الاثنين، 20 يناير 2020

حقيقة العقل!



قال ابن فارس صاحب كتاب (مقاييس اللغة) في أصل كلمة العقل عند العرب :"العقل هو الحبس عن ذميم القول والفعل"، ومعناه أن معظم ما يؤخذ من هذا الأصل(العين والقاف واللام) أو يشتق منه يرجع بصورة أو بأخرى إلى معنى المنع والإمساك والضبط والحفظ، وضده الإطلاق والإرسال والتسيب.
ولما كان أعز ما خلق في الإنسان هو ذلك الجزء المعنوي الذي يضبط أخلاق الإنسان وتصرفاته سموه (عقلا)؛ لأنه يمنع صاحبه ويحبسه عن سيء الفعل والقول؛ وهذا المعنى أشار إليه معظم أصحاب المعاجم اللغوية. ويفهم من حاصل معطياتهم أن الذي يسمى عقلا في الإنسان هو: ما يحبسه عن الشر فعلا وقولا، ولا يسمى عقلا ما حبس الإنسان عن فعل الخير؛ ولذلك قال بعضهم: العقل ضد الحمق ونقيض الجهل.
وقد يطلق العقل ويراد به الفهم والتدبر، أو يطلق على العلم مطلقا أو على العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين كما ورد في القاموس المحيط.
وأما العاقل في اللغة، فلم يفصل العلماء فيما يطلق عليه، لوضوح المراد به، وأنه الشخص الذي يوجد عنده العقل بالمعنى الذي مضى معنا، ومع ذلك نجد ابن الأنباري يقول: "رجل عاقل: هو الجامع لأمره ورأيه، وينقل قولهم : العاقل : هو الذي يحبس نفسه عن هواها". والخلاصة أن العرب تطلق العاقل على من يتصف بالعقل؛ وأن العقل عندهم وصف مجرد أو معنى مجرد يحمل صاحبه على المكارم ويحجزه عن كل ما يشينه. (إسلام ويب)
نلحظ من التعريفات السابقة للعقل أنها تكاد تدور حول معنى واحد وهو : "النهي عن الشر أو الخطأ، والحض على الخير أو الصواب" وهو مشتق من المعنى اللغوي الذي يدور في مجمله على المنع والضبط والحفظ.. فإذا كان هذا المعنى اللغوي والاصطلاحي للعقل فمن أين ترسخ في أذهاننا أن العقل من مرادفات الذكاء وتوقد الذهن فقط، أو أنه النظر المادي الذي يزدري ما وراء المادة، أو ربطه بمفاهيم وصور معينة كالفلسفة والنظر المجرد والمنطق وعلم الكلام وغيرها من الارتباطات التي تتشكل في أذهاننا كلما ذكرت كلمة (العقل)؛ مما لم يترجمها لسان أو تصطلحها ثقافة أو يقرها شرع! فحتى ورودها في الشرع جاء بغير المعاني السائدة:
أولًا :من يتأمل القرآن يلحظ بوضوح ارتباط وظيفة العقل بالقلب بعكس ما هو مترسخ في الأذهان أن وظائف الإدراك تصدر من الدماغ الذي يوجد في الرأس، أو أن القلب والعواطف شيء، والعقل والتفكير شيء آخر ؛ فالمتأمل في الآيات يرى إبطال القرآن لهذا الاعتقاد: "فقد ورد في القرآن الفعل (عَقَل) بوصفه يدل على الفعل الإدراكي الذي يختص به القلب: ﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها﴾ ، كما أن القرآن استعمل فعل (فَقِه) وأسنده إلى القلب باعتباره مرادفًا لـ (عَقِل) : ﴿وَجَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا ﴾، واستعمل لفظًا ثانيًا في نفس المعنى مسندًا هو الآخر إلى القلب وهو لفظ (العلم) كما في الآية :﴿رَضوا بِأَن يَكونوا مَعَ الخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم فَهُم لا يَعلَمونَ﴾، وبهذا يتبين أن اختصاص القلب بفعل العقل لا يختلف في شيء عن اختصاص العين بفعل النظر أو اختصاص الأذن بفعل السمع أو اختصاص اليد باللمس أو اختصاص اللسان بالذوق" (سؤال العمل- طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى ص71) وهناك قول مأثور لعلي ابن أبي طالب -رضي الله عنه - يقول "العقل في القلب"، وما حدث هذا الفصل بين القلب والعقل مع وضوح الآيات التي تسند العقل للقلب إلا بسبب تأثر الثقافة الإسلامية بالفلسفة اليونانية التي تكرّس العقل وتجعله جوهرًا مستقلًا بذاته. 
