السبت، 21 نوفمبر 2020

شيء من دقّة النظر عند علماء الأثر

 أن تسمع بالأمر شيء، وأن تنظر إليه وتُقلّبه وتتفحصه شيءٌ آخر! كنتُ أسمع عن إبداع علماء علم الحديث وجهودهم المبهرة في حفظ سنة النبي -صلى الله عليه وسلّم-، ولكن حين درست طرفًا من هذا الأمر في شرح نخبة الفكر لابن حجر للشيخ عمر المقبل حفظه الله صدّقَ القلبُ النظر وتثَبّت اليقين! قومٌ تدرّعوا بالحيطة والحذر في الطرائق وتسّلقوا بها الإسنادَ، ولم يخلعوها حتى في الطرائق الآمنة والأسانيد الساكنة، لأن سنة نبيهم دين.. ووحيٌ يُمسّكه الله المتقين، فهو محفوظٌ في حرزٍ أمين؛ فحتى الكذب على الحيوان أمارة كذبٍ عندهم كما يقول بعض علمائهم، فهذا البخاري يترك الرواية عن أحد الرواة حين رآه مرةً يشير إلى حماره بالعلف ليقبل إليه فيركبه، فلما أقبل عنده لم يعطه العلف وركبه ومضى، فارتاب البخاري أنه إن لم يترك الكذب على الحمار فربما كذب على رسول الله! ويحرصون على سلامة النقل واجتماع أسباب الضبط ما أمكن؛ فعندهم أنه كلما قلّ عدد الرواة في إسناد كلما نقصت فرص الخطأ والغلط فيه، فيرجّحونه، والعكس صحيح؛ لأن الخبر كلما تناقله عدد أكبر من الناس كلما علِقتْ به من الزيادات والأوهام ما غيّر صيغته الأولى.. فكذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفي صيغ الأداء عندهم تُقدّم الرواية التي تبدأ بـ (سمعت، وحدّثني) على الرواية التي تبدأ بـ (أخبرني) أو العرض؛ لأن العرض قد ينعس الشيخ فيه أثناء قراءة تلميذه عليه من كتابه -كتاب الشيخ- فينسى الشيخ أو يذهل عن تصحيح خطأه إن وَرَد! أما السماع والتحديث فيتكلم الشيخ من حفظه مباشرة فيكون واعيًا لما يتفوه به. أما علم الجرح والتعديل فالعجب العُجاب والسحر العُباب! آية ما رأت مثلها العقول ولا طَرقَتها المناهج ولا حظيت بمثلها نُقُول الأمم وأخبارهم.. يضعون حياة الرواة وأخبارهم تحت مجهر المراقبة بشكلٍ لا يدع شكًّا لشاكّ بأن هذه المراقبة ما هي إلا إلهام الله وتوفيقه لهم ليحفظ سنة نبيه؛ فكتبوا مثلًا عن راوٍ أنه لقيَ الشيخ في جامع البصرة ولم يسمع منه مباشرة! أو أنه رآه ولم يسمع منه! وبذلك تقل فرص صحة روايته، وقَنَصوا عن الحسن البصري قوله:" حدّثنا ابن عبّاس" واستغربوه، لأن ابن عباس حين دخل البصرة لم يكن الحسن دخلها بعد، رغم أنهما متعاصران!، وأوَّلوا قول الحسن بأنه كقولك إذا زار مدينتك أميرٌ فلَقيَته جماعةٌ معينة من أهل مدينتك.. فأنت حين تحدّث الناس ستقول "زارنا الأمير" رغم أنه لم يزُرك في بيتك ولم تقابله، فانظر كيف تتبّع أهلُ الحديث أخبارَ الرواة وأسفارهم بل وحتى الأماكن والمساجد التي يذهبون إليها احتياطًا للسُنة، ومن دقائق تتبّعهم أنهم يعرفون أسماء إخوة وأخوات الراوي حتى يُعرف مَن المقصود بالضبط ومن أي أسرة هو بين الناس ولا يحصل اشتباه، فيعرفون حاله وضبطه وتقواه؛ كعبدالله وأخوه عبيد الله، ويُعرّفون الرواة بكُناهم وأسمائهم معًا حتى لا يحصل خلط بينهم وبين رواة آخرين إذا تشابهت أسماؤهم أو لغيرها من الأسباب، ويوجد في تفريقاتهم تفريق عنوانه (من اتفق اسمه مع اسم أبيه وجدّه) مثل : الحسن ابن الحسن ابن الحسن، حتى لا يتوهم متوهم أن هناك خطأ في الإسناد فيحكم عليه بضعفٍ، وكذلك أنهم  يعرفون درجات حفظ الراوي الواحد؛ فيسجّلون عنه مثلًا أن حفظه من صدره أضبط من كتابه، وكذلك دقّة تقسيمهم لدرجات الطعن في الرواة بالنسبة لضبطهم وحفظهم.. مما لو قرأها جاهل لاختلطت عليه درجةٌ بأخرى ولَمَا أدرك بنظره القاصر أن بينهما برزخٌ لا يبغيان؛ فما الفرق مثلًا بين فاحش الغلط وسيء الحفظ؟ أو بين المغفّل والواهم؟ علماء الحديث يضعون الفروق الدقيقة لهؤلاء فلا تعدو مرويات كل منهم قَدْرها؛ فالفاحش الغلط هو كثير الغلط، والسيء الحفظ هو كثير الغلط لكنه لا يصل لدرجة الفحش، والمغفل هو الذي لا يميز بين الأحاديث، والواهم هو الذي كان غلطه على سبيل التوهّم، ولكل منهم تعامل خاص في قبول مروياته أو ردّها.

هذا غيضٌ من غيضٌ من فيض وقليل من قليلٍ من كثير، ولولا أن يطول بي المقام أو يغمُض حديثي على الأفهام لبسطتُ المقال ولفصّلت في الكلام، ولكنه غورٌ بعيد لم أقف إلا على شَفَته ولم يُصبني إلا رذاذٌ من مائه، فما أنا إلا محظوظةٌ قد أُلقَيَت إليها شَذرةٌ من هذا العلم المُذهّب فراحت تُقلّبها بين الناس فَرِحةً ببريقها.. ورغم أنها شذرةٌ إلا أني شرقتٌ ببريقها .. فكيف لو حُزتُ المنجم كلّه؟ فيا عجبي ممن يطعن في البخاري أو غيره من رجال الحديث! هل قرأ من علم المصطلح أو الجرح والتعديل شيئًا؟ أم أنه قرأ وعاند وقال كما قال الأولون: سُكّرت أبصارنا بل نحن قومٌ مسحورون؟! عجبي.. يقبلون آثارا ومرويات عن فلاسفة وعلماء مرّ على وفاتهم مئات أو آلاف الأعوام، ولا يقبلون من العدول الثقات علماء الإسلام!!

أُتي بزنديق لهارون الرشيد كان يضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما قدّمه الرشيد للمحاكمة ولساحة العدالة ليصلب وتضرب عنقه، قال: لا يهُم هذا لقد وضعت فيكم أحاديث تحلل الحرام وتحرم الحلال، فقال له الرشيد: يا زنديق تعيش لها الجهابذة تنخلها نخلاً: عبد الله بن المبارك وأمثاله. وإذا كان بين هؤلاء المشككين وبين ديننا وثقافتنا حجابًا وكان هواهم ومزاجهم غربيًا فليقرؤوا ما قاله المستشرقون ورجال الغرب المنصفون عن علم الجرح والتعديل؛ فهذا المستشرق البريطاني ديفيد صمويل مرجليوث يقول: "ليفخر المسلمون بعلم حديثهم"، والمستشرق الألماني أشبره نكر يقول: "إن الدنيا لم تر ولن تر أمة مثل المسلمين؛ لقد درسوا بسبب علم الرجل الذي أوجدوه -بحسب زعمه- حياة نصف مليون رجل! " وهذا المؤرخ اللبناني المسيحي أسد جبرائيل رستم يقول: "مما يذكر مع فريد الإعجاب المنهج الذي اهتدى إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في نقل الأخبار"، ثم قال: "وإليك بعض ما نقلوه في كتبهم نورده بحذافيره اعترافًا بتدقيقهم العلمي وتنويهًا بفضلهم على التاريخ!" وغيرهم من المنصفين. (المصدر: الشيخ سعيد الكملي/ انقر هنا

لقد أقرّ ببراعة علم الحديث عندنا وبراعة منهجه ذوو العقول والأحلام من المشرق والمغرب.. فما بال بني جلدتنا لا يكادون يفقهون حديثًا؟! ولكن شأنهم كما قال الشاعر:

هل صحّ قولٌ من الحاكي فنقبله

أم كل ذاك أباطيلٌ وأسمارُ؟!

أما العقول فآلت أنه كذبٌ 

والعقلُ غرسٌ له بالصدق إثمارُ !

السبت، 8 أغسطس 2020

الجمال الغزير

جُبلت الأنفس على الطرب للجمال، وألقي فيها منه روعةٌ ودهشة، والجمال أنواع: منه جمالٌ بصريٌّ كجمال زهرة أو نضارة ثمرة أو امتداد خضرة أو لمعان نهر أو تفجّر عينٍ، أو زُرقة سماءٍ أو بهاء شروق أو حُمرة شفق أو بريق قمر، ومنه جمالٌ معنوي كبراءة طفل أو حياء فتاة أو شهامة رجل أو وقار ذي شيبة، ومنه جمالٌ سمعي كتغريد طير أو حفيف شجرٍ أو خرير ماءٍ، أو رنّة عذبة أو صوتٍ حسن، ومنه جمالٌ شعوري كالأحاسيس العلوية والمشاعر الصافية.. أو ما شئت من جمالٍ تنوّعت قوالبه واختلفت أسماؤه ولكن توحّد جوهره واتّفقت آثاره وعلاماته؛ فمن لم يحرّكه كل ذلك أو بعضه فقد جمُد طبعه وتكدّر حسّه وقُمعت حاجة من حاجاته فماتت بعض فطرته؛ وإن لفّق أو تحجّج بالعقل والرزانة ورفع راية المنطق والمتانة! 

وهناك من الناس مَن حصر الجمال في نمطٍ وشكلٍ معيّن، وصار يضحك ممن يعجبه كل جميل مهما دقّ وصغُر؛ واصفًا إياه بقلة الذوق والبلاهة وإفغار الفاه وإحداق العين نحو كل شيء بلا معيار واضح وتفريق دقيق بين العادي والجميل بزعمه.. فهم يرون أن غالب الأشياء عاديّة إلا ما كان أفخم منظرًا وأزخم مخبرًا وأعلى صيتًا وسمعة، فذاك هو الجميل برأيهم! فجعلوا الجمال كالبضاعة لا يتخيّرون منها إلا ما يوافق طلب السوق.. هؤلاء غلاظٌ معقَّدون مُعقِّدون؛ يجعلون الجمال ميزانًا ومسطرة! ولم يعرفوا أنه بسيطٌ كالعاطفة، واسعٌ كالخيال، غامضٌ وخفيٌّ كالروح؛ ينزل على سِرٍّ من قلبك بلا أبوابٍ أو حرس.. وانظر إلى قوله تعالى في سورة النحل وهو يتكلم عن إنعامه بالأنعام على بني آدم: ﴿وَلَكُم فيها جَمالٌ حينَ تُريحونَ وَحينَ تَسرَحونَ﴾ فهو يخبر سبحانه أن لنا بمنظر الأنعام وهي ترجع من مرعاها بالمساء وتخرج إليه بالصباح جمالٌ يحرّك القلوب، فانظر كيف اتسع الجمال حتى شمل هيئة الأنعام وحركتها ! 

وما دام الله جميلًا يحب الجمال، فكونه وخلقه قد سُبغ من فنون الجمال ما لا يُعرف له حدّ ولا يحصيه عَدّ؛ لأن له المثل الأعلى سبحانه، فحصر الجمال ظلمٌ وإنكاره بعضه جحود! وكلما كانت النفوس صافية والأرواح شفّافة كلما زاد استشعارها للجمال أكثر، ومجال عينها فيه أكبر، لأن أسباب الجمال كما ذكرت من سعة الخيال وبساطة العاطفة وخفاء الروح لا توجد إلا عند من سقط من حواسّه وفكره ثقل المادة وأكدارها.. ويلمع صفاءُ هذه النفوس وترِق أكثر إن كانت نفوسًا مؤمنة قوية الاتصال بخالق هذا الجمال عز وجل، لأن المؤمن يرى الله الجميل في كل جميل، ويذكّره كل جميلٍ بالله الجميل.. فانظر أي جمالٍ كان منتهاه إلى الله، وانظر أي إيمان كان سببه جمال الله، وانظر أي حُبٍ أوقعه جمالُ الله!!

