السبت، 11 أبريل 2020

“ولكنّكم في الأدب غرباء!"

-هل على الأديب هذه الأيام أن يكتب بلغة سهلة واضحة لا تحتوي على كلمات صعبة يضطر معها القارئ إلى الرجوع للمعاجم لكي تكون كتاباته منتشرة بين العامة ومتداولة بينهم؟ 

منذ أيام تحدّث أحد الكتّاب الشباب في حسابه على السنابشات عن الكتابة الأدبية وأساليبها وطرق الجذب والإبداع فيها، والحقيقة أني لم أتابع كلامه كله؛ لكن استوقفتني منه نقطةٌ كان يوصي فيها الكتّاب الناشئين أن يبتعدوا عن الكلمات الصعبة والغريبة في كتاباتهم أو الكلمات التي يحتاج معها القارئ إلى الرجوع للمعجم؛ لأنها بحسب تعبيره ليست إلا حذلقةً يتعالم بها الكاتب على القارئ، والأدبُ الحقّ حسب قوله هو الواضح السلس الذي لا يكون الإبهار في ألفاظه، بل في معانيه.. 
هذا الكاتب وغيره هم صدًى لدعوى ظلّ أصحابها زمنًا ينادون بتيسير الأدب وتذليل قطوف اللغة حتى تكون في متناول كلّ الأيدي، فما الداعي لاستعمال كلمات وعبارات وتراكيب ولّى أصحابها في الدهر وانتهت دواعي استعمالها وحلّت مكانها بدائل سهلة تغني غناءها؟ لكل عصر أدوات ولغة.. هكذا يقولون؛ وهذه الدعوى تبدو لأول وهلة صحيحة واقعًا، ولكنها خاطئة مثالًا وتأملًا ولزومًا، وأنا مع هذا التحجير الذي قد يُرى توسيعًا، ومع هذا الخَوَر الذي قد يُرى تيسيرًا؛ لا أملك إلا الرد بنقاط سريعة أتَتْ عفو الخاطر من غير بحثٍ واستزادة، أردتُها تغريداتٍ في تويتر.. لكن توارد الفكرة تلو الفكرة أحالَها تدوينةً وشكلًا آخر،
أقول والله أعلم :

١-ليس كل من كتب كلمات صعبة فهو متحذلق! فقد يكون محبًا لقراءة كتب التراث أو للأدباء الكبار الذين يحبون السير على نهجها ثم هو قد ألِف أسلوبهم وتطبّع به فلم يكد يستطيع أن يعبّر بغيره! فأنت حين تطالبه بالتعبير بلغة سهلة كنفسك حين يطالبها غيرُك بالتعبير بلغة "صعبة"!.
٢- لا تعارض بين غرابة الألفاظ والإبداع في المعاني، بل إن اللفظ الغريب ومعناه البعيد يفتح للأديب البليغ المتذوق أحيانًا أفقًا من المعاني الجديدة والمتصلة ما كانت لتُفتح له لو أنه اقتصر على لفظةٍ سهلة سطحية المعنى قريبة المأخذ، والألفاظ الغريبة تُكسب النص جزالةً ومتانة لا تُكسبه غيرها من الألفاظ العادية السهلة؛ شريطة أن تُستعمل في موضعها الصحيح.. وكثيرٌ من ألفاظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف خير شاهد وأجلى مثال.
٣-"التحذلق" كما يسميه البعض ليس تهمةً حتى نطالب الناس باجتنابها.. ويكون عيبًا وثقلًا وسماجة فقط حين يتكلّفه الأديب ويستعرض به كأنما يتحدى أن يفهم كلامه الناس أو كأنما يغطي به عَوار أدبه وهشاشة فكرته وضحالة خياله.. أما غير ذلك فهو أرضٌ شاسعة وطرائق عديدة يتخير الأديب أن يسير منها ما يوافق مزاجه وطبعه، إن شاء بأسلوب تراثي أو بأسلوب عصري..