"وهناك أيضًا صفة أخرى للعقل أنه فعل يقترن بكل القوى الإدراكية الأخرى، فمثلًا؛ لا يكون السمع سمعًا حتى يعقل، ولا البصر بصرًا حتى يعقل بحيث تكون كل الإدراكات موصولة بالقلب، والشواهد على ذلك من القرآن الكريم كثيرة؛ فهناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب وذكر السمع والبصر كما في قوله تعالى : ﴿أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَسَمعِهِم وَأَبصارِهِم وَأُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾" (المصدر السابق ص72)
ثانيًا: أن دلالة العقل في القرآن تستلزم العمل؛ فبقدر ما يعمل الإنسان الخيرات بقدر ما يزيد عقلُه.. يقول تعالى: ﴿أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ﴾، وقال تعالى : ﴿وَقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ ما كُنّا في أَصحابِ السَّعيرِ﴾ أي أنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون السماع أو التعقل المورث للعمل ما كانوا في أصحاب السعير.
ونحن حين نتحدث عن تلازم العقل والعمل فلا نقصد بالعمل ما نأتيه بجوارحنا فقط، بل إن القصد عمل، والإرادة عمل، والاعتبار الذي يثمره التفكر عمل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَتِلكَ الأَمثالُ نَضرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعقِلُها إِلَّا العالِمونَ﴾ فهذه العبرة عمل لأنها أحدثت حركة ووجلًا قي القلوب وخشية من ربها عز وجل، ثم أليس عندنا في الإسلام مصطلح اسمه (أعمال القلوب) ؟ أليس الإنسان قد يثاب بالنية الصادقة وحدها وإن لم يصاحبها عمل بالجوارح أو قول باللسان؟ "إنما الأعمال بالنيات" فعلّق العمل الظاهري كله على عمل قلبي وهو النية، ذلك أن النية قصد، والقصد وجهة، والوجهة لا بد لها من مسير؛ إن بالقلوب أو بالأبدان. بل حتى الحكمة التي هي أكمل درجات العقل وأخصها اقترنت بالعمل، وليس كما يخيل لنا من أن الحكيم هو شخصٌ بلغ من الكبر عتيا وأصبح يمضي باقي عمره في التأمل والتفكر المجرد! يعرّف الراغب الأصفهاني الحكمة بقوله أنها :"معرفة الموجودات وفعل الخيرات". 

