه من الملثم ووجهه نحو ذلك الرجل الذي بدوره وجه فوهة المسدس نحوه..ولكن أحمد قد حماه جسد الملثم الذي اتخذه درعًا أمامه، ثم نجح في إصابة الرجل وقتله، وأطلق بعدها على الملثم المطعون فأرداه، ثم أطلق على الملثم الذي بين يديه والذي أعياه خنق أحمد فأجهز عليه..ابتهج الناس، وانقلبت صراخ الفزع صراخَ فرح، أما هي فحين رأته ملقًى على الأرض انتفضتْ إليه ووثبتْ فوق رأسه..هزت كتفيه وهي تصرخ بلا شعور: "هل أنت بخير؟! هل أنت بخير؟!" 
فتح عينيه بصعوبة وابتسم عندما رآها؛ بصوتٍ مثقل قال:"أجل أنا بخير" ثم صمت برهة، ووضع يده على جنبه النازف بالدم واستجمع نفسه للكلام وتابع: "لقد أصابت جنبي..ولكن لا أشعر أنها إصابة بليغة..إنها تؤلمني ولكن لا أشعر أنها بذلك السوء؛ على الأقل هذا ما أشعر به الآن"..أشرق وجهها الخائف بابتسامة عذبة والتمعت الدموع في عينيها؛ قالت له كمن يعتذر وهي تنظر إليه بحنو وفخر  :"إنك حقًا رجلٌ شجاع ونبيل، ضحيت بنفسك أنت والبائع لأجل الآخرين..لقد أبهرتني!" لم يقل شيئًا؛ أجابها بابتسامة وهو يتأمل وجهها وعينيها الطافحتين بالحب..ثم أغمض عينيه.
في هذه اللحظات وصل المسعفون؛ أخذوه للمشفى وأخذوا جثث اللصوص.. وانتهى اليوم العصيب عليها بمشاعرٍ قد فاضت وقلبٍ قد أفصح..وحين عادت إلى البيت ظلّت تفكّر لأيام فيما جرى بينه وبينها في المكتبة؛ بدءً من الصدفة التي تأبى إلا جمعهما ثم بالنقاش الساخن الذي انتهى ببغضٍ استيقنت منه..وما لبث أن أصبح كذبًا وسرابًا حين وثبت إليه عن غير سابق شعور لما رأته في تلك الحالة..

مرّت الأيام وبحار العواطف تموج بها وتلقيها في جُزرٍ منقطعة بعيدةٍ عن حقيقة نفسها..متأملةً الكون من حولها على ظهر موجة أو وجه يابسة ..ويخيّل إليها أحيانًا أنها قد انتقلت إلى حياة أخرى قد تناءت زمنًا عن حياتها الأولى..زمنٌ بلا بشر..وكأنها أول من خُلق منهم، ومكانٌ فريد بعيد، وحياةٌ يبسطها السكون..بحرٌ وقور، سماءٌ مطمئنة، طيورٌ ساكنة، شطآن خاشعة..ونفسٌ تحِفُّ كأوراق الشجر بعواطف خفية..تحركها رياح رقيقة قد انبعثت من معنى غامض..ذلك المعنى هو الحب! ومن غير الحب يخرس ضجيج أفكارها فتصبح بلا صوت؟ من غير الحب يستعلي به قلبها فيبسط سلطانه أخيرًا على عقلها؟ من غير الحب يبزغ فجأة ويشق قدرًا جديدًا في حياتها تتبعثر من حوله الأقدار وتتساقط؟ من غيره؟ من غيره؟

عزَمتْ..فأمسكت بالقلم وكتبت إليه بعد السلام والسؤال عن أحواله:
"لا أعرف كيف أقول لك ..أعني؛ هناك شيءٌ يجب أن أقوله ..لم أكن أعرف حين سقطتَ ذلك اليوم مصابًا ووثبت إليك فجأة أن شعوري الحبيس هو من وثب إليك، وكأنه قد انتهز غفلةً من كبريائي وإباء نفسي حين رآك في ذاك المشهد الذي لا يود أن يراك فيه.. هل تعرف؟ لقد كنت أميل إليك قبل ذلك، منذ أول لقاء كان بيننا، ولكن طبع النفس المجبول على الكبرياء وأنفة أن تؤخذ الأشياء بكل سهولة أبى إلا أن يصوّر هذا الحب كحرب..أو مناظرة على أخفّ تقدير.. يُخضع بها أحد الطرفين الآخرَ ويريه قوته واقتداره! أما وحين رأيتك ملقًى على الأرض فقد خرّت تلك القوة وحلّت فورًا مكانها الحقيقة؛ وهي أن الحب ضعف، وهو بعكس أبنية الدنيا يُقام على الضعف وينهار في القوة ؛ حين تغشى أحد المحبوبين سمات التكبر الإنساني الأحمق، فأعجِب بها من مفارقة وأعجب به من شعور !
 أريد أن أقول لك الكثير، فهذا ما توحيه مشاعري المتأججة في صدري الآن؛ ولكني حين أود الكتابة لا يأتي إلا القليل.. ولا أدري هل هو بقيةٌ من كبريائي الذي يأبى أن يسوق لك الأمر على علاته، أم أن الشعور أكبر من المقدرة ؟! .. لكن كل ما أستطيع قوله الآن:
أن الحرية التي آمنت بها؛ قيّدتني عمّا أشعر وأرغب! .. أحبك! "

وصلته الرسالة، قرأها..لم يصدق ما قرأه رغم أنه يشعر به! انحبست خواطره هنيهة؛ ثم انطلقت مشاعره..صفّق قلبه..تقافزت أنفاسه :"كنت أعلم ذلك..كنت أعلم!!"
أمسك القلم وخطّ إليها:
"كنت أحلم بأنثى حياتي ولم أتصور أن أجدها فيك! بيننا من التباعد ما تعلمين، ولكن يبدو أنكِ حين ذهبتِ شرقًا وذهبتُ غربًا أبَتْ دائرية القدر إلا أن تجعلنا نلتقي في موضع واحد..موضع القلب والحب ! أخبريني أين تفرّ نحلةٌ من زهرة؟ ومن يصرف عن الغمامة في الصحراء إغواءَ المطر؟ ومن يمنع عن الشمس مهمة النور فيصدها أن تُقطِع للقمر منه ؟ كيف يُمنع عنها شيءٌ كُلفت له وخُلقت به؟ وكيف يُحال ما بين ذكرٍ وأنثى بينما من التضاد مثل ما بينهما من التناغم وكأن التناغم خُلق للضد ظلًا يذهب معه أينما ذهب؟ هذا الظل موجودٌ معنا أنا وأنتِ.. وربما في عالمٍ موازٍ آخر، أو عالمٍ بدا لي الآن حقيقيًا؛ يصبح هذا الظل مكان الضد، ويصبح فينا لا معنا، فتستيقظ الغريزة ويقوى جنوح الذكر لهذه الأنثى.. قوى الحب وقوى الفطرة؛ أخبريني هل يقاومهما قلب أو يعترض طريقهما عقل؟ دعيني إذن أقول لك أخيرًا:
أن المبادئ التي لطالما اعتصمتُ بها؛ حاربتني فيك!.. أحبك!"

*تمّـت.