إن دعوات تيسير اللغة لا تضر اللغة وحدها أو تمس نوعًا من الأدب بعينه؛ بل هي كذلك تضرّ الأدب حيث تجعله شكلًا واحدًا لا تمايز فيه أو اختلاف، ولا تنافس فيه أو سباق.. ومن قال أن الكتاب المميز ينبغي أن يقرأه ويفهمه كلّ أحد ؟! بل هناك كتبٌ للعامّة، وكتبٌ للخاصّة، وكتبٌ لخاصّة الخاصّة، وكتبٌ لهؤلاء جميعًا، ولا يعني هذا التقسيم رفع طبقة على أخرى واستعلائها عليها، بل قد يعني أن تجتهد العامّة في قراءة كتب الخاصّة حتى تفهمها وتصبح بعد زمنٍ قادرة على قراءتها بسهولة إن أرادت.. ولولا دفع الناس بعضهم لبعضٍ في الأدب لانقضَت مواهب ولاندثرت مفاخر، وما قامت حصونٌ ولا نهضتْ أسوار ولا زُخرفت قصور!
٤- الخاسر الأكبر من تسهيل اللغة لعوام الناس هو هذه اللغة نفسها وأهلها وتاريخها وثقافتها وحضارتها! ؛ إن عجْز الناس عن قراءة كتب تراثهم يعني قطعهم عن تاريخهم وشريان هويّتهم ووجودهم! لطالما كان الإرث الأدبي والفكري والعلمي لأمة من الأمم ثروةً عظيمة تتفاخر الأمم فيما بينها بها، فكيف بإرث زاخر وكنز ثمين كاللغة العربية والتراث الإسلامي؟! وإن لم يستطِع أهل الأمة نفسها أن يفهموا تراثهم فإنه قد يضيع ويندثر غير عابئٍ به أحد، أو سيتبرّع بهذا الأمر غيرُهم حين يدركوا عظمته وحاجة الإنسانية إليه؛ كالمستشرقون وغيرهم، وإذا أُسند الأمر إلى غير أهله؛ فإنك واجدٌ فيه غضاضةً لا محالة!
٥- لطالما كانت كُتب التراث في الأدب والتاريخ وغيرها من أهم المكونات الأدبية والمعرفية لأدبائنا حتى عصرنا الحاضر؛ فلا ترى أديبًا فارعًا يشار له بالبنان إلا ولشعر المعلّقات وكتب التراث نصيبٌ في قراءاته وأثرٌ في أدبه، حتى النصارى منهم؛ كجبران خليل جبران وبشارة الخوري ومارون عبود، بل إن النصارى العرب أنفسهم كان لهم اهتمام خاص بالتراث العربي والإسلامي ومساهمات كبرى فيه، لما عرفوا من أهميته وفضله على اللسان والبيان؛ كناصيف اليازجي وغيره، فهل ترى في كتب هؤلاء تعقيدًا أو اعتياصًا لا يُفهم ؟ بل كان أدبهم في غالبه سهلًا ممتنعًا ممتعُا يُضمّن بشيء من الكلام الفصيح الغريب الذي لا يزيده إلا قوةً وجزالةً واستواءً، فهل منعت القراءةُ في كتب التراث هؤلاء الأدباء من أن يخاطبوا الناس بلغةٍ متوسطة لا تنزل إلى السهل المباشر ولا تصعد إلى الغريب الغامض؟ لقد أثبت هؤلاء الأدباء وغيرهم أنه الجمع بين الأمرين ممكن، وأن القراءة في التراث أمرٌ لا غنى عنه لأديبٍ فصيح قويم.