وإذا كان العقل في القرآن مقترنًا بالعمل، والعمل لازم من لوازم الإيمان؛ فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (أي بالعمل الظاهري أو القلبي) فكذلك زيادة الإيمان تعني زيادة العقل، وهذا ما نلحظه في القرآن؛ فقد ذمّ الله الذين لا يؤمنون بانعدام العقل وتوعّدهم بالرجس: ﴿وَما كانَ لِنَفسٍ أَن تُؤمِنَ إِلّا بِإِذنِ اللَّهِ وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعقِلونَ﴾، وعدم استجابتهم لأوامر الله هو أيضًا نتيجة ذلك: ﴿وَإِذا نادَيتُم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعقِلونَ﴾، وجعله سببًا للاجتراء على مقام الألوهية والافتراء على الرب سبحانه: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذينَ كَفَروا يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَأَكثَرُهُم لا يَعقِلونَ﴾ وهو أيضًا سبب في نقص التأدب واللباقة مع مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم - :"﴿إِنَّ الَّذينَ يُنادونَكَ مِن وَراءِ الحُجُراتِ أَكثَرُهُم لا يَعقِلونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. ولندرك أكثر هذا الارتباط والاطراد الوثيق بين العقل والإيمان، وأنه كلما كان المسلم أكثر تشربًا للوحي وعملًا به وتأثرا كلما ازداد نوره وكمل عقله وتمت بصيرته؛ لنرَ أولًا ما الذي تعنيه كلمة "الوحي" وعلاقتها بالقلب والعقل: 
"الوحي له معنيان أساسيان: أعمّ، وأخصّ، فالأعم : (ما يُلقى في القلب من العلم)، ولما كان العقل فعلًا نابعًا من القلب، وكان الوحي عبارة عن إلقاء في القلب؛ كان الوحي إمدادًا للعقل كذلك، بحيث يورّثه علم ما لم يعلم بنفسه، ويزيد مداركه ويوسّع آفاقه. أما الوحي في معناه الأخص فهو الاصطلاح الشرعي المقصود به: (كل كلام أنزله الحق سبحانه على نبي من أنبيائه)، ولقد تقرر بموجب القرآن نفسه أن هذا الكلام لا يمكن نزوله إلا في القلب، مصداقًا للآية الكريمة: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ،عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، فلما كان الوحي كلامًا نازلًا على القلب الذي هو محل العقل؛ وجب أن يكون كلامًا معقولًا، بل كلامًا هو في نهاية المعقولية، بحيث يرقى بفعل العقل إلى أعلى درجاته، من هنا كان النبي حتمًا أعقل الناس في قومه، وكانت دعوته لهم دعوة إلى كمال العقلانية، وكان إصلاحه لهم إصلاحًا لقلوبهم، لكي تصبح هذه القلوب قادرة على أن تعقل الأشياء على مقتضى الوحي، لذلك فإن الوحي بالمعنى الأخص إنما هو العقل الكامل الذي ينبغي أن يكون عليه فعل القلب، حتى يوافق الفطرة التي خلق عليها" (المصدر السابق بتصرف ص95-96).
وبهذا يتبين لنا هذا التكامل بين الوحي والقلب والعقل، وأن انعدام الوحي ظلمةٌ في القلب واضطراب في العقل، وبشكل دقيق تكمن أهمية الوحي في تفاعلات ووظائف عديدة، منها:
"١-أن الوحي يدعو إلى الحق، فهو بالتالي يهدي العقل إلى هذا الحق، فيتولى إخراجه من أخطائه وتقويم اعوجاجه وتصحيح مساره، لا سيما وأن الإنسان لو خُلي بينه وبين طبعه لا يصفو عقله، بل تخالطه النوازع والأهواء، كما أنه لا يطهر قلبه، بل تترسب فيه آثار الضلالات والجهالات.
٢- أن الوحي يأتي بالكمال، فيتعين أن تكون وظيفته أيضًا إيصال العقل إلى هذا الكمال، مُرتقيًا به في مدارك الإدراك؛ فلا يقف العقل عند المحسوسات ولا ما يستخلصه منها من مجرّدات، بل يتطلع إلى ما وراءها من معان روحية وحقائق غيبية، مدركًا أن هذا الكون لم يوجد عبثًا، وأن له موجدًا واحدًا، له حِكَمُه البالغة في إيجاده وإمداده. 
