السبت، 8 أغسطس 2020

الجمال الغزير

جُبلت الأنفس على الطرب للجمال، وألقي فيها منه روعةٌ ودهشة، والجمال أنواع: منه جمالٌ بصريٌّ كجمال زهرة أو نضارة ثمرة أو امتداد خضرة أو لمعان نهر أو تفجّر عينٍ، أو زُرقة سماءٍ أو بهاء شروق أو حُمرة شفق أو بريق قمر، ومنه جمالٌ معنوي كبراءة طفل أو حياء فتاة أو شهامة رجل أو وقار ذي شيبة، ومنه جمالٌ سمعي كتغريد طير أو حفيف شجرٍ أو خرير ماءٍ، أو رنّة عذبة أو صوتٍ حسن، ومنه جمالٌ شعوري كالأحاسيس العلوية والمشاعر الصافية.. أو ما شئت من جمالٍ تنوّعت قوالبه واختلفت أسماؤه ولكن توحّد جوهره واتّفقت آثاره وعلاماته؛ فمن لم يحرّكه كل ذلك أو بعضه فقد جمُد طبعه وتكدّر حسّه وقُمعت حاجة من حاجاته فماتت بعض فطرته؛ وإن لفّق أو تحجّج بالعقل والرزانة ورفع راية المنطق والمتانة! 

وهناك من الناس مَن حصر الجمال في نمطٍ وشكلٍ معيّن، وصار يضحك ممن يعجبه كل جميل مهما دقّ وصغُر؛ واصفًا إياه بقلة الذوق والبلاهة وإفغار الفاه وإحداق العين نحو كل شيء بلا معيار واضح وتفريق دقيق بين العادي والجميل بزعمه.. فهم يرون أن غالب الأشياء عاديّة إلا ما كان أفخم منظرًا وأزخم مخبرًا وأعلى صيتًا وسمعة، فذاك هو الجميل برأيهم! فجعلوا الجمال كالبضاعة لا يتخيّرون منها إلا ما يوافق طلب السوق.. هؤلاء غلاظٌ معقَّدون مُعقِّدون؛ يجعلون الجمال ميزانًا ومسطرة! ولم يعرفوا أنه بسيطٌ كالعاطفة، واسعٌ كالخيال، غامضٌ وخفيٌّ كالروح؛ ينزل على سِرٍّ من قلبك بلا أبوابٍ أو حرس.. وانظر إلى قوله تعالى في سورة النحل وهو يتكلم عن إنعامه بالأنعام على بني آدم: ﴿وَلَكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وَحينَ تَسرَحونَ﴾ فهو يخبر سبحانه أن لنا بمنظر الأنعام وهي ترجع من مرعاها بالمساء وتخرج إليه بالصباح جمالٌ يحرّك القلوب، فانظر كيف اتسع الجمال حتى شمل هيئة الأنعام وحركتها ! 

وما دام الله جميلًا يحب الجمال، فكونه وخلقه قد سُبغ من فنون الجمال ما لا يُعرف له حدّ ولا يحصيه عَدّ؛ لأن له المثل الأعلى سبحانه، فحصر الجمال ظلمٌ وإنكاره بعضه جحود! وكلما كانت النفوس صافية والأرواح شفّافة كلما زاد استشعارها للجمال أكثر، ومجال عينها فيه أكبر، لأن أسباب الجمال كما ذكرت من سعة الخيال وبساطة العاطفة وخفاء الروح لا توجد إلا عند من سقط من حواسّه وفكره ثقل المادة وأكدارها.. ويلمع صفاءُ هذه النفوس وترِق أكثر إن كانت نفوسًا مؤمنة قوية الاتصال بخالق هذا الجمال عز وجل، لأن المؤمن يرى الله الجميل في كل جميل، ويذكّره كل جميلٍ بالله الجميل.. فانظر أي جمالٍ كان منتهاه إلى الله، وانظر أي إيمان كان سببه جمال الله، وانظر أي حُبٍ أوقعه جمالُ الله!!

هناك 4 تعليقات:

  1. يالله كممممية جمال في كتابتك للمدونة 🥺😩💛💛،
    استشعرت كل وصف وعشت لحظته تبارك الله أهنّيك على ترتيبك للافكار وحُسن اختيارك للمفردات 👌🏻💬.

    ردحذف
    الردود
    1. الله يسعدك سارة شكرا للطفك ()
      ممتنة لكلماتك ومرورك من هنا ..

      حذف
  2. أعيد قراءة نصوصكِ نورة،
    وفي كلّ مرةٍ كأنّها الأولى ❤.
    هنيئًا لكِ هذا الجمال الداخليّ المكتوب،
    وأدامَ الله عليكِ منّة استبصار الجمال والبوح به.

    نحبّك ونشتاق نصوصك ❤

    ردحذف
    الردود
    1. يا سعدي بكِ حنين ♥️
      رزقني الله وإياك نصيبًا من الجمال وافرًا يتجدد.. ومن يقرأ ()

      وأنا أحب مرورك من هنا والله () بإذن الله؛ اشتاقت لكِ السعادة يا رب ♥️♥️

      حذف