الأحد، 21 مارس 2021

انبعاثي الأول

يخيل لي أن الكتابة الأدبية خُلقت لي؛ فحين كان لكل أحد وجهةٌ هو مولّيها كانت هي وجهتي وغايتي التي هديتُ لها وجعلت لي، وأني مهما يمّمت وجهي في المناحي وظننتُ أن في الأرض مُراغمًا كثيرًا وسعة لا أزال أُكتب ضائعًا وأُحسب في عداد المفقودين؛ فمن يُخرج من بيته فهو طريد، ومن يأوي إلى غير حماه فهو لاجئ، ومن يسكن بيت غيره فهو مغتصب وإن قزّحه وزيّنه واستبدل فيه جديدًا بقديم.

هناك عند باب غايتي سادنٌ يسأل عن موعد قدومي كل مرة، يحصي الأيام والساعات حتى أعود، يتفقدني دائمًا ويسأل عني في الطرقات والفيافي والسهول المجاورة، ويجدني أحيانًا منهكةً شعثاء غبراء هائمةً على وجهي أكاد أسقط من التعب.. فيملأ قربتي من الماء، ويهذب شعري ويمسح على وجهي بيديه المباركتين فتسري في جسدي رعشةٌ تعقبها يقظة، فيظل يحدثني حديثًا كحديث الأوائل فيه قبس من نور السماء يذكرني فيه بالأمر القديم لا يبلى، وبالماضي ساريًا لن ينتهي، وبالذكرى حادثةً تتجدد، وبالحلم عتيدًا في المنام واليقظة.. يذكرني بفطرتي وانبعاثي الأول، بالأدب معجونًا في تُربتي متشكلًا في ملامحي منفوخًا في روحي.. بصفوةٍ منه رُزقتها وبسطةٍ منه أُعطيتها.. أقبضها حتى كأني أمسك كل شيء، وأُرسلها حتى كأني أذرو كل شيء هباءً منثورًا تبعثره وتبعثرني الرياح معه في كل واد.. فمالي بدّلتُ وتبدّلتُ حتى كدتُ أمسخ نفسي؟! ماذا ارتضيتُ غير الأدب حتى أعرضتُ عنه؟ ارتضيت؟! نعم ارتضيتُ! لا يصلح في هذا المقام إلا الرضا! فمن اختار وطنًا آخر عن وطنه لن يطير إليه إلا بجناح الرضا والاطمئنان، وإلا لما اختار عن وطنه بديلًا! نعم لقد ارتضيتُ عن الأدب شبيهًا ونديمًا آخر لا يمكن أن يكون هو..ارتضيتُ عنه مواضيع فكرية أو معرفية، رأيتها أنضج منه ثمرة وأنجع منه فائدة فخلعت عليها خاصّة وقتي وأرويتها ماء عقلي وفكري.. ولكن أين الفكرة من الخطرة؟ وأين الحقيقة من المجاز؟ وأين العبارة من الإشارة؟ وأين الضجيج المزدحم من المخدع الهادئ اللّين؟ وأين الصخور وعرةً من السهْل الوطيء؟ وأين العصافير صادحةً تتجاوب بالتغريد من الأزهار صامتةً تتراسل بالأريج؟ أين النفس يتكشف بعضها للآخر وكأن الأحرف تتراصّ كجيش عنيد يسقط أسوار النفس ويفتح الطريق للقلم حمًى مستباحًا يفعل به ما يشاء ؟ 


"ابنتي -قال لي السادن- : الأدب طيرٌ من السماء لا يحط إلا على الغصن البهيّ المورق، وذاك غصنك أنتِ .. الأدب روحٌ في الفضاء لا تراها إلا الأرواح اللطيفة الشفافة، وكذلك روحكِ أنتِ .. 

فحذارِ أن تُقذف في الماء كراتُ الطين، وحذارِ أن تجرف القاصدَ حشودُ المُدبرين، وحذارِ أن يرتدي المرء ثوب غيره وإن كان أبهى من ثوبه، وحذارِ أن تُشغل الشجرةُ بأمرِ الوردة، وأن يحدق الحمام في النحل متمنيًّا تذوق الزهرة.. يا ابنتي؛ أنتِ هناك.. رُفعت المحاريب وأذّن مؤذن الروح وانتصبَتْ الأقلام واصطفت المعاني وقامت صلاة الأدب" وأشار إلى الأدب حيثُ غايتي.. ومضى عائدًا نحوه.

أما أنا فظللتُ أحدّق فيه شاردةً حتى توارى