الأربعاء، 27 مايو 2020

حين أصبحتُ فارسة!


في أيام الحجر المنزلي هذه والقيد المكاني بين جدرانٍ أربعة؛ تسرح ذاكرة المرء مذكّرةً إياه بلحظاتٍ سعيدة كان فيها حرّةً قدماه مفكوكًا إساره مفتوحةً أسواره ممتدةً آفاقه.. ودع عنك مزاعم الشعراء والأدباء والعباد والمتصوفة إذ زعموا أنه لا يُبالى بسجن الجسد، ما دام الخيال سوّاحًا والقلب منطلقًا والروح محلقة، نعم إنها قوًى كامنة في بني آدم، واللبيب من أحسن استثمارها، ولكن لا غنى للإنسان عن حرية جسده وتنقّله، ولولا ذاك لما خلق الله له القدمين، ولا أباح له السفر، بل وجعل الهجرة واجبة إن ضُيّق على الإنسان في دينه وغُلّ جسده عن آداء ما افترض عليه، ولولاه لما فُضّل المجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة، ولا جعل طلب الرزق والسعي له عبادة من أهم العبادات ، ولولاه ما قال الله في كتابه :"قل سيروا في الأرض" وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة.. المهم أني جلستُ أستذكر فرصةً فريدة حصلت لي، ووقتًا سعيدًا مرّ بي؛ حين سجّلتُ في نادٍ لتعليم الفروسية ومارست ركوب الخيل وتعلّمت بعض الأساسيات في هذه الرياضة.. اهتبلتُ هذه الفرصة حين انتقلت للعيش في الرياض بعد زواجي، فلم تكن هناك نوادٍ لتعليم الفروسية للنساء في مدينتي التي كنتُ أقطن فيها، وكان تعلم ركوب الخيل أمنيةً عزيزة ما أروعها لو تحققت! أحبّ الخيل وأرى في امتطائها شموخًا يعزّ الذليل، وكبرياءً يرفع الصغير، وهيبةً تقوّي الضعيف.. كمالًا لنقصهم، وستارًا لعوارهم.. محلّقةٌ وكأنها طيور الأرض بلا أجنحة، مقبلةٌ وكأنها السيول هادرة، صامدةٌ وكأنها صخور سفحٍ ثابتة، حيوانٌ اجتمع على تكريمه كل أمم الأرض وشعوبها، فلو صحّ أن الحيوانات تتحاسد فيما بينها لحسدتها على هذه المكانة! المهم أني اشتركت في هذا النادي تحدوني إليه صورةٌ جميلة كوّنتها في خيالي: فارسةٌ ماهرة تطوّع فرسها بسهولة فكأنما خُلق كلٌ منهما للآخر! وبعض الأحلام قد تكون في الخيال أبهى وفي البعد أحلى! كنت قبل بدء الحصص التعليمية قد أخذتُ حصةً تجريبية سريعة في نادٍ آخر أعطوني فيها تعليمات سريعة وعامة؛ كنتُ خائفة بعض الشيء أثناء اعتلائي الحصان الذي بدا لي كبيرًا وعاليًا جدًا بعكس ما كنت أراه في التلفاز والصور، لكني تمالكت ورأيت أني قادرة عليه، ثم حين بدأت الحصص التعليمية في نادٍ آخر كانت المدرّبة حازمة، فمنذ أول حصة رأت أنه يجب علي أن أتعلم المشي وإيقاف الحصان، وتوجيهه يمنة ويسرة، وكيف أجعل الحصان يسرع وكيف أمشي به خببًا (المشي بسرعة مبتدئة)، ومهارة "الصعود والنزول" للجسم أثناء جريه، وقد يرى البعض أنها أشياء سهلة خاصة فيما يتعلق بالمشي والإيقاف والتوجيه يمنة ويسرة، لكن الحال للراكب المبتدئ ليس كذلك؛ فركوب الخيل يعتمد بشكل أساسي على الثقة بالنفس وقوة الانتباه للفارس وحسن التوجيه منه، فالحصان حيوان ذكي.. يشعر بمشاعر صاحبه وتوتره وتردده، وهو حيوان حسّاس؛ لا ينقاد إلا لتوجيه فارسه وبحركات معينة وقواعد ثابتة، فمثلًا: لا يستجيب الحصان لتوجيهك له إلى اليسار بمجرد إدارتك للعنان نحو اليسار، بل لابد بالإضافة لذلك أن تدير وجهك أنت إلى اليسار أيضًا! فلا يصح أن تدير العنان وأنت تنظر للأمام، فالحصان يعرف، وكأن له عينًا من الخلف تنظر اتجاه وجهك! فهذا الزخم من المعلومات والحركات الجديدة يحتاج في أول الأمر إلى تركيز عالٍ يستجيب لكل شيء في لحظةٍ واحدة، وفوق هذا ثقةٍ بالنفس تولّد التركيز والهدوء.. وأنّى ذلك لمتوتّرة مثلي (وهو طبيعي أول الأمر) مع مدرّبة صارمة مستعجلة تريد أن تسقيني البئرَ كله في شربةٍ واحدة! وإن كان يُحمد لها صراحتها وصرامتها منذ البداية لكي تعرف المتدربة ما الذي تُقبِل عليه؛ لكني تضايقتُ من ذلك، والأكثر إيلامًا والأشدّ فتكًا هو مهارة "الصعود والنزول" أو الـ "up down "، خاصة على من ليس لديهم لياقة عالية ناحية الفخذين والقدمين؛ بالإضافة إلى احتياجها لاستجابة سريعة وتوازنٍ عالٍ، وكم كنتُ أعود إلى البيت بسببها مخلوعة الفخذين والساقين في كل حصص تدريبي، وقد راودني غير مرةٍ عزمٌ بأن أترك تعلم ركوب الخيل بسببها لولا تشجيع زوجي ودفعه لي، وقد أتقنتها بنسبة متوسطة في الحصة الرابعة أو الخامسة، ومع هذا ما زالت آلام الفخذين رفيقة تعلمي لها.. والله المستعان على لياقةٍ غائبة! 
كنت أسيرة لأحاسيس الحب والاعتداد ممزوجةً بالخوف والرهبة أثناء تعلمي ركوب الخيل، تطغى هذه.. فتكُفّها تلك ما استطاعت، ثم تضرب الأخرى فتصمد أمامها الأولى؛ كنت أسيرة لخوفي على نفسي وخوف والديّ وعتبهما عليّ حين علما باشتراكي بالنادي، كان يخافان علي السقوط من الخيل، وكنتُ أطمئنهما بأني حذرة وواثقة من نفسي وأني أرتدي خوذة تحميني بعد حفظ الله، ولكني حين بدأت بالحصص هالني حجم الخيل المرتفع فتخيلت أن أخفّ سقوطٍ منه كفيلٌ بتكسّر عظامي رغم ترابيّة الأرض، حتى أني طلبتُ من المدّربة أن تستبدله بخيلٍ آخر أقصر، فضحكت وكأنها ظفرت مني بما تعيبني عليه، فراحت تكرر أن هذا لفائدتي غير عابئة بحداثة عهدي بالخيل، حتى إذا استويتُ على ظهره واطمأننتُ من حجمه أخافني منه حركاته المضطربة نتيجة أخطائي في التدريب وتوتري وصراخ المدرّبة علي! ثم أخافني منه سرعته وتقافزه حين وضعتْ المدرّبة أمامي خطَّين وطلبت مني أن أسرع بالخيل حين أقترب منهما، فكان حين يسرع أشعر وكأني صخرة قذفها منجنيق فهي ترتفع إلى السماء وستسقط على الأرض مُتهشّمة، فيدوّي صراخي بالآفاق حتى تطأطئ المدرّبة رأسها توترًا وكأني طفلٌ قد فضح أسرار أمه أمام الناس! فعاتبتني أولا زامّةً شفتيها، ثم عاتبتني مباعدةً بين فكّيها، ثم عاتبتني مطلِقةً مزمجرة غاضبةً مكفهرة! وتلك والله قاصمة الظهر التي آليت بعدها أن لا أركب الخيل وأن أدعها لأهلها، فلستُ من أهلها كما ألمحت مدرّبتي!.. لمزتني بالضعف و"الدلع" ورُخوّ عظامي.. خاصة حين طلبت مني أن أضرب بقوة على عنق الحصان بالعنان لكي يسرع إذا لم ينفع معه خفقي ودفعي له بقدميّ وهي الطريقة المعروفة، وهذا ما لا كنتُ أعرفه، أو بالأحرى أرهبه! ؛ أخاف حين أضربه بالعنان أن أؤذيه فيهيج علي أو أؤلمه، وقد شهقتُ حين أرتني المدربة كيف تضربه وتهوي بالعنان بقوة على عنقه فيظهر صوت لسعٍ قوي لا أدري كيف احتمله الحصان ولم يغضبه أو يهيّجه! فكلّما أردتُ تطبيق هذه الحركة خانتني يدي وشلّتني الرأفة بالحصان والخوف منه من جديد، وهذا ما لم تُطقه المدرّبة وترى أنه جدير بفارسة المستقبل! فلم أحتمل صراخها عليّ، ولم أحتمل فشلي المتكرر في عين نفسي، فترجّلت أجرّ بقايا عزّتي وثقتي بنفسي، ملوحةً للحصان بالدموع.. مودّعة له بغير كلام! أهكذا يُفرّق بين العاشق وحبيبه ؟! يراسله بلغة الحب .. فيُساء تفسيرها وتحرّف المعاني على غير وجهها! ألا لقاءٌ ووصالٌ يليق بعشقي للخيل ومحبتي له؟! ألا أحدٌ يُعلّمني إياه تعليمًا جميلًا ويسوقني له سوقًا رفيقًا؟! فلم أحبّذ الشدة في التعليم وإن أنضجَتْ ثمرًا وأصلبَتْ عودًا! أم أقول أني رقيقة جبانة وأن ركوب الخيل لا يصلح لأمثالي! لا أدري.. يجيدُ المرء ترقيعَ الأعذار لنفسه، ولكني وإن خفتُ من الخيل فما زلتُ أحبها؛ ولعله الحب الذي ينضج بالبعد ويقوى بالاشتياق ويشتد بالتذكّر، حتى إذا اقترب انطفأت الفتنة باللمسة والضمّة، وتوّهجت نار الحقيقة فإذا هي تلسع وتحرق، وتُبعد وتُقصي! بعض الأحلام ينبغي أن تكون مثبّتة.. على جدارٍ أو رفٍّ علوي؛ فلا يصلح أن تُنزلها أو تغيّر مكانها، بل تتأملها فقط من بعيد! ومع ذلك فما زلت أحب الخيل وأرغب ركوبها، وربما لو سنحت لي الفرصة مرة ثانية وفي ظروف أخرى لتعلمتها من جديد! والرغبة سبب ونسَب وإن لم يتحقق المرغوب!:
هلّا سألتِ الخيل يا ابنةَ مالكٍ
إن كنتِ جاهلةً بما لا تعلمي
يخبرك من شهد المحبة أنني
أهفو لها وإن زلَّت بها قدمي! 

مع الاعتذار لفارسنا الصنديد وشاعرنا المجيد عنترة.

السبت، 11 أبريل 2020

“ولكنّكم في الأدب غرباء!"