٦-الواقعية هي فحوى دعوى هؤلاء، فهم يدْعون إلى التعبير بلغة يفهمها الناس ويتداولونها فيما بينهم وفي مصادر التأثير لديهم؛ كالإعلام والمناهج الدراسية وغيرها، لكن العلّامة د.محمود الطناحي يوضح لهؤلاء وغيرهم أن "للّغة جانبًا تاريخيًا يجب الحرص عليه ومعرفته، ثم إن اللغة ممتدة مع أصحابها لا تموت ولا تفنى، وليست اللغة للتفاهم وقضاء المصالح فقط، وإلا لكان القدر اللازم لنا منها محدودًا جدًا..."(مقالات محمود الطناحي، دار البشائر الإسلامية، ط3، ص284)؛ فاللغة هي الأفكار والمعاني الغير محدودة، هي الثقافة والإرث اللغوي والحضاري الذي تشكّل ولا يزال يتشكّل منذ مئات السنين، هي الهويّة الممتدة منذ القدم؛ فبخسٌ لهذه اللغة وظلمٌ لأنفسنا وملَكَتنا اللغوية ومخزوننا الثقافي أن نقص هذا الخيط الطويل من نهايته فلا نبقي لنا منه إلا الطرَف والذَيل!
٧- الغالب على هؤلاء أنهم في الوقت الذي يشجعون فيه تيسير اللغة ويستهجنون الأدب الجاهلي والمعلّقات والغريب من الألفاظ؛ يُشجّعون على قراءة الأدب المترجم والروايات الكلاسيكية الأجنبية والانفتاح على ثقافة الآخر ! أوَليس أدب أُمّتهم وتراثها أحق بالقراءة وأنفع وأجدى ؟! أوَليس الانفتاح على تاريخهم ودراسته أولى وأليَق؟! وإن كان حجتهم صعوبة القراءة في التراث العربي وسهولتها في الأدب المترجم إذ يُترجم الكلام من لغته الأصلية إلى لغة عربية سهلة فقد أوقعوا أنفسهم في تناقضٍ لا واعي ! فالمترجم يترجم، أي ينقل معنى الكلمة إلى لغة أخرى، وكذلك الغريب من العربية يحتاج القارئ معه إلى الرجوع للمعجم وقراءة معناه بكلمات أقرب؛ أي أن مضمون الفعل هو نفسه في الحالتين: وهو النقل والتحويل، مع فارق أن من يقوم بالترجمة هو المترجم وليس القارئ، والذي يقوم بالرجوع للمعاجم في غريب الكلمات هو القارئ نفسه، أي أن هذا التناقض اللاواعي الذي وقع فيه هؤلاء يدل على أمرين: إما أنهم كسالى ذهنيًا لا يطيقون البحث في المعجم والتعرف على معنى الكلمة، أو أنهم تبهرهم الثقافة الغربية وأجواؤها وآدابها وأساليبها ويَروْن فيها غناءً معرفيًا عن تراث أُمّتهم؛ وكالذي ترك بيتَ أهله قبل أوانه وراح يسكن في بيت غرباء آخرين، وحين سُئل عن ذلك راح ينتقص من بيت أهله ويمدح بيت الغريب بأنه أوسع وأرحب ويقدّمون له فيه مآكل ومشارب ألذّ وأطيب؛ يُخفّف هؤلاء من تقريع ضمائرهم بأن يلمزوا تراث أُمتهم بالغرابة والتعقيد ! العجيب أن بعضهم لا يستنكفُ عن تعلم لغة أجنبية لحاجة أو لغير حاجة ويكابد في ذلك أضعاف ما يكابد في قراءة التراث، ثم إذا قرأ في التراث الذي هو لغةٌ من جنس لغته ونظمٌ من جنس نظمه راح يتأفف ويتضجّر من كلمات يستطيع تخمين معناها لو امتلك طبعًا عربيًا فصيحًا وحسًا تعبيريًا وأدبيًا! ولكنه الاستلاب الثقافي والكَسَل الفكري والمعرفي! 