٣-أن الوحي يُعلِم بالغيب، فيتوجب أن تكون وظيفته كذلك إحاطة العقل ببعض المغيبات، بحيث يتولى توسيع آفاقه وتأسيس مدركاته، فلا يكتفي العقل بما يتوصل إليه بنفسه من حقائق نسبية أو وقائع عاجلة، بل يأخذ في البناء على ما لا يستطيع التوصل إليه من الحقائق الثابتة أو الوقائع الآجلة التي أخبر بها الوحي، مستنتجًا منها علومًا تدعو إلى الزيادة في تصحيح العمل والاجتهاد في التزود منه، حتى لا تنحصر المنافع في المشهود من الوجود بل تتعداه إلى المغيب منه". (المصدر السابق بتصرف ص98-99)
وفي القرآن نفسه فُسرت الحكمة التي هي أكمل درجات العقل بأنها القرآن إذا جاءت مفردة دون عطفها على الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوتِيَ خَيرًا كَثيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾ وقيل في تفسيرها:"هي تفسير القرآن وفهمه والفقه فيه ومعرفة محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه"، وجاءت الحكمة بمعنى القرآن في حديث رسول الله الذي رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- قال -رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا وسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وفي رواية :"رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" ومنه أيضًا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال :" اللهم علمه الكتاب" وفي رواية: "اللهم علمه الحكمة". وفُسرت الحكمة كذلك بالسُنة لا سيما إذا كانت مقرونة بالكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: "﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ)، وقوله تعالى : ﴿وَاذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا﴾ إلى غير ذلك من الآيات..

وزيادة العقل بالطاعة ونقصانه بالمعصية أمر مشاهد مجرّب دلّ عليه الوحي أولًا، ودلّ عليه الواقع والأقوال المأثورة وشواهد من قصص العلماء والعبّاد وسيرهم، ولا ينكر هذا إلا مكابر ينظر للعقل من زاوية غير زاوية القرآن والسنة، ومن يتأمل آيات القرآن التي تدلّل على العقل وتحمل شواهده وظواهره وعلاماته يجد عجبًا، سواءً جاءت هذه الآيات في سياق التفريق بين المؤمنين الذين يعقلون والمعاندين الذين لا يعقلون، أو في صيغة أوامر ونواهي ترفع المؤمن درجات في سلم العقل بحسب التزامه بها، أو في صيغة آداب وأخلاق تزيد العقل نورًا وجمالًا ووقارا.. وكل هذه الآيات إذا أمعن فيها العقلاء يجدونها تعطي الأشياء نصابها الوافي، وتضع العقل أمامها في ميزانه المضبوط الدقيق الذي لا يسع العارف سواءً أكان عالم نفس أو عالم اجتماع أو فيلسوف أخلاق أو مربيًا حكيمًا أو باحثًا في التاريخ وطبائع الأمم إلا أن يُسلّم بصوابه ونتائجه إن في حاضره أو في مآلاته البعيدة.
فلنأخذ بعضًا من هذه الآيات نتدارسها، وإلا فالقرآن كله كتاب ينهج بالعقول نحو العقل الكامل :
-من أوائل هذه الآيات بنظري تلك الآيات التي تجعل على قلوب الذين يستمعون للقرآن ولا يؤمنون به أكنة وأغطية نتيجة تمنّعهم عن الانقياد له، كقوله تعالى في سورة الكهف :﴿وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنها وَنَسِيَ ما قَدَّمَت يَداهُ إِنّا جَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدى فَلَن يَهتَدوا إِذًا أَبَدًا﴾ وقوله في الأنعام: ﴿ وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ وَجَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤمِنوا بِها حَتّى إِذا جاءوكَ يُجادِلونَكَ يَقولُ الَّذينَ كَفَروا إِن هذا إِلّا أَساطيرُ الأَوَّلينَ﴾، وقوله في البقرة: ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيهِم أَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَعَلى سَمعِهِم وَعَلى أَبصارِهِم غِشاوَةٌ وَلَهُم عَذابٌ عَظيمٌ﴾، إلى غيرها من الآيات.. فقد أعرض هؤلاء عن وحي الخالق والعقل الكامل والحجة الأبلغ والنور المبين.. فكيف يمكن أن يوصفوا بالعقل في ما هو دونه؟ بل استحقوا لأجل ذلك أن يُختم عليهم بالغباوة الكاملة والجهالة المستحقة! 
-في سورة الإسراء وبعد مجموعة من الوصايا قال تعالى في ختامها: ﴿ذلِكَ مِمّا أَوحى إِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكمَةِ وَلا تَجعَل مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلقى في جَهَنَّمَ مَلومًا مَدحورًا﴾، والذي يلحظ تلك الوصايا يجدها تتنوع ما بين أحكام وآداب عقدية واجتماعية وأخلاقية من الأمر بالتوحيد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعامل مع ذوي الحاجات، والابتعاد عن الزنى ودواعيه، ومراعاة حق اليتيم، ومعرفة قدر النفس، وغيرها، ثم يخبرنا تعالى أنها من الحكمة، وقد اطلعت على بعض ما كتب في تفسير الحكمة هنا؛ فقال بعضهم أنها القرآن، وقال آخرون أنها بمعنى الحكمة أي : وضع الأمور في نصابها الصحيح، وسواء دلّت على هذا المعنى أو ذاك فالشاهد أن القرآن هو الحكمة،وأن آياته وأحكامه وآدابه تسوق إلى الحكمة التي هي أكمل درجات العقل.
-وإذا كان هناك ارتباط وثيق بين العمل والعقل، فارتباط العلم بالعقل هو من باب أولى، لأن العلم هو أول العمل وموجهه ومُصححه، ولأن العقل أيضًا يأتي بمعنى العلم والفهم كما أشرنا سابقًا، إلا أن العلم في ديننا لا خير فيه إن لم يتبعه عمل، وكلما كان المرء عاملًا بالطاعات مجتنبًا للمحرمات ناله من الفتوح والتسديد في العلم ما لا يتحصل لغيره ممن هو مقصر في جنبِ الله! انظر لقوله تعالى: ﴿إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ﴾ وما رزقوا الخشية إلا بسبب معرفتهم بالخالق عز وجل وإدراكهم لعظمته وجلاله، أي بسبب إيمانهم وعملهم الصالح، فلا يُرزق الخشية عالم فاسق معاند. ولاحظ أيضًا (ال) التعريف في "العلماء" وكأنهم هم فقط من يستحق الاتصاف بالعلم والمعرفة والعقل، لا غيرهم من أهل الفسق والجحود المتعالمين!
-ومما يُستأنس به في اطّراد العلم بالتقوى والتدين ما استنبطه بعض العلماء من قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿واتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلّمكُم اللّهُ ﴾ أنه حين قدم التقوى على العلم دلّ على أنه كلما ازداد العبد تقوى فتح الله عليه في العلم أكثر، وهناك حديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن قد يُستأنس به في هذا المعنى، وهو قوله :"من عمل بما يعلم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم"، وكثير من العلماء عندما تستغلق عليه مسألة فإنه يلجأ للاستغفار والدعاء وذكر الله عز وجل فيُفتح عليه، والدلالات والشواهد والنقولات في هذا الباب كثيرة ومعروفة ومجربة أرجئ الحديث عنها في موضع آخر.
-وحتى في الجوانب الاجتماعية التي يغطيها القرآن نرى عقلانية تامة يكون بها صلاح العباد والبلاد، لاحظ قوله تعالى مثلًا في سورة الإسراء: ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَلِيِّهِ سُلطانًا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كانَ مَنصورًا﴾  فهنا تحريم أن يتجاوز ولي المقتول الحد في القاتل من تمثيل بجثته وغير ذلك.. ولو كان المقتول بريئًا تام البراءة، ولو بلغ قهره وكمده عليه ما بلغ؛ لأن مجاوزة الحد هذه قد توغر صدورًا وتولد أحقادًا وعداوات أخرى، وترسم شكلًا آخر من أشكال الانتقام يورّث قبحًا ودناءة وإجرامًا في المجتمع.. إلى غير ذلك من النتائج؛ فيحفظ الإسلام بذلك السلم الاجتماعي أن يتخلخل حتى بفعلٍ ظاهره حقّ وباطنه وآثاره باطل.
-في قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيهِم مِن سَبيلٍ، إِنَّمَا السَّبيلُ عَلَى الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ﴾ فمع أنه شرع الأخذ بالحق والانتصار ممن ظلم واعتدى، إلا أن الصبر عليه والعفو عنه مندوب، وهو من عزائم الأمور التي لا يوفق لها إلا قوي، فمع أن العقل يرى أن من الصواب الانتصاف ممن ظلمك، وهو أمر جائز، إلا أن القرآن يوجهنا إلى ما قد يكون أحيانًا أعقل منه وأحسن، فيندبنا إلى العفو، حتى لا تتكرس فكرة الانتقام مع كل مرة فتصبح هي الأساس، بل يُعامل كل مقام بما يستحقه، وحتى تفسح القلوب مكانًا للعفو فتتقارب النفوس وينتشر شذى الود والألفة بين الأفراد ويتلاحم المجتمع أكثر، فالانتقام الجائز وإن كان مباحًا إلا أنه يترك حزازات في النفوس، بعكس العفو الذي يؤدب أحيانًا أكثر مما يفعل الانتقام، لأنه يجعل المعتدي يخجل من فعلته ويمتن لمن عفى عنه ويترك في نفسه شعورًا طيبًا نحوه، ثم إن العفو عمن ظلمك يلقنك درسًا عظيمًا في الصبر وكظم الغيظ وضبط المشاعر، ويزيدك عزة ومنزلة عند الله تعالى.
وهكذا تتجلى العقلانية في القرآن من خلال الآيتين السابقتين وغيرهما من الآيات في تقديمه المصلحة العامة على الخاصة، ومراعاته للسلم الاجتماعي على حساب الشخصي، واهتمامه بتربية النفس وتقويتها أمام أهوائها وشهواتها المجبولة عليها.
-يوجه الله تعالى نبيه في سورة الكهف أن يقرن إرادته فعلَ شيء في الغد بقول :"إن شاء الله"، قال تعالى: ﴿وَلا تَقولَنَّ لِشَيءٍ إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا، إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ وَاذكُر رَبَّكَ إِذا نَسيتَ وَقُل عَسى أَن يَهدِيَنِ رَبّي لِأَقرَبَ مِن هذا رَشَدًا﴾ فالقرآن هنا يعقل النفس أن يستبد بها حماسٌ أحمق أو عزيمة رعناء في نيتها فعلَ الأشياء، فتُقدِمَ عليها إقدامًا عنيدًا لا يحسب حسابًا لما قد يكون وما قد يطرأ، فتأتي "إن شاء الله" كالماء الذي يطفئ هذا التأجج ويبدله طمأنينةً واتزانًا، فتقدم النفس على الغد بخطًى مستريحة مدركة أن الغيب لله وهو المتصرف فيه بما يشاء، فتحمده إن جاء وحصّلت فيه ما تريد، وتصبر إن لم يكن لها ما تريد (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).. وهكذا يربي القرآنُ الإنسان على الاتزان والتحسب للاحتمالات والمتوقعات، وفوق ذلك كله يربيه على معرفة قدره وجرمه، وأن هنالك مالكًا للكون يملك أمره وغده ويتصرف فيه بما شاء، وهذا والله من تمام العقل والحكمة.

وفي السنة النبوية كذلك من الأحكام والآداب ما يفيض عقلًا وحكمة، وقد مرّ علينا سابقًا أن الحكمة إذا وردت في القرآن مقرونة بالكتاب كان معناها السنة النبوية، وهذا أوضح دليل على أن السنة معينُ الحكمة لمن أخذها وعمل بها، يكفي أن تتأمل فقط في أفعال وأخلاق وحركات وسكنات ولفتات مصدرها ومرجعها -صلى الله عليه وسلّم- فضلًا عن أقواله لتدرك أي عاقل وأي حكيم ووقور كان يمشي على الأرض. وهكذا كان خير المقتدين به؛ صحابته وغيرهم من السلف الصالح، الذين كانوا عقولًا تمشي على التراب.. عقولًا بورعهم وتقواهم اللذين هما رأس الحكمة، عقولًا في شجاعتهم وقوتهم في الحق وصراحتهم في نبذ الباطل، عقولًا بصدعهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدم مداهنتهم في إصلاح مجتمعهم، عقولًا في نصحهم وإرشادهم، في أقوالهم وحكمهم البليغة؛ التي يشتبه بعضها بكلام النبوة للنور الذي يشع منها والعقلانية التي تكتنفها والرشاد الذي يَجزِلُها، عقولًا في علمهم وفطنتهم وتوقّد أذهانهم وسداد بصائرهم. 
ثم إني نظرتُ في سِيَر كثير من العلماء الربانيين ممن عرفوا بسلامة العقيدة ومتانة العلم وغزارته وحسن الفقه وقوة الحجة فرأيتهم جمعوا مع قوة العلم كثرة العبادة والتقوى والورع، مما يدلل على ما ذكرنا أن العلم النافع هو من أثمر التقوى، والتقوى رأس العقل، وهي من تثمر الرزق في العلم والفتوح والسداد، وقد اشتهرت في هذا الباب أقوال وقصص عديدة، منها البيتان الشهيران المنسوبان للإمام الشافعي: 
شكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال لي بأن العلم نورٌ
ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
وكان ابن تيمية -رحمه الله- يقول :"إن المسألة لتُغلق عليّ، فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل؛ فيفتحها الله عليّ"، وقد استنبط بعض العلماء من قوله تعالى: ﴿ إِنّا أَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِلخائِنينَ خَصيمًا، وَاستَغفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفورًا رَحيمًا ﴾ :"من أنه ينبغي لمن استفتي أن يقدم بين يدي نجواه الاستغفار، لأن الله تعالى قال :"لتحكم" ثم قال: "واستغفر الله"، ولأن الذنوب تحول بين الإنسان ومعرفة الصواب: ﴿كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ﴾. ومما يدلّل على أن الفهم والعلم من الله عز وجل لا بسبب ذكاء العبد وفطنته، وأن التقوى والقرب منه سبحانه من أكبر الأسباب الجالبة له قوله تعالى عن سليمان في حكمه في قضية نفش الغنم :﴿فَفَهَّمْناهَا سُليمـٰن ﴾، فحتى في القضايا الدنيوية يُستجلب الفهم منه سبحانه، وكان شيخ الإسلام يدعو بهذا الدعاء إذا استشكلت عليه المسألة: "اللهم يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني"، وانظر إلى قول الله تعالى عن نبيه داوود عليه السلام: ﴿وَشَدَدنا مُلكَهُ وَآتَيناهُ الحِكمَةَ وَفَصلَ الخِطابِ﴾ وكان قبلها قد امتدحه بأنه أوّاب، وأنه في تسبيح وذكرٍ دائم فحتى الجبال والطيور يسبّحن معه،  فكان تلازمُ هذه القوة الروحية أن يعطى معها قوة عقلية وبصيرة وسدادًا في الأحكام، فأعطي فصل الخطاب حتى في أمور وقضايا الدنيا، ونسب تعالى إعطاء الحكمة إلى نفسه، وجعلها معرفة بـ (ال)؛ فقال :(وآتيناه الحكمة) وكذلك في قوله تعالى: ﴿يُؤتِي الحِكمَةَ مَن يَشاءُ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوتِيَ خَيرًا كَثيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَينَا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أنِ اشْكُرْ لله)مما يدلل على أن الحكمة الوحيدة والحقيقية إنما هي التي من عند الله عز وجل.
ولنأخذ الأئمة الأربعة الكبار أنموذجًا على أن العلم الحقيقي هو أهم رافدٍ للتقوى، وأن التقوى الراسخة هي خير مقيمٍ للعلم ومُعلٍ له؛ فهذا أبو حنيفة كان يُسمى الوتد لكثرة صلاته، ورويَ أنه قرأ القرآن كله في ركعة، وسُئلت أخت الإمام مالك عن شغله في بيته؟ فقالت: المصحف والتلاوة! وكان الشافعي يصلي نحو ثلث الليل، ويقرأ في الركعة خمسين آية، وكان الإمام أحمد يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من أسواط السجن صار يصلي مائة وخمسين ركعة! فانظر إلى ما صاروا وإلى ما بلغوا من قوة العلم وبلاغة الحجة حتى صاروا أعلامًا في العلم والفهم.

وفي مشاهداتي الشخصية لمن أعطاه الله تفوقًا في العلم مع استقامة وحسن سلوك ألحظ أمرًا مشتركًا يجمع بينهم على اختلاف مشاربهم وطرائقهم في العلم.. أمرًا هو كالمرشد الخفي الذي يسير معهم ويوجههم أينما ساروا، ألا وهو التوفيق! هذه الهبة السماوية التي  تحشدها وتسوقها جند من الأعمال الصالحة، فبقدر ما يفعَلُها العبد تُفعّله، وتجعل حياته منارات هدى لا يضل فيها بطريق! نعم.. ما رأيت موفقًا إلا كان وراء توفيقه برّ والدَين، أو خشوعًا هفي صلاة، أو كثرة صدقات، أو ملازمة دائمة لكتاب الله، أو حسن خلق مع الناس وسعيًا في حاجاتهم، أو خبيئة صالحة أو غير ذلك من الأعمال التي تمتد بركتها وتؤتي أكلها كلّ حين.. وهذه البركة وهذا التوفيق لا يكون في العلم وحده، بل هو حسن نظرٍ وتسديد في حياته كلها، بل لا يظهر ألقه ولا ينكشف بريقه في العلم إلا إذا أُسبغ على كل الحياة وعمّتها بركته، فقرينُ العلم وثمرته السداد في الرأي والفصل في الأحكام، والتواضع ومعرفة قدر النفس، وتزكية العلم بنشره وتبليغه للناس، وحسن الخلق والتلطف معهم، هكذا يكون المتعلم موفّقًا، وهكذا يكون التوفيق، أما العالم الذي لا يصحبه التوفيق في حياته علمُه ممحوق البركة، فتجده مغترًا متكبرًا، أو ضانًا بعلمه على الخلق، أو جافًا مع الناس غليظًا عليهم، قد شخص ببصره نحو علمه فقط فاعتزل معه عن الحياة والأحياء، ولم يدرِ أن العلم جزءٌ من الحياة.. يحيى بنور الله وحياة القلب وينتعش بانتعاش الروح، فعلمه وإن بقيَ فهو لا يحيى، وإن نهض وشمخ فسيبقى مسلوب الروح..

وهكذا نرى أن مفهوم العقل الإسلامي أعم وأشمل من مجرد الذكاء أو غيره من التصورات السائدة، وأن الذكي الكافر أو العاصي وإن كان ذكيًا فلا يسمى عاقلًا، وأن المؤمن التقي هو أعقل من الكافر و الفاسق وإن كان أقلّ منهما ذكاءً، وأن التفوق الفكري يُنال بأمرين: بـ المَلَكة الجِبليّة؛ وتُقوّى بالدُربة، والأمر الآخر: بالتقوى التي هي رأس كل حكمة وسداد.. ولا خير في عقلٍ يبعد عن الله والدار الآخرة، فصاحبه معه كالحمار يحمل أسفارًا، وأنعم بعقل يرى بنور الله وإن كان صاحبه في أحاجي الدنيا وألغازها صفرَ الذكاء.