-هل على الأديب هذه الأيام أن يكتب بلغة سهلة واضحة لا تحتوي على كلمات صعبة يضطر معها القارئ إلى الرجوع للمعاجم لكي تكون كتاباته منتشرة بين العامة ومتداولة بينهم؟ 

منذ أيام تحدّث أحد الكتّاب الشباب في حسابه على السنابشات عن الكتابة الأدبية وأساليبها وطرق الجذب والإبداع فيها، والحقيقة أني لم أتابع كلامه كله؛ لكن استوقفتني منه نقطةٌ كان يوصي فيها الكتّاب الناشئين أن يبتعدوا عن الكلمات الصعبة والغريبة في كتاباتهم أو الكلمات التي يحتاج معها القارئ إلى الرجوع للمعجم؛ لأنها بحسب تعبيره ليست إلا حذلقةً يتعالم بها الكاتب على القارئ، والأدبُ الحقّ حسب قوله هو الواضح السلس الذي لا يكون الإبهار في ألفاظه، بل في معانيه.. 
هذا الكاتب وغيره هم صدًى لدعوى ظلّ أصحابها زمنًا ينادون بتيسير الأدب وتذليل قطوف اللغة حتى تكون في متناول كلّ الأيدي، فما الداعي لاستعمال كلمات وعبارات وتراكيب ولّى أصحابها في الدهر وانتهت دواعي استعمالها وحلّت مكانها بدائل سهلة تغني غناءها؟ لكل عصر أدوات ولغة.. هكذا يقولون؛ وهذه الدعوى تبدو لأول وهلة صحيحة واقعًا، ولكنها خاطئة مثالًا وتأملًا ولزومًا، وأنا مع هذا التحجير الذي قد يُرى توسيعًا، ومع هذا الخَوَر الذي قد يُرى تيسيرًا؛ لا أملك إلا الرد بنقاط سريعة أتَتْ عفو الخاطر من غير بحثٍ واستزادة، أردتُها تغريداتٍ في تويتر.. لكن توارد الفكرة تلو الفكرة أحالَها تدوينةً وشكلًا آخر،
أقول والله أعلم :

١-ليس كل من كتب كلمات صعبة فهو متحذلق! فقد يكون محبًا لقراءة كتب التراث أو للأدباء الكبار الذين يحبون السير على نهجها ثم هو قد ألِف أسلوبهم وتطبّع به فلم يكد يستطيع أن يعبّر بغيره! فأنت حين تطالبه بالتعبير بلغة سهلة كنفسك حين يطالبها غيرُك بالتعبير بلغة "صعبة"!.
٢- لا تعارض بين غرابة الألفاظ والإبداع في المعاني، بل إن اللفظ الغريب ومعناه البعيد يفتح للأديب البليغ المتذوق أحيانًا أفقًا من المعاني الجديدة والمتصلة ما كانت لتُفتح له لو أنه اقتصر على لفظةٍ سهلة سطحية المعنى قريبة المأخذ، والألفاظ الغريبة تُكسب النص جزالةً ومتانة لا تُكسبه غيرها من الألفاظ العادية السهلة؛ شريطة أن تُستعمل في موضعها الصحيح.. وكثيرٌ من ألفاظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف خير شاهد وأجلى مثال.
٣-"التحذلق" كما يسميه البعض ليس تهمةً حتى نطالب الناس باجتنابها.. ويكون عيبًا وثقلًا وسماجة فقط حين يتكلّفه الأديب ويستعرض به كأنما يتحدى أن يفهم كلامه الناس أو كأنما يغطي به عَوار أدبه وهشاشة فكرته وضحالة خياله.. أما غير ذلك فهو أرضٌ شاسعة وطرائق عديدة يتخير الأديب أن يسير منها ما يوافق مزاجه وطبعه، إن شاء بأسلوب تراثي أو بأسلوب عصري..
إن دعوات تيسير اللغة لا تضر اللغة وحدها أو تمس نوعًا من الأدب بعينه؛ بل هي كذلك تضرّ الأدب حيث تجعله شكلًا واحدًا لا تمايز فيه أو اختلاف، ولا تنافس فيه أو سباق.. ومن قال أن الكتاب المميز ينبغي أن يقرأه ويفهمه كلّ أحد ؟! بل هناك كتبٌ للعامّة، وكتبٌ للخاصّة، وكتبٌ لخاصّة الخاصّة، وكتبٌ لهؤلاء جميعًا، ولا يعني هذا التقسيم رفع طبقة على أخرى واستعلائها عليها، بل قد يعني أن تجتهد العامّة في قراءة كتب الخاصّة حتى تفهمها وتصبح بعد زمنٍ قادرة على قراءتها بسهولة إن أرادت.. ولولا دفع الناس بعضهم لبعضٍ في الأدب لانقضَت مواهب ولاندثرت مفاخر، وما قامت حصونٌ ولا نهضتْ أسوار ولا زُخرفت قصور!
٤- الخاسر الأكبر من تسهيل اللغة لعوام الناس هو هذه اللغة نفسها وأهلها وتاريخها وثقافتها وحضارتها! ؛ إن عجْز الناس عن قراءة كتب تراثهم يعني قطعهم عن تاريخهم وشريان هويّتهم ووجودهم! لطالما كان الإرث الأدبي والفكري والعلمي لأمة من الأمم ثروةً عظيمة تتفاخر الأمم فيما بينها بها، فكيف بإرث زاخر وكنز ثمين كاللغة العربية والتراث الإسلامي؟! وإن لم يستطِع أهل الأمة نفسها أن يفهموا تراثهم فإنه قد يضيع ويندثر غير عابئٍ به أحد، أو سيتبرّع بهذا الأمر غيرُهم حين يدركوا عظمته وحاجة الإنسانية إليه؛ كالمستشرقون وغيرهم، وإذا أُسند الأمر إلى غير أهله؛ فإنك واجدٌ فيه غضاضةً لا محالة!
٥- لطالما كانت كُتب التراث في الأدب والتاريخ وغيرها من أهم المكونات الأدبية والمعرفية لأدبائنا حتى عصرنا الحاضر؛ فلا ترى أديبًا فارعًا يشار له بالبنان إلا ولشعر المعلّقات وكتب التراث نصيبٌ في قراءاته وأثرٌ في أدبه، حتى النصارى منهم؛ كجبران خليل جبران وبشارة الخوري ومارون عبود، بل إن النصارى العرب أنفسهم كان لهم اهتمام خاص بالتراث العربي والإسلامي ومساهمات كبرى فيه، لما عرفوا من أهميته وفضله على اللسان والبيان؛ كناصيف اليازجي وغيره، فهل ترى في كتب هؤلاء تعقيدًا أو اعتياصًا لا يُفهم ؟ بل كان أدبهم في غالبه سهلًا ممتنعًا ممتعُا يُضمّن بشيء من الكلام الفصيح الغريب الذي لا يزيده إلا قوةً وجزالةً واستواءً، فهل منعت القراءةُ في كتب التراث هؤلاء الأدباء من أن يخاطبوا الناس بلغةٍ متوسطة لا تنزل إلى السهل المباشر ولا تصعد إلى الغريب الغامض؟ لقد أثبت هؤلاء الأدباء وغيرهم أنه الجمع بين الأمرين ممكن، وأن القراءة في التراث أمرٌ لا غنى عنه لأديبٍ فصيح قويم.
٦-الواقعية هي فحوى دعوى هؤلاء، فهم يدْعون إلى التعبير بلغة يفهمها الناس ويتداولونها فيما بينهم وفي مصادر التأثير لديهم؛ كالإعلام والمناهج الدراسية وغيرها، لكن العلّامة د.محمود الطناحي يوضح لهؤلاء وغيرهم أن "للّغة جانبًا تاريخيًا يجب الحرص عليه ومعرفته، ثم إن اللغة ممتدة مع أصحابها لا تموت ولا تفنى، وليست اللغة للتفاهم وقضاء المصالح فقط، وإلا لكان القدر اللازم لنا منها محدودًا جدًا..."(مقالات محمود الطناحي، دار البشائر الإسلامية، ط3، ص284)؛ فاللغة هي الأفكار والمعاني الغير محدودة، هي الثقافة والإرث اللغوي والحضاري الذي تشكّل ولا يزال يتشكّل منذ مئات السنين، هي الهويّة الممتدة منذ القدم؛ فبخسٌ لهذه اللغة وظلمٌ لأنفسنا وملَكَتنا اللغوية ومخزوننا الثقافي أن نقص هذا الخيط الطويل من نهايته فلا نبقي لنا منه إلا الطرَف والذَيل!
٧- الغالب على هؤلاء أنهم في الوقت الذي يشجعون فيه تيسير اللغة ويستهجنون الأدب الجاهلي والمعلّقات والغريب من الألفاظ؛ يُشجّعون على قراءة الأدب المترجم والروايات الكلاسيكية الأجنبية والانفتاح على ثقافة الآخر ! أوَليس أدب أُمّتهم وتراثها أحق بالقراءة وأنفع وأجدى ؟! أوَليس الانفتاح على تاريخهم ودراسته أولى وأليَق؟! وإن كان حجتهم صعوبة القراءة في التراث العربي وسهولتها في الأدب المترجم إذ يُترجم الكلام من لغته الأصلية إلى لغة عربية سهلة فقد أوقعوا أنفسهم في تناقضٍ لا واعي ! فالمترجم يترجم، أي ينقل معنى الكلمة إلى لغة أخرى، وكذلك الغريب من العربية يحتاج القارئ معه إلى الرجوع للمعجم وقراءة معناه بكلمات أقرب؛ أي أن مضمون الفعل هو نفسه في الحالتين: وهو النقل والتحويل، مع فارق أن من يقوم بالترجمة هو المترجم وليس القارئ، والذي يقوم بالرجوع للمعاجم في غريب الكلمات هو القارئ نفسه، أي أن هذا التناقض اللاواعي الذي وقع فيه هؤلاء يدل على أمرين: إما أنهم كسالى ذهنيًا لا يطيقون البحث في المعجم والتعرف على معنى الكلمة، أو أنهم تبهرهم الثقافة الغربية وأجواؤها وآدابها وأساليبها ويَروْن فيها غناءً معرفيًا عن تراث أُمّتهم؛ وكالذي ترك بيتَ أهله قبل أوانه وراح يسكن في بيت غرباء آخرين، وحين سُئل عن ذلك راح ينتقص من بيت أهله ويمدح بيت الغريب بأنه أوسع وأرحب ويقدّمون له فيه مآكل ومشارب ألذّ وأطيب؛ يُخفّف هؤلاء من تقريع ضمائرهم بأن يلمزوا تراث أُمتهم بالغرابة والتعقيد ! العجيب أن بعضهم لا يستنكفُ عن تعلم لغة أجنبية لحاجة أو لغير حاجة ويكابد في ذلك أضعاف ما يكابد في قراءة التراث، ثم إذا قرأ في التراث الذي هو لغةٌ من جنس لغته ونظمٌ من جنس نظمه راح يتأفف ويتضجّر من كلمات يستطيع تخمين معناها لو امتلك طبعًا عربيًا فصيحًا وحسًا تعبيريًا وأدبيًا! ولكنه الاستلاب الثقافي والكَسَل الفكري والمعرفي! 
٨- النقطة السابعة والأخيرة والمهمة، والتي أجّلت الحديث عنها إلى النهاية لأنها تحصيل للحاصل قبلها، أو هي الحاصلُ نفسه؛ أن تيسير اللغة يضر بقراءتنا للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وفهمهما، فالقرآن أُنزل بلسان عربي مبين وتحدّى قريشًا والجاهليين بفصاحته وبيانه؛ فهو بطبيعة الحال يحتوي على كلمات صعبة وغريبة بالنسبة للغة عصرنا، وكذلك الأحاديث، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح العرب؛ فكيف سنقرأ الوحي ونفهمه إذا كنا تعوّدنا ألا نقرأ إلا كلامًا يشبه كلامنا.. كلماتٌ ميسّرة ومعانٍ قريبة؟ سنقرأ القرآن قراءة لا تجاوز حناجرنا.. نمرّ على آياته مرورًا بلا حرصٍ على تعلم معانيها وتفسيرها.. سنقرؤه لأجل القراءة ونوالِ أجرها فحسب؛ بلا تفكّر فعلي وتدبّر مثمر، بلا مدارسةٍ لأفصح بيان وأجلى لسان ذلك الذي سحرَ قريشًا وفصحاء العرب حتى اعترف قائلهم فقال عنه ":إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"؛ لم يُنزّل الله في كتابه الآية الكريمة: ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ﴾ لكي نقرأها فحسب، أو لكي نفاخر بها فحسب؛ بل لكي تستفزّ فينا الرغبة بمدارسةِ هذه اللغة وسُبل الإبانة فيها لكي نعلم لماذا حظَيتْ وشُرّفتْ أن يُنزّل كتاب الله العزيز بها .. وكيف جلّاها هذا الكتاب وأنصعَ بيانها فيه، ويكفيك أهميةً للمعلّقات وكلام العرب عمومًا أنه لا بد للمفسّر من معرفته والرجوع إليه في تفسير الكتاب العزيز؛ قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب".
وكذلك الأمر بالنسبة للحديث النبوي، وإذا كان بعضنا يولي عناية خاصة بالقرآن لأنه كلام الله ويحرص على دوام قراءته وتتبع بعض تفسيره ومعانيه، فإنه لا يولي تلك الرعاية لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه يعتبر القرآن يكفي ويُغني، وهذا غير صحيح؛ فالحديث بالنسبة للقرآن ثاني اثنين، والعناية به مؤكّدة.. وكم يحزّ في الخاطر أن بعضنا يتعثّر في قراءة حديث من أحاديث النبي المشهورة ولا يعرف معناه، ولو عُرض هذا الحديث على صبي من صبيان السلف ومن بعدهم قديمًا لقرأه سلسًا سهلًا ولفسّره لك تفسيرًا مبينًا ! 
إن ضعف اهتمامنا بلُغتنا نشأ أولًا من بعدنا عن ديننا ومصادر شريعتنا، وهو أيضًا ناشئٌ عن استلاب غيرنا لنا وانصرافنا عن طريقة أجدادنا وتراث أمتنا؛ فأدى ذلك أيضًا لتهاوننا في تعلم كلام ربنا وحديث نبينا.. وهذا والله أخطر ما يمكن أن تؤول إليه دعوات تيسير اللغة وتقريبها. 

وأختم حديثي بما رويَ أن رجلًا قال للشاعر أبي تمّام: "يا أبا تمّام، لم تقول من الشعر ما لا يُفهم؟" فقال له: "وأنت لم لا تَفهم من الشِعر ما يُقال؟!" ورويَ عن رجلٍ أنه أنشد شعرًا فاستغربه الناس، فقال لهم: "والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غُرباء!"
هذه النقاط ليست تكليفًا للناس بما لا يطيقون أو تحكّمًا في قراءاتهم وأساليب كتاباتهم؛ بل صدحًا بالحقيقة، ووزنًا للأمور بالقسطاس المستقيم، وعرضًا للقول الآخر، ثم الناس بعد ذلك أحرارٌ فيما يقرّرونه.. فمن شاء أخذ، ومن شاء ترَك؛ ومع هذا فإن معراج الحق واحد، ولن يضرّه أن لم يتصعّد فيه الناس !

الثلاثاء، 24 مارس 2020

"خذني لأندلـسِ الغيـاب"

أنعم الله عليّ هذا العام بزيارة دولة كم حلمت بزيارتها: أسبانيـا/الأندلـس.. جنة المسلمين المفقودة، وللنفس فيما تشتاقه من أماكن عجائب وغرائب؛ حتى أنها تنفق الأموال الغالية، وتقطع القفار الشاسعة والبلاد العديدة، وتضني جسمها وتقض راحتها لأجل رؤية طلولٍ خربة، وعروشٍ خاوية ! ولو قيسَ فعلها بمقياس العقل والمنطق لعُدّ حماقةً وجنونًا، ولكنها النفس وما تهوى، والقلب وما يريد! ذهبتُ إلى الأندلس وزرتُ أبرز المدن والمعالم الإسلامية هناك: إشبيلية، قرطبة، غرناطة، وحين أسميها "الأندلس" وأقول أني زرت هذه المدن فأنا لا أقفز على الواقع وأعاند الحاضر، فـ"أندلوسيا" هو إقليم من أكبر أقاليم أسبانيا حاليًا، ويضم أهم المدن الأندلسية القديمة، منها هذه المدن الثلاث.. المهم أني ذهبت هناك وعانقت التاريخ عناق الصبّ المشتاق، وأنا هنا لست بصدد سرد هذه الرحلة وتفاصيلها، ولا الحنين الغارق والانتحاب الطويل أمام الأطلال، فقد أفاض السابقون واللاحقون في هذين النوعين الأدبيَين وعبّروا عنهما بشتى ألوان التعابير، مما صار تعبير الواحد منا عندهم تكرارًا، أو حشوًا، أو استرسالًا باردًا؛ وإن كان لكل إنسانٍ تجربته الأدبية الخاصة، ولكنني بعيدًا عن هذا أحببتُ هنا أن أنشر تفاريق خواطر لا علاقة لها بقصّ الرحلة ولا سيرها ولا أطباعها العامة، وإنما هي مشاعر وأفكار منثورة لا تصلح لنظم.

(1)



أول المدن التي زرناها إشبيلية، وهي عاصمة إقليم "أندلوسيا"، وكنتُ قد أصبتُ قبل زيارتي لها بإنفلونزا تعالت ذروتها حين وصلنا إليها، فقضيتُ أغلب وقتي طريحةً في الفراش، وما استمتعت جيدًا بالمدينة، إلا أنها كانت مدينة جميلة يُعلّلك هدوؤها وجوّها الرائق ويخمد حرارة جبينك وجسدك، كأني بها يتهادى في أثيرها أنغام شعر المعتمد ابن عباد وغزله لزوجته اعتماد الرميكية.. فيزيد هواءها نقاءً وزهرها طيبًا وأهلها وقصورها سكينة! 

(2)

ثم ذهبنا من إشبيلية إلى غرناطة بالقطار، واستغرقت رحلتنا قرابة الخمس ساعات أو أكثر.. كانت طبيعة الطريق والسهول التي تحوطنا والأشجار التي تملأ نواظرنا تذكرني بشدة بسهول فلسطين وفيافيها التي شاهدتها من خلال الصور؛ فوجدتني بلا وعي أردد أغانٍ شعبية فلسطينية: عتابا، ميجانا.. وأتخيل أمامي فلاحين فلسطينيين يمشون حاملي فؤوسهم على أكتافهم وقد تعمّموا بالكوفيّات على رؤوسهم.. تتعبهم فلاحة الأرض لكن تُحفّزهم، يُضجرهم الفقرُ لكن يرضيهم؛ كأنهم بدأَبهم هذا في جهادٍ صامت وكفاحٍ حثيث أمام الدهر ليخبروه أنهم باقون في أرضهم ملتصقين بها في سرّائها وضرّائها، في عطائها وإمساكها، في غنيمتها وغُرمها! 
ولا أدري ما تفسير هذا الانتقال السريع في ذاكرتي نحو فلسطين وهذه الصور التي تقاطرت أمام عيني منها! أهو التشابه الطبيعي الجغرافي؟ أم تشابه القصة بشخوصها وأحداثها؟ غير أن جرح الأندلس قد اندمل وطُوي في الزمان وجرح فلسطين ما زال دمه يسيل أمامنا يأبى التجمد والوقوف! أم أن جرح الأندلس لم يندمل وعاد أخرى مُبدلًا مكانه وسال في فلسطين؟ فروحُ المأساة واحدة، وكأن روح فلسطين حلّت هنا، وروح الأندلس قد حلّت هناك!:
إنما أنت أنا لكنّمــا 
وُضعت أرواحنا في جسدَين! 




وصلنا غرناطة، وفي اليوم التالي زرنا درّتها المتوهجة؛ قصر الحمراء، الذي بناه بنو الأحمر آخر ملوك غرناطة والعهد الإسلامي في الأندلس، وإليهم نُسبت، ويقصده الآن كثيرون من بلدان وأديان مختلفة ليروا هذه العجيبة الإسلامية المذهلة.. تراهم يتجولون فيه مسمّرين أعينهم منبهرين من روعة النقوش والنوافذ والتماثيل والأقواس والقباب، ومن روعة الحدائق والأشجار والسواقي والنوافير؛ يحادث بعضهم بعضًا وهم يتأملون الزخارف والنقوش، ولا أدري هل ينظر بعضهم إليها كلوحة فنيّة مجردة عن الفنان لا تُنسب إلا إلى عالم الفن والإنسان؟ أم ينظرون إليها آخذين باعتبارهم من أبدعها والخلفية الإسلامية التي جاءت منها، متأملين دلالاتها ومعطياتها الدينية والتاريخية؟ أم ينظرون إليها وقد أجبرهم علو قيمتها وانتشار صيتها واحتفاء الفنّ بها على التظاهر بالانبهار والذهول بها جريانًا على سلوك الغربيين الذين يُقدّرون الفن والآثار الفنية الثمينة كيفما كانت، ولو كانت لوحة فيها أضغاث خطوط من ألوانٍ متنافرة؛ لا يُعرف معناها ولا قصد راسمها.. سوى أنه فنان عظيم! 
ثم كيف ينظر هؤلاء إليّ أنا المرأة المسلمة المتجلببة أمامهم؟! هل ينظرون فيّ إلى ذلك القديم الذي خرج من كهف الزمان ونبت من شقوق الأرض وطلُع من جُبٍ سحيق ! هل يرَوْن شبح الماضي يسير في ظلّي ونظرة الثأر تبرق من عيني ومشاعر اللوعة والحنين تطوف حولي كلما نظرت إلى النقوش والجدران التي تركها آبائي؟ هل إذا أفسحوا لي الطريق وابتعدوا عن خطواتي يتحاشون ذلك الجريح الذي أقسم على الانتقام.. فكأنهم بتحاشيهم هذا يعتذرون ويفسحون لمشاعري المقهورة أن تتحرّر، ولسان حالهم يقول: "دعوها، فلا تزال حزينة!"، أم أنهم ينظرون إلي كعدوٍ لا يُبالى بحياته أو موته.. بعزه أو ذلّه، فقد حُسم كل شيء؛ فالأرض أرضهم والزمان زمانهم؟!
أم أنهم لا يهمهم أصلًا من أنت ولا من تكون.. أنت واحد من هؤلاء  الناس.. يُمحى اسمك ويُنسى لونك وملامحك، ويُشطب على كل شيء إلا أن تُشبههم فيما يفكرون أو يقولون.. أدلجَ الدهرُ فطُوي زمانُك، وتصالح المدُ والجزر فسكنت شطآنُك، وعفى التاريخُ فانطفأ بركانُك ! تهاوت الجُدر فتلاقت الأزمنة، وبتّ في زمن العولمة والحضارة والفكر الواحد، والإنسانية المُدّعاة والسلام المنافق والخبث المضمر ! .. أنا لا أنكأ جرحًا قد التأم، ولا أمسك ماضيًا قد عبَر، أنا فقط أحنّ إلى أطلال قومي، وأتردد على متحف التاريخ أُعرّف كل قطعة وزخرفةٍ بأهلها، وأقلّب صفحات الماضي أتذاكر وإياها الحكاية.. والذين يرون القديم مجرد فنٍّ أو أثرٍ أو حكاية ويقفون أمامه على منطقة محايدة يربّون فيهم -بلا شعور - لا مبالاةٍ تورِث التبعية والخَوَر؛ وكأنهم يعترفون بلا وعي أن الأمجاد ودعاوى الهوية والاستقلال الفكري ما هي إلا ضلال قديم يمسخها التاريخ فلا يبقَ منها إلا تحفًا وصور، فلا يضحكُ عليهم ولا يستفيد منهم إلا الدول العظمى ومنطق القوة والسيطرة الذي هو نفسه قد نصب لهم ذلك المتحف وجلب لهم تلك القطع! من ينسَ ماضيه أو يتناساه لا يبقى له من الحاضر إلا خيوطٍ متهتكة من لباس سُحل وتقطع.. وهل لَعمري يستره أو يدفئه ؟! 

(3)



قرطبة كانت محطتنا الأخيرة، وكانت كذلك مدينة ساكنة تضارع إشبيلية في الهدوء؛ كأنهما ما خاضتا يومًا حربًا طالت الإنسان والدين والتاريخ! ولا أدري سر هدوئهما بالنسبة لصخب غرناطة رغم أنهن جميعًا تشتركن في الماضي ذاته.. لعل تقدمهما عن غرناطة في السقوط بيد الإسبان أنهكَ قواهما عن مقاومة الحاضر الجديد فسكنت أجواؤهما سكون اليأس، أما غرناطة فما زالت تحاول، وما زال صخب المحاولة ينبعث في غيرِ مكان فيها!


(4)


لعلّ أرواحنا قد تندّت من قطرات المسارب في مغاور التاريخ واشتاقت إلى نسماتٍ تهوّي الألم، ونورٍ كاشف يجلّي عن نفسه بلا اختلافات أو تناقضات أو تساؤلات.. وهكذا خلّفنا إقليم أندلوسيا وراءَنا متوجّهين إلى تاريخ مختلف وعالم آخر، إلى إقليم كتالونيا وتحديدًا عاصمته برشلونة، كانت برشلونة مدينة منطلقة حرة يموج فيها الناس يمنة ويسرة، تسير بهم ويسيرون بها في طريق واحد يؤدي إلى مصير واحد، وتحاكي فيهم ويحاكون فيها شكلها الواحد؛ فالماضي واحد والحاضر واحد والهوية واحدة، اطمئنان والتئام لا انقسام يُفرّقه ولا صراعات تُشوّشه.. ربما لأجل ذلك شعرتُ فيها بالوئام رغم غياب الآثار والمعالم الإسلامية وطُغيان الحداثة وكثرة المظاهر المسيحية! فنحن أحيانًا نكره في المدن أن تكون ذات وجهين كما نكره في البشر ! 
أما المدن الأندلسية فتبدو كمدن معتَقَلةٍ مستوفِزة؛ لا هي تقدر على الوثوب، ولا هي ترضى بالقعود! يتنازعها ماضٍ لا تزال أنفاسه المحتضرة تنبعث تحت الأحجار وبين الجدران والحصون وفوق المآذن والقناطر والجسور، وحاضرٌ نزقٌ عنيد يراوغ الزمان فيهرب، فيصطدم بجدران المكان، وكلما اصطدم يُنفض غبارٌ كثيف.. ويتردد صدًى بعيد.. وتتراءى له صور قديمة تثبت نسب الأبناء إلى الأجداد والمكان إلى التاريخ وترفض التنازل عن ثأر وحقٍ وأرض!

(5)

هذه الرحلة الشجيّة المليئة بالوجد والألم، بالدهشة والنغم.. الغائرة في أعماق الماضي وأسراره؛ جعلتني أتفكر في معنى التاريخ، وأنه وبكل وضوح ماضٍ وحاضرٌ ومستقبل.. وليس ماضٍ فقط، وأنك مهما تمردت لن تستطيع محوه؛ كالكرة تضربها بقوة بباطن يدك نحو الأسفل فترتد إلى يدك مرة أخرى بفعل الجاذبية الأرضية! لا تنعتق الأمم منه إلا لتعود إليه، ولا تُنكره إلا وتتلبّسها آثاره لتفضحها؛ وهل محاولة أمةٍ طمس جرائمها والاعتذار عن أفعالها والتعبير عن حسن نواياها لأمة عدوة لها سابقًا إلا تقليبٌ للتاريخ واستحضار آخر للماضي على مسرح الحاضر؟!

الأربعاء، 26 فبراير 2020

كتاب (المشوق إلى القراءة وطلب العلم - علي العمران) .. نظرات نقدية

كتاب غزيرُ العلم عظيم النفع والفائدة، حريّ بمن قرأه أن يكون بعده خيرًا مما قبله؛ بأخذ الكتاب بقوة، واستنهاز الدقائق والثواني، والقبض على الفائدة واللفتة وإيداعها الورق وضمّها في الذاكرة، وغير ذلك من المنافع.. جزى الله مؤلفه خير الجزاء على عمله ومجهوده.
لكن لا أدري.. أراني اليوم وفي نفسي حرج من دعوات التشديد في القراءة واعتسافها الزائد عن الحد! نعم لا ينكر عاقل أهمية القراءة وأنها قِوام الإنسانية والمجتمعات؛ لكن أن تُصوّر الكتب كحصنٍ قوي الحجارة سامق الجدران مُتعدد الأسوار مرتكزٍ على قمة جبل لا يحفظ الإنسان ويحميه إلا بقدر ما يُبعده ويعزله فهذا مما يخرج القراءة عن معناها ومقصودها الحقيقي والجوهري الذي يراد به التأثر والتفاعل مع الكون وما يحويه من حقائق وأسرار، وتأثير ذلك على الإنسان وعلى ما حوله، ومشاركته ذلك الأثر.. لا الانكماش والتقوقع؛ إن لم يفصح الكتاب عن هذا، فهذا على الأقل ما يشي به، إلا قليلًا منه! فمعلوم أن العلم في الإسلام لا نفع به إن لم يصحبه العمل، حتى عائشة -رضي الله عنها - حين وصفت خُلق النبي -صلى الله عليه وسلم - وقالت: "كان خلقه القرآن" فإنها وصفته بشيء علمي أو نظري رَكِبه العمل والتطبيق، إذ لا فائدة من علمك بالقرآن إن لم تعمل بما فيه، فوددتُ أن لو فصّل الشيخ علي العمران عن عمل هؤلاء العلماء بعلمهم وتقواهم وخشيتهم لله عز وجل، وعن أحوالهم في أهليهم ومع طلابهم وأصحابهم وخُلقهم وتعاملهم معهم، فكلنا يعرف مقولة أمّ الإمام مالك له حين كانت ترسله صغيرًا إلى شيخه فتقول: "اذهب إلى ربيعة فتعلّم من أدبه قبل علمه"، فالحديث مثلًا عن أمثال الحافظ البلقاسي -رحمه الله- الذي كان لا يُرى إلا مشتغلًا بالعلم أو التعليم ليله ونهاره حتى أنه كان يقرئ الطلاب وهو يأكل استغلالًا للدقائق والثواني، أو عن ابن عقيل الحنبلي الذي كان يأكل سفّ الكعك مع الماء بدلًا من الخبز لكي يكون أسرع في المضغ والبلع استنهازًا لوقته في العلم؛ لم لا يقابله مثلًا الحديث عن ثنايا يوم ابن تيمية وتنويعه في وقته وحياته ما بين عبادة واستغراق وتأمل في الكون وتصدق على الفقراء وجهادٍ للطغاة بالكلام وجهاد للعدو بالحُسام.. وغير ذلك! أنا لا أتهم البلقاسي ولا ابن عقيل ولا غيرهما في اقتصار يومهم دِقّه وجلّه على العلم المجرد فقط.. معاذ الله، فمثلهم لا يُتهم في دينه، فلا ريب أنهم يعملون بالعلم، أو أنهم ابتغوا بهذا العلم الذي صرفوا عليه ليلهم ونهارهم ونومهم وراحتهم وطعامهم وشرابهم أن يكون من أرجى أعمالهم التي تدخلهم الجنة بعد رحمة الله.. أحسبهم والله حسيبهم، ولكني أنقد الاحتفاء بفعلهم وذكره على سبيل التعظيم وكأنه مقياس العلم وحده، ومثل هذا المقياس ينطبق على سائر ما ورد في الكتاب من أمثلة؛ مما هو خارج عن قدرة الشخص العادي ومما يتفاوت فيه الناس! فحتى ابن الجهم الذي ذكره المؤلف بأنه كان يطرد النوم بالقراءة والنظر في الكتب واحتفى بصنيعه؛ ذكر في موضع آخر أن الحسن اللؤلؤي يقول عن نفسه أنه كان لا ينام إلا والكتاب على صدره، أي أن النوم كان يدهمه أثناء القراءة! هذا غير أن بعضهم ممن ذُكروا في الكتاب كان يتفاخر بأنه لا ينام الليل إمعانًا في المطالعة والعلم.. كيف ورسول الله- صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن ذلك أولئك النفر الذي افتخر أحدهم بتركه النوم للصلاة والعبادة وقال له:"وأصلي وأنام"؟! وهذا في أمر الصلاة التي هي من أجلّ الطاعات، فكذلك طلب العلم وغيره!، ثم يذكر المؤلف أن تقي الدين ابن دقيق العيد حين وصل إليه كتاب (الشرح الكبير) اشتغل بمطالعته حتى اقتصر على الفرائض من الصلوات وترك النوافل، وصحيحٌ أن تقديم العلم على الرواتب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن كان من الأجدر أن ينبّه المؤلف على هذه المسألة والتفصيل فيها؛ لكي لا يتخذها البعض مساغًا فيترك النافلة متى شاء بحجة طلب العلم!
ثم إن ذكر خبر ثعلب النحوي أو خبر محمد بن أحمد البغدادي اللذان كان لا يمشيان إلا وفي يديهما كتابٍ ينظران فيه حتى أن ثعلب صدمته فرس وهو يقرأ فألقته في هوة، فمات في اليوم الثاني بسببها، والبغدادي ربما سقط في جرف أو خبطته دابّة بسبب القراءة؛ لم لا يقابله التنبيه على فعليهما وضرره : ﴿أَفَمَن يَمشي مُكِبًّا عَلى وَجهِهِ أَهدى أَمَّن يَمشي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُستَقيمٍ﴾، ﴿ وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ﴾ ؟!

إن ذكر نماذج تكاد تكون غير واقعية (إمكانًا لا حدوثًا) ثم الاقتصار والتركيز عليها لا يزيد الأمر إلا إغرابًا أو إنكارًا أو تعجيزًا، وفي كل الحالات لا يزيده إلا بعدًا! فالنفس التي تروم بلوغ قمة الجبل بوثبة واحدة وهي في أخمص السفح لن تستطيع، ربما ستحاول المرة بعد المرة، حتى إذا استبانت العجز كرهت القمة وصورتها وفكرتها، أو قنعت منها بالنظر من بعيد بإعجاب وتسبيح وتمجيد لخالقها الذي رفعها وأعلاها فوق كل البشر ! هذه هي النفس الإنسانية بصورتها الطبيعية البسيطة، ولكل قاعدة شواذ بعد ذلك! 
كم وددتُ حقًا لو فصّل الشيخ علي العمران بعد ذكر هذه النماذج في شأن الأولويات في حياة المرء وأن هناك أمور تقدّم على أخرى سواءً بالمُطلق أو في زمانٍ ومكان معينَين، كم وددت لو فصّل كذلك في شأن قدرات الناس وتفاوتها حتى في طلب العلم والصبر عليه، فمن تميّز في شيء تواضع في آخر، كمن يتميز في نسخ الكتب حتى يتكسر القلم في يده، ويتواضع في قراءتها والدأب على دراستها المِرار الكثيرة..وغير ذلك، بل حتى تفاوت القدرات واختلاف الأمزجة في الشخص الواحد من حين لآخر؛ فهذا الإمام ابن حجر العسقلاني وهو حافظ عصره، كان يظهر التأسف في تقييد ما يسمعه من الفوائد، وغيره كثير. ولا يعني تفاوت القدرات أنه ينبغي لطالب العلم ما لا ينبغي لغيره؛ سواء بلغ فيه درجة متقدمة أم لا، إذ أن العلم كما قلنا لا يؤخذ بمراغمة النفس وحملها الشديد على ما تكره، أو ما يصلح لغيرها ولا يصلح لها، أو ما هو سابقٌ لأوانه، فحتى العلّامة جمال الدين القاسمي الذي أورد المؤلف من كتابه "الفضل المبين" خبر قراءته للمطولات مثل صحيح مسلم، وسنن ابن ماجه، والموطأ، وتقريب التهذيب؛ يذكر في كتابه الآخر "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث" أنه قرأ هذه المطولات إثر بعضها في شهور متجاورة تقريبا، ولكنه يحذر من ذلك ويقول :"فأجهدت نفسي وبصري، حتى رمِدتُ بإثر ذلك، شفاني الله بفضله، وأشفقتُ من العودِ إلى مثل ذلك، وتبين لي أن الخيرة في الاعتدال، نعم لا ينكر أن بعض النفوس لا تتأثر بمثل ذلك لقوة حواسها، وللإنسان بصيرة على نفسه، وهو أدرى بها".

إن العلم بحر عظيم واسع لا وجهة تؤديه ولا طريق يُقسّمه، فأبحر فيه أنى شئت عالمًا، أو عاملًا، أو عالمًا عاملًا، أو حافظًا، أو فاهمًا، أو متفكرا، أو متسائلا، أو ناسخًا، أو مؤلفًا ومصنفًا.. كن ما ينفعك وتُجز به عند الله ويقربك منه ولا يسخطه منك، وهذه ليست دعوةً للتهاون بالعلم والتلكؤ فيه، وإن أمةً كان أول دينها :"اقرأ" لحقيقٌ بها أن تصِل الأول بالآخر وتكون هذه الكلمة نبراس الزمان الذي لا ينطفئ مهما أظلمت الأيام؛  بل أن يكون المرء فيه وسطًا بين الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، وأن يُحدّث الناس فيه بما يطيقون.. فما تطيقه طبقةٌ لا تقدر عليه غيرُها، وما يطيقه أهل قرنٍ لا يُطيقه غيرهم؛ كما قال الحافظ الذهبي معلّقًا على خبر قراءة الخطيب البغدادي لصحيح البخاري في ثلاثة مجالس: "وهذا شيء لا أعلم أحدًا في زماننا يستطيعه!".. هكذا ببساطة.. فلكل وقتٍ ولكل حالٍ ظروفٌ ورجال! وإني مما أنقد الشيخ علي العمران عليه في كتابه أنه يذمُّ الذين يقرؤون الكتب بالحاسب الآلي ويظهر لهم الكتاب بـ(كبسة زر) ويقول عنهم أنهم إن ظنوا أنهم سيلحقون العلماء وينضمّون إلى ركبهم بهذا الفعل السهل فقد خابوا وخسروا! .. سبحان الله! غفر الله لك شيخنا الفاضل! وهل يجب أن يتعنّى الناس في طلب العلم ويضربون له أكباد الإبل مسيرة الشهر أو الشهرين كما في السابق حتى يكونوا علماء عن حقٍ وصدق؟! لماذا يجب أن نقفوا خطى الأوائل حذو القذة بالقذة ونجعل ذلك مقياس العلم وحده؟! أوَليس من رحمة الله ولطفه بهذه الأمة أن يسّر لها أسباب الأخذ بالعلم كما لطف بها وبالبشرية غيرها حين يسّر لها هذه المخترعات والآلات والأجهزة التي سهّلت حياتها وحسّنتها؟ وليست القضية أن نلوم من يقرأ من حاسبٍ أو (آيباد) بل اللوم على من تتوفر له هذه التسهيلات ثم يتقاعس في الطلب ويشتري به ثمنًا قليلا!

مرةً  أخرى: حدّثوا الناس بما يعقلون، بما يقربهم..لا يُبعدهم، بما يُعينهم.. لا يُعجزهم، بما يُرغّبهم.. لا يُحرجهم، حدّثوهم عن قرائن العلم من تقوى وورع وآداب وسلوك، حدثوهم عن أحوال العلماء وأنهم ونحن ومن قبلنا الأنبياء والرسل بشرٌ نأكل الطعام ونمشي في الأسواق، ونعمل ونتزوج وننام، ونملّ ونضجر، وننشط وننبعث؛ وأذكر هنا أمرًا طريفًا أنني قرأت في أحد المواقع الإسلامية المعروفة سؤالًا أرسله أحدهم يسأل فيه إن كان السلف يعملون في مهنة أو حرفة أم كانوا فقط متفرغين للعلم؟ ويشكو فيه السائل أنه حين يقرأ في سير الصحابة وأنهم مع ورعهم وتقواهم كانت لديهم أعمال ومهن يزاولونها فإنه يشعر بالسعادة وحب العمل الصالح ونشاط الحياة وانبعاثها، بينما حين يقرأ في سير السلف فإنه يشعر بالحزن والفتور لما يصوّر له من أنهم فقط كانوا مشتغلين بالعلم والحفظ ومعزولين عن الحياة! فأجابه الشيخ بأن الأمر ليس كذلك، بل إن أكثر السلف كانوا يعملون بالتجارة والحدادة والزراعة وغيرها، بل بعضهم اشتهر بمهنته ونُسب إليها؛ كالآجرّي والبحراني والحداد وغيرهم.. وهكذا ينبغي أن يكون! العلم لا يعني نبذ الحياة، بل هو جزءٌ أصيل منها يخالُطها حتى العظم، متفاعلٌ معها تسير به ويسير بها، فمعلومٌ أن أوّل العلم وابتداءه كان سؤالًا ولّدته ملاحظة الأشياء من حولنا والتيقظ لدقائقها وأسرارها، ثم التأمل فيها واستقراؤها.

وختامًا: لا يشكك أحد في أهمية هذا الكتاب وجهد مؤلفه الفاضل وأثر مضمونه خاصة في شحذ الهمم والمسارعة للعلم وتوقيره وإجلاله، ولا يشكك أحد في أن "اقرأ" هي الأولى وهي الآخرة، ولكن أستطيع أن أقول أن نقدي ليس للكتاب والمؤلف بقدر ما هو نقدٌ للفكرة، إذ أنها رائجة ومنثورة في كثير من الكتب!  هذا وإن صوابي من الله، وخطأي من نفسي والشيطان.

الاثنين، 20 يناير 2020

حقيقة العقل!



قال ابن فارس صاحب كتاب (مقاييس اللغة) في أصل كلمة العقل عند العرب :"العقل هو الحبس عن ذميم القول والفعل"، ومعناه أن معظم ما يؤخذ من هذا الأصل(العين والقاف واللام) أو يشتق منه يرجع بصورة أو بأخرى إلى معنى المنع والإمساك والضبط والحفظ، وضده الإطلاق والإرسال والتسيب.
ولما كان أعز ما خلق في الإنسان هو ذلك الجزء المعنوي الذي يضبط أخلاق الإنسان وتصرفاته سموه (عقلا)؛ لأنه يمنع صاحبه ويحبسه عن سيء الفعل والقول؛ وهذا المعنى أشار إليه معظم أصحاب المعاجم اللغوية. ويفهم من حاصل معطياتهم أن الذي يسمى عقلا في الإنسان هو: ما يحبسه عن الشر فعلا وقولا، ولا يسمى عقلا ما حبس الإنسان عن فعل الخير؛ ولذلك قال بعضهم: العقل ضد الحمق ونقيض الجهل.
وقد يطلق العقل ويراد به الفهم والتدبر، أو يطلق على العلم مطلقا أو على العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشر الشرين كما ورد في القاموس المحيط.
وأما العاقل في اللغة، فلم يفصل العلماء فيما يطلق عليه، لوضوح المراد به، وأنه الشخص الذي يوجد عنده العقل بالمعنى الذي مضى معنا، ومع ذلك نجد ابن الأنباري يقول: "رجل عاقل: هو الجامع لأمره ورأيه، وينقل قولهم : العاقل : هو الذي يحبس نفسه عن هواها". والخلاصة أن العرب تطلق العاقل على من يتصف بالعقل؛ وأن العقل عندهم وصف مجرد أو معنى مجرد يحمل صاحبه على المكارم ويحجزه عن كل ما يشينه. (إسلام ويب)
نلحظ من التعريفات السابقة للعقل أنها تكاد تدور حول معنى واحد وهو : "النهي عن الشر أو الخطأ، والحض على الخير أو الصواب" وهو مشتق من المعنى اللغوي الذي يدور في مجمله على المنع والضبط والحفظ.. فإذا كان هذا المعنى اللغوي والاصطلاحي للعقل فمن أين ترسخ في أذهاننا أن العقل من مرادفات الذكاء وتوقد الذهن فقط، أو أنه النظر المادي الذي يزدري ما وراء المادة، أو ربطه بمفاهيم وصور معينة كالفلسفة والنظر المجرد والمنطق وعلم الكلام وغيرها من الارتباطات التي تتشكل في أذهاننا كلما ذكرت كلمة (العقل)؛ مما لم يترجمها لسان أو تصطلحها ثقافة أو يقرها شرع! فحتى ورودها في الشرع جاء بغير المعاني السائدة:
أولًا :من يتأمل القرآن يلحظ بوضوح ارتباط وظيفة العقل بالقلب بعكس ما هو مترسخ في الأذهان أن وظائف الإدراك تصدر من الدماغ الذي يوجد في الرأس، أو أن القلب والعواطف شيء، والعقل والتفكير شيء آخر ؛ فالمتأمل في الآيات يرى إبطال القرآن لهذا الاعتقاد: "فقد ورد في القرآن الفعل (عَقَل) بوصفه يدل على الفعل الإدراكي الذي يختص به القلب: ﴿أَفَلَم يَسيروا فِي الأَرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلونَ بِها﴾ ، كما أن القرآن استعمل فعل (فَقِه) وأسنده إلى القلب باعتباره مرادفًا لـ (عَقِل) : ﴿وَجَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا ﴾، واستعمل لفظًا ثانيًا في نفس المعنى مسندًا هو الآخر إلى القلب وهو لفظ (العلم) كما في الآية :﴿رَضوا بِأَن يَكونوا مَعَ الخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم فَهُم لا يَعلَمونَ﴾، وبهذا يتبين أن اختصاص القلب بفعل العقل لا يختلف في شيء عن اختصاص العين بفعل النظر أو اختصاص الأذن بفعل السمع أو اختصاص اليد باللمس أو اختصاص اللسان بالذوق" (سؤال العمل- طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى ص71) وهناك قول مأثور لعلي ابن أبي طالب -رضي الله عنه - يقول "العقل في القلب"، وما حدث هذا الفصل بين القلب والعقل مع وضوح الآيات التي تسند العقل للقلب إلا بسبب تأثر الثقافة الإسلامية بالفلسفة اليونانية التي تكرّس العقل وتجعله جوهرًا مستقلًا بذاته. 
"وهناك أيضًا صفة أخرى للعقل أنه فعل يقترن بكل القوى الإدراكية الأخرى، فمثلًا؛ لا يكون السمع سمعًا حتى يعقل، ولا البصر بصرًا حتى يعقل بحيث تكون كل الإدراكات موصولة بالقلب، والشواهد على ذلك من القرآن الكريم كثيرة؛ فهناك الآيات التي تجمع بين ذكر القلب وذكر السمع والبصر كما في قوله تعالى : ﴿أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَسَمعِهِم وَأَبصارِهِم وَأُولئِكَ هُمُ الغافِلونَ﴾" (المصدر السابق ص72)
ثانيًا: أن دلالة العقل في القرآن تستلزم العمل؛ فبقدر ما يعمل الإنسان الخيرات بقدر ما يزيد عقلُه.. يقول تعالى: ﴿أَتَأمُرونَ النّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلونَ الكِتابَ أَفَلا تَعقِلونَ﴾، وقال تعالى : ﴿وَقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ ما كُنّا في أَصحابِ السَّعيرِ﴾ أي أنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون السماع أو التعقل المورث للعمل ما كانوا في أصحاب السعير.
ونحن حين نتحدث عن تلازم العقل والعمل فلا نقصد بالعمل ما نأتيه بجوارحنا فقط، بل إن القصد عمل، والإرادة عمل، والاعتبار الذي يثمره التفكر عمل؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَتِلكَ الأَمثالُ نَضرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعقِلُها إِلَّا العالِمونَ﴾ فهذه العبرة عمل لأنها أحدثت حركة ووجلًا قي القلوب وخشية من ربها عز وجل، ثم أليس عندنا في الإسلام مصطلح اسمه (أعمال القلوب) ؟ أليس الإنسان قد يثاب بالنية الصادقة وحدها وإن لم يصاحبها عمل بالجوارح أو قول باللسان؟ "إنما الأعمال بالنيات" فعلّق العمل الظاهري كله على عمل قلبي وهو النية، ذلك أن النية قصد، والقصد وجهة، والوجهة لا بد لها من مسير؛ إن بالقلوب أو بالأبدان. بل حتى الحكمة التي هي أكمل درجات العقل وأخصها اقترنت بالعمل، وليس كما يخيل لنا من أن الحكيم هو شخصٌ بلغ من الكبر عتيا وأصبح يمضي باقي عمره في التأمل والتفكر المجرد! يعرّف الراغب الأصفهاني الحكمة بقوله أنها :"معرفة الموجودات وفعل الخيرات". 

وإذا كان العقل في القرآن مقترنًا بالعمل، والعمل لازم من لوازم الإيمان؛ فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية (أي بالعمل الظاهري أو القلبي) فكذلك زيادة الإيمان تعني زيادة العقل، وهذا ما نلحظه في القرآن؛ فقد ذمّ الله الذين لا يؤمنون بانعدام العقل وتوعّدهم بالرجس: ﴿وَما كانَ لِنَفسٍ أَن تُؤمِنَ إِلّا بِإِذنِ اللَّهِ وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعقِلونَ﴾، وعدم استجابتهم لأوامر الله هو أيضًا نتيجة ذلك: ﴿وَإِذا نادَيتُم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذوها هُزُوًا وَلَعِبًا ذلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَعقِلونَ﴾، وجعله سببًا للاجتراء على مقام الألوهية والافتراء على الرب سبحانه: ﴿ما جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذينَ كَفَروا يَفتَرونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَأَكثَرُهُم لا يَعقِلونَ﴾ وهو أيضًا سبب في نقص التأدب واللباقة مع مقام الرسول -صلى الله عليه وسلم - :"﴿إِنَّ الَّذينَ يُنادونَكَ مِن وَراءِ الحُجُراتِ أَكثَرُهُم لا يَعقِلونَ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. ولندرك أكثر هذا الارتباط والاطراد الوثيق بين العقل والإيمان، وأنه كلما كان المسلم أكثر تشربًا للوحي وعملًا به وتأثرا كلما ازداد نوره وكمل عقله وتمت بصيرته؛ لنرَ أولًا ما الذي تعنيه كلمة "الوحي" وعلاقتها بالقلب والعقل: 
"الوحي له معنيان أساسيان: أعمّ، وأخصّ، فالأعم : (ما يُلقى في القلب من العلم)، ولما كان العقل فعلًا نابعًا من القلب، وكان الوحي عبارة عن إلقاء في القلب؛ كان الوحي إمدادًا للعقل كذلك، بحيث يورّثه علم ما لم يعلم بنفسه، ويزيد مداركه ويوسّع آفاقه. أما الوحي في معناه الأخص فهو الاصطلاح الشرعي المقصود به: (كل كلام أنزله الحق سبحانه على نبي من أنبيائه)، ولقد تقرر بموجب القرآن نفسه أن هذا الكلام لا يمكن نزوله إلا في القلب، مصداقًا للآية الكريمة: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ ،عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، فلما كان الوحي كلامًا نازلًا على القلب الذي هو محل العقل؛ وجب أن يكون كلامًا معقولًا، بل كلامًا هو في نهاية المعقولية، بحيث يرقى بفعل العقل إلى أعلى درجاته، من هنا كان النبي حتمًا أعقل الناس في قومه، وكانت دعوته لهم دعوة إلى كمال العقلانية، وكان إصلاحه لهم إصلاحًا لقلوبهم، لكي تصبح هذه القلوب قادرة على أن تعقل الأشياء على مقتضى الوحي، لذلك فإن الوحي بالمعنى الأخص إنما هو العقل الكامل الذي ينبغي أن يكون عليه فعل القلب، حتى يوافق الفطرة التي خلق عليها" (المصدر السابق بتصرف ص95-96).
وبهذا يتبين لنا هذا التكامل بين الوحي والقلب والعقل، وأن انعدام الوحي ظلمةٌ في القلب واضطراب في العقل، وبشكل دقيق تكمن أهمية الوحي في تفاعلات ووظائف عديدة، منها:
"١-أن الوحي يدعو إلى الحق، فهو بالتالي يهدي العقل إلى هذا الحق، فيتولى إخراجه من أخطائه وتقويم اعوجاجه وتصحيح مساره، لا سيما وأن الإنسان لو خُلي بينه وبين طبعه لا يصفو عقله، بل تخالطه النوازع والأهواء، كما أنه لا يطهر قلبه، بل تترسب فيه آثار الضلالات والجهالات.
٢- أن الوحي يأتي بالكمال، فيتعين أن تكون وظيفته أيضًا إيصال العقل إلى هذا الكمال، مُرتقيًا به في مدارك الإدراك؛ فلا يقف العقل عند المحسوسات ولا ما يستخلصه منها من مجرّدات، بل يتطلع إلى ما وراءها من معان روحية وحقائق غيبية، مدركًا أن هذا الكون لم يوجد عبثًا، وأن له موجدًا واحدًا، له حِكَمُه البالغة في إيجاده وإمداده. 
٣-أن الوحي يُعلِم بالغيب، فيتوجب أن تكون وظيفته كذلك إحاطة العقل ببعض المغيبات، بحيث يتولى توسيع آفاقه وتأسيس مدركاته، فلا يكتفي العقل بما يتوصل إليه بنفسه من حقائق نسبية أو وقائع عاجلة، بل يأخذ في البناء على ما لا يستطيع التوصل إليه من الحقائق الثابتة أو الوقائع الآجلة التي أخبر بها الوحي، مستنتجًا منها علومًا تدعو إلى الزيادة في تصحيح العمل والاجتهاد في التزود منه، حتى لا تنحصر المنافع في المشهود من الوجود بل تتعداه إلى المغيب منه". (المصدر السابق بتصرف ص98-99)
وفي القرآن نفسه فُسرت الحكمة التي هي أكمل درجات العقل بأنها القرآن إذا جاءت مفردة دون عطفها على الكتاب، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوتِيَ خَيرًا كَثيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾ وقيل في تفسيرها:"هي تفسير القرآن وفهمه والفقه فيه ومعرفة محكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه"، وجاءت الحكمة بمعنى القرآن في حديث رسول الله الذي رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- قال -رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا وسلّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها" وفي رواية :"رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" ومنه أيضًا حديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: "ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره وقال :" اللهم علمه الكتاب" وفي رواية: "اللهم علمه الحكمة". وفُسرت الحكمة كذلك بالسُنة لا سيما إذا كانت مقرونة بالكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: "﴿لَقَد مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنينَ إِذ بَعَثَ فيهِم رَسولًا مِن أَنفُسِهِم يَتلو عَلَيهِم آياتِهِ وَيُزَكّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكمَةَ)، وقوله تعالى : ﴿وَاذكُرنَ ما يُتلى في بُيوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ وَالحِكمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا﴾ إلى غير ذلك من الآيات..

وزيادة العقل بالطاعة ونقصانه بالمعصية أمر مشاهد مجرّب دلّ عليه الوحي أولًا، ودلّ عليه الواقع والأقوال المأثورة وشواهد من قصص العلماء والعبّاد وسيرهم، ولا ينكر هذا إلا مكابر ينظر للعقل من زاوية غير زاوية القرآن والسنة، ومن يتأمل آيات القرآن التي تدلّل على العقل وتحمل شواهده وظواهره وعلاماته يجد عجبًا، سواءً جاءت هذه الآيات في سياق التفريق بين المؤمنين الذين يعقلون والمعاندين الذين لا يعقلون، أو في صيغة أوامر ونواهي ترفع المؤمن درجات في سلم العقل بحسب التزامه بها، أو في صيغة آداب وأخلاق تزيد العقل نورًا وجمالًا ووقارا.. وكل هذه الآيات إذا أمعن فيها العقلاء يجدونها تعطي الأشياء نصابها الوافي، وتضع العقل أمامها في ميزانه المضبوط الدقيق الذي لا يسع العارف سواءً أكان عالم نفس أو عالم اجتماع أو فيلسوف أخلاق أو مربيًا حكيمًا أو باحثًا في التاريخ وطبائع الأمم إلا أن يُسلّم بصوابه ونتائجه إن في حاضره أو في مآلاته البعيدة.
فلنأخذ بعضًا من هذه الآيات نتدارسها، وإلا فالقرآن كله كتاب ينهج بالعقول نحو العقل الكامل :
-من أوائل هذه الآيات بنظري تلك الآيات التي تجعل على قلوب الذين يستمعون للقرآن ولا يؤمنون به أكنة وأغطية نتيجة تمنّعهم عن الانقياد له، كقوله تعالى في سورة الكهف :﴿وَمَن أَظلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعرَضَ عَنها وَنَسِيَ ما قَدَّمَت يَداهُ إِنّا جَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن تَدعُهُم إِلَى الهُدى فَلَن يَهتَدوا إِذًا أَبَدًا﴾ وقوله في الأنعام: ﴿ وَمِنهُم مَن يَستَمِعُ إِلَيكَ وَجَعَلنا عَلى قُلوبِهِم أَكِنَّةً أَن يَفقَهوهُ وَفي آذانِهِم وَقرًا وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤمِنوا بِها حَتّى إِذا جاءوكَ يُجادِلونَكَ يَقولُ الَّذينَ كَفَروا إِن هذا إِلّا أَساطيرُ الأَوَّلينَ﴾، وقوله في البقرة: ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَروا سَواءٌ عَلَيهِم أَأَنذَرتَهُم أَم لَم تُنذِرهُم لا يُؤمِنونَ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلوبِهِم وَعَلى سَمعِهِم وَعَلى أَبصارِهِم غِشاوَةٌ وَلَهُم عَذابٌ عَظيمٌ﴾، إلى غيرها من الآيات.. فقد أعرض هؤلاء عن وحي الخالق والعقل الكامل والحجة الأبلغ والنور المبين.. فكيف يمكن أن يوصفوا بالعقل في ما هو دونه؟ بل استحقوا لأجل ذلك أن يُختم عليهم بالغباوة الكاملة والجهالة المستحقة! 
-في سورة الإسراء وبعد مجموعة من الوصايا قال تعالى في ختامها: ﴿ذلِكَ مِمّا أَوحى إِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكمَةِ وَلا تَجعَل مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ فَتُلقى في جَهَنَّمَ مَلومًا مَدحورًا﴾، والذي يلحظ تلك الوصايا يجدها تتنوع ما بين أحكام وآداب عقدية واجتماعية وأخلاقية من الأمر بالتوحيد وبر الوالدين وصلة الرحم والتعامل مع ذوي الحاجات، والابتعاد عن الزنى ودواعيه، ومراعاة حق اليتيم، ومعرفة قدر النفس، وغيرها، ثم يخبرنا تعالى أنها من الحكمة، وقد اطلعت على بعض ما كتب في تفسير الحكمة هنا؛ فقال بعضهم أنها القرآن، وقال آخرون أنها بمعنى الحكمة أي : وضع الأمور في نصابها الصحيح، وسواء دلّت على هذا المعنى أو ذاك فالشاهد أن القرآن هو الحكمة،وأن آياته وأحكامه وآدابه تسوق إلى الحكمة التي هي أكمل درجات العقل.
-وإذا كان هناك ارتباط وثيق بين العمل والعقل، فارتباط العلم بالعقل هو من باب أولى، لأن العلم هو أول العمل وموجهه ومُصححه، ولأن العقل أيضًا يأتي بمعنى العلم والفهم كما أشرنا سابقًا، إلا أن العلم في ديننا لا خير فيه إن لم يتبعه عمل، وكلما كان المرء عاملًا بالطاعات مجتنبًا للمحرمات ناله من الفتوح والتسديد في العلم ما لا يتحصل لغيره ممن هو مقصر في جنبِ الله! انظر لقوله تعالى: ﴿إِنَّما يَخشَى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ غَفورٌ﴾ وما رزقوا الخشية إلا بسبب معرفتهم بالخالق عز وجل وإدراكهم لعظمته وجلاله، أي بسبب إيمانهم وعملهم الصالح، فلا يُرزق الخشية عالم فاسق معاند. ولاحظ أيضًا (ال) التعريف في "العلماء" وكأنهم هم فقط من يستحق الاتصاف بالعلم والمعرفة والعقل، لا غيرهم من أهل الفسق والجحود المتعالمين!
-ومما يُستأنس به في اطّراد العلم بالتقوى والتدين ما استنبطه بعض العلماء من قوله تعالى في سورة البقرة: ﴿واتَّقُوا اللّهَ وَيُعَلّمكُم اللّهُ ﴾ أنه حين قدم التقوى على العلم دلّ على أنه كلما ازداد العبد تقوى فتح الله عليه في العلم أكثر، وهناك حديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله، ولكن قد يُستأنس به في هذا المعنى، وهو قوله :"من عمل بما يعلم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم"، وكثير من العلماء عندما تستغلق عليه مسألة فإنه يلجأ للاستغفار والدعاء وذكر الله عز وجل فيُفتح عليه، والدلالات والشواهد والنقولات في هذا الباب كثيرة ومعروفة ومجربة أرجئ الحديث عنها في موضع آخر.
-وحتى في الجوانب الاجتماعية التي يغطيها القرآن نرى عقلانية تامة يكون بها صلاح العباد والبلاد، لاحظ قوله تعالى مثلًا في سورة الإسراء: ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظلومًا فَقَد جَعَلنا لِوَلِيِّهِ سُلطانًا فَلا يُسرِف فِي القَتلِ إِنَّهُ كانَ مَنصورًا﴾  فهنا تحريم أن يتجاوز ولي المقتول الحد في القاتل من تمثيل بجثته وغير ذلك.. ولو كان المقتول بريئًا تام البراءة، ولو بلغ قهره وكمده عليه ما بلغ؛ لأن مجاوزة الحد هذه قد توغر صدورًا وتولد أحقادًا وعداوات أخرى، وترسم شكلًا آخر من أشكال الانتقام يورّث قبحًا ودناءة وإجرامًا في المجتمع.. إلى غير ذلك من النتائج؛ فيحفظ الإسلام بذلك السلم الاجتماعي أن يتخلخل حتى بفعلٍ ظاهره حقّ وباطنه وآثاره باطل.
-في قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيهِم مِن سَبيلٍ، إِنَّمَا السَّبيلُ عَلَى الَّذينَ يَظلِمونَ النّاسَ وَيَبغونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ أُولئِكَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِن عَزمِ الأُمورِ﴾ فمع أنه شرع الأخذ بالحق والانتصار ممن ظلم واعتدى، إلا أن الصبر عليه والعفو عنه مندوب، وهو من عزائم الأمور التي لا يوفق لها إلا قوي، فمع أن العقل يرى أن من الصواب الانتصاف ممن ظلمك، وهو أمر جائز، إلا أن القرآن يوجهنا إلى ما قد يكون أحيانًا أعقل منه وأحسن، فيندبنا إلى العفو، حتى لا تتكرس فكرة الانتقام مع كل مرة فتصبح هي الأساس، بل يُعامل كل مقام بما يستحقه، وحتى تفسح القلوب مكانًا للعفو فتتقارب النفوس وينتشر شذى الود والألفة بين الأفراد ويتلاحم المجتمع أكثر، فالانتقام الجائز وإن كان مباحًا إلا أنه يترك حزازات في النفوس، بعكس العفو الذي يؤدب أحيانًا أكثر مما يفعل الانتقام، لأنه يجعل المعتدي يخجل من فعلته ويمتن لمن عفى عنه ويترك في نفسه شعورًا طيبًا نحوه، ثم إن العفو عمن ظلمك يلقنك درسًا عظيمًا في الصبر وكظم الغيظ وضبط المشاعر، ويزيدك عزة ومنزلة عند الله تعالى.
وهكذا تتجلى العقلانية في القرآن من خلال الآيتين السابقتين وغيرهما من الآيات في تقديمه المصلحة العامة على الخاصة، ومراعاته للسلم الاجتماعي على حساب الشخصي، واهتمامه بتربية النفس وتقويتها أمام أهوائها وشهواتها المجبولة عليها.
-يوجه الله تعالى نبيه في سورة الكهف أن يقرن إرادته فعلَ شيء في الغد بقول :"إن شاء الله"، قال تعالى: ﴿وَلا تَقولَنَّ لِشَيءٍ إِنّي فاعِلٌ ذلِكَ غَدًا، إِلّا أَن يَشاءَ اللَّهُ وَاذكُر رَبَّكَ إِذا نَسيتَ وَقُل عَسى أَن يَهدِيَنِ رَبّي لِأَقرَبَ مِن هذا رَشَدًا﴾ فالقرآن هنا يعقل النفس أن يستبد بها حماسٌ أحمق أو عزيمة رعناء في نيتها فعلَ الأشياء، فتُقدِمَ عليها إقدامًا عنيدًا لا يحسب حسابًا لما قد يكون وما قد يطرأ، فتأتي "إن شاء الله" كالماء الذي يطفئ هذا التأجج ويبدله طمأنينةً واتزانًا، فتقدم النفس على الغد بخطًى مستريحة مدركة أن الغيب لله وهو المتصرف فيه بما يشاء، فتحمده إن جاء وحصّلت فيه ما تريد، وتصبر إن لم يكن لها ما تريد (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).. وهكذا يربي القرآنُ الإنسان على الاتزان والتحسب للاحتمالات والمتوقعات، وفوق ذلك كله يربيه على معرفة قدره وجرمه، وأن هنالك مالكًا للكون يملك أمره وغده ويتصرف فيه بما شاء، وهذا والله من تمام العقل والحكمة.

وفي السنة النبوية كذلك من الأحكام والآداب ما يفيض عقلًا وحكمة، وقد مرّ علينا سابقًا أن الحكمة إذا وردت في القرآن مقرونة بالكتاب كان معناها السنة النبوية، وهذا أوضح دليل على أن السنة معينُ الحكمة لمن أخذها وعمل بها، يكفي أن تتأمل فقط في أفعال وأخلاق وحركات وسكنات ولفتات مصدرها ومرجعها -صلى الله عليه وسلّم- فضلًا عن أقواله لتدرك أي عاقل وأي حكيم ووقور كان يمشي على الأرض. وهكذا كان خير المقتدين به؛ صحابته وغيرهم من السلف الصالح، الذين كانوا عقولًا تمشي على التراب.. عقولًا بورعهم وتقواهم اللذين هما رأس الحكمة، عقولًا في شجاعتهم وقوتهم في الحق وصراحتهم في نبذ الباطل، عقولًا بصدعهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدم مداهنتهم في إصلاح مجتمعهم، عقولًا في نصحهم وإرشادهم، في أقوالهم وحكمهم البليغة؛ التي يشتبه بعضها بكلام النبوة للنور الذي يشع منها والعقلانية التي تكتنفها والرشاد الذي يَجزِلُها، عقولًا في علمهم وفطنتهم وتوقّد أذهانهم وسداد بصائرهم. 
ثم إني نظرتُ في سِيَر كثير من العلماء الربانيين ممن عرفوا بسلامة العقيدة ومتانة العلم وغزارته وحسن الفقه وقوة الحجة فرأيتهم جمعوا مع قوة العلم كثرة العبادة والتقوى والورع، مما يدلل على ما ذكرنا أن العلم النافع هو من أثمر التقوى، والتقوى رأس العقل، وهي من تثمر الرزق في العلم والفتوح والسداد، وقد اشتهرت في هذا الباب أقوال وقصص عديدة، منها البيتان الشهيران المنسوبان للإمام الشافعي: 
شكوتُ إلى وكيع سوءَ حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال لي بأن العلم نورٌ
ونورُ الله لا يُهدى لعاصي
وكان ابن تيمية -رحمه الله- يقول :"إن المسألة لتُغلق عليّ، فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل؛ فيفتحها الله عليّ"، وقد استنبط بعض العلماء من قوله تعالى: ﴿ إِنّا أَنزَلنا إِلَيكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحكُمَ بَينَ النّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِلخائِنينَ خَصيمًا، وَاستَغفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفورًا رَحيمًا ﴾ :"من أنه ينبغي لمن استفتي أن يقدم بين يدي نجواه الاستغفار، لأن الله تعالى قال :"لتحكم" ثم قال: "واستغفر الله"، ولأن الذنوب تحول بين الإنسان ومعرفة الصواب: ﴿كَلّا بَل رانَ عَلى قُلوبِهِم ما كانوا يَكسِبونَ﴾. ومما يدلّل على أن الفهم والعلم من الله عز وجل لا بسبب ذكاء العبد وفطنته، وأن التقوى والقرب منه سبحانه من أكبر الأسباب الجالبة له قوله تعالى عن سليمان في حكمه في قضية نفش الغنم :﴿فَفَهَّمْناهَا سُليمـٰن ﴾، فحتى في القضايا الدنيوية يُستجلب الفهم منه سبحانه، وكان شيخ الإسلام يدعو بهذا الدعاء إذا استشكلت عليه المسألة: "اللهم يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني"، وانظر إلى قول الله تعالى عن نبيه داوود عليه السلام: ﴿وَشَدَدنا مُلكَهُ وَآتَيناهُ الحِكمَةَ وَفَصلَ الخِطابِ﴾ وكان قبلها قد امتدحه بأنه أوّاب، وأنه في تسبيح وذكرٍ دائم فحتى الجبال والطيور يسبّحن معه،  فكان تلازمُ هذه القوة الروحية أن يعطى معها قوة عقلية وبصيرة وسدادًا في الأحكام، فأعطي فصل الخطاب حتى في أمور وقضايا الدنيا، ونسب تعالى إعطاء الحكمة إلى نفسه، وجعلها معرفة بـ (ال)؛ فقال :(وآتيناه الحكمة) وكذلك في قوله تعالى: ﴿يُؤتِي الحِكمَةَ مَن يَشاءُ وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوتِيَ خَيرًا كَثيرًا وَما يَذَّكَّرُ إِلّا أُولُو الأَلبابِ﴾، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَينَا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أنِ اشْكُرْ لله)مما يدلل على أن الحكمة الوحيدة والحقيقية إنما هي التي من عند الله عز وجل.
ولنأخذ الأئمة الأربعة الكبار أنموذجًا على أن العلم الحقيقي هو أهم رافدٍ للتقوى، وأن التقوى الراسخة هي خير مقيمٍ للعلم ومُعلٍ له؛ فهذا أبو حنيفة كان يُسمى الوتد لكثرة صلاته، ورويَ أنه قرأ القرآن كله في ركعة، وسُئلت أخت الإمام مالك عن شغله في بيته؟ فقالت: المصحف والتلاوة! وكان الشافعي يصلي نحو ثلث الليل، ويقرأ في الركعة خمسين آية، وكان الإمام أحمد يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من أسواط السجن صار يصلي مائة وخمسين ركعة! فانظر إلى ما صاروا وإلى ما بلغوا من قوة العلم وبلاغة الحجة حتى صاروا أعلامًا في العلم والفهم.

وفي مشاهداتي الشخصية لمن أعطاه الله تفوقًا في العلم مع استقامة وحسن سلوك ألحظ أمرًا مشتركًا يجمع بينهم على اختلاف مشاربهم وطرائقهم في العلم.. أمرًا هو كالمرشد الخفي الذي يسير معهم ويوجههم أينما ساروا، ألا وهو التوفيق! هذه الهبة السماوية التي  تحشدها وتسوقها جند من الأعمال الصالحة، فبقدر ما يفعَلُها العبد تُفعّله، وتجعل حياته منارات هدى لا يضل فيها بطريق! نعم.. ما رأيت موفقًا إلا كان وراء توفيقه برّ والدَين، أو خشوعًا هفي صلاة، أو كثرة صدقات، أو ملازمة دائمة لكتاب الله، أو حسن خلق مع الناس وسعيًا في حاجاتهم، أو خبيئة صالحة أو غير ذلك من الأعمال التي تمتد بركتها وتؤتي أكلها كلّ حين.. وهذه البركة وهذا التوفيق لا يكون في العلم وحده، بل هو حسن نظرٍ وتسديد في حياته كلها، بل لا يظهر ألقه ولا ينكشف بريقه في العلم إلا إذا أُسبغ على كل الحياة وعمّتها بركته، فقرينُ العلم وثمرته السداد في الرأي والفصل في الأحكام، والتواضع ومعرفة قدر النفس، وتزكية العلم بنشره وتبليغه للناس، وحسن الخلق والتلطف معهم، هكذا يكون المتعلم موفّقًا، وهكذا يكون التوفيق، أما العالم الذي لا يصحبه التوفيق في حياته علمُه ممحوق البركة، فتجده مغترًا متكبرًا، أو ضانًا بعلمه على الخلق، أو جافًا مع الناس غليظًا عليهم، قد شخص ببصره نحو علمه فقط فاعتزل معه عن الحياة والأحياء، ولم يدرِ أن العلم جزءٌ من الحياة.. يحيى بنور الله وحياة القلب وينتعش بانتعاش الروح، فعلمه وإن بقيَ فهو لا يحيى، وإن نهض وشمخ فسيبقى مسلوب الروح..

وهكذا نرى أن مفهوم العقل الإسلامي أعم وأشمل من مجرد الذكاء أو غيره من التصورات السائدة، وأن الذكي الكافر أو العاصي وإن كان ذكيًا فلا يسمى عاقلًا، وأن المؤمن التقي هو أعقل من الكافر و الفاسق وإن كان أقلّ منهما ذكاءً، وأن التفوق الفكري يُنال بأمرين: بـ المَلَكة الجِبليّة؛ وتُقوّى بالدُربة، والأمر الآخر: بالتقوى التي هي رأس كل حكمة وسداد.. ولا خير في عقلٍ يبعد عن الله والدار الآخرة، فصاحبه معه كالحمار يحمل أسفارًا، وأنعم بعقل يرى بنور الله وإن كان صاحبه في أحاجي الدنيا وألغازها صفرَ الذكاء.