٨- النقطة السابعة والأخيرة والمهمة، والتي أجّلت الحديث عنها إلى النهاية لأنها تحصيل للحاصل قبلها، أو هي الحاصلُ نفسه؛ أن تيسير اللغة يضر بقراءتنا للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وفهمهما، فالقرآن أُنزل بلسان عربي مبين وتحدّى قريشًا والجاهليين بفصاحته وبيانه؛ فهو بطبيعة الحال يحتوي على كلمات صعبة وغريبة بالنسبة للغة عصرنا، وكذلك الأحاديث، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح العرب؛ فكيف سنقرأ الوحي ونفهمه إذا كنا تعوّدنا ألا نقرأ إلا كلامًا يشبه كلامنا.. كلماتٌ ميسّرة ومعانٍ قريبة؟ سنقرأ القرآن قراءة لا تجاوز حناجرنا.. نمرّ على آياته مرورًا بلا حرصٍ على تعلم معانيها وتفسيرها.. سنقرؤه لأجل القراءة ونوالِ أجرها فحسب؛ بلا تفكّر فعلي وتدبّر مثمر، بلا مدارسةٍ لأفصح بيان وأجلى لسان ذلك الذي سحرَ قريشًا وفصحاء العرب حتى اعترف قائلهم فقال عنه ":إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته"؛ لم يُنزّل الله في كتابه الآية الكريمة: ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ﴾ لكي نقرأها فحسب، أو لكي نفاخر بها فحسب؛ بل لكي تستفزّ فينا الرغبة بمدارسةِ هذه اللغة وسُبل الإبانة فيها لكي نعلم لماذا حظَيتْ وشُرّفتْ أن يُنزّل كتاب الله العزيز بها .. وكيف جلّاها هذا الكتاب وأنصعَ بيانها فيه، ويكفيك أهميةً للمعلّقات وكلام العرب عمومًا أنه لا بد للمفسّر من معرفته والرجوع إليه في تفسير الكتاب العزيز؛ قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالمًا بلغات العرب".
وكذلك الأمر بالنسبة للحديث النبوي، وإذا كان بعضنا يولي عناية خاصة بالقرآن لأنه كلام الله ويحرص على دوام قراءته وتتبع بعض تفسيره ومعانيه، فإنه لا يولي تلك الرعاية لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه يعتبر القرآن يكفي ويُغني، وهذا غير صحيح؛ فالحديث بالنسبة للقرآن ثاني اثنين، والعناية به مؤكّدة.. وكم يحزّ في الخاطر أن بعضنا يتعثّر في قراءة حديث من أحاديث النبي المشهورة ولا يعرف معناه، ولو عُرض هذا الحديث على صبي من صبيان السلف ومن بعدهم قديمًا لقرأه سلسًا سهلًا ولفسّره لك تفسيرًا مبينًا ! 
إن ضعف اهتمامنا بلُغتنا نشأ أولًا من بعدنا عن ديننا ومصادر شريعتنا، وهو أيضًا ناشئٌ عن استلاب غيرنا لنا وانصرافنا عن طريقة أجدادنا وتراث أمتنا؛ فأدى ذلك أيضًا لتهاوننا في تعلم كلام ربنا وحديث نبينا.. وهذا والله أخطر ما يمكن أن تؤول إليه دعوات تيسير اللغة وتقريبها. 

وأختم حديثي بما رويَ أن رجلًا قال للشاعر أبي تمّام: "يا أبا تمّام، لم تقول من الشعر ما لا يُفهم؟" فقال له: "وأنت لم لا تَفهم من الشِعر ما يُقال؟!" ورويَ عن رجلٍ أنه أنشد شعرًا فاستغربه الناس، فقال لهم: "والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غُرباء!"
هذه النقاط ليست تكليفًا للناس بما لا يطيقون أو تحكّمًا في قراءاتهم وأساليب كتاباتهم؛ بل صدحًا بالحقيقة، ووزنًا للأمور بالقسطاس المستقيم، وعرضًا للقول الآخر، ثم الناس بعد ذلك أحرارٌ فيما يقرّرونه.. فمن شاء أخذ، ومن شاء ترَك؛ ومع هذا فإن معراج الحق واحد، ولن يضرّه أن لم يتصعّد فيه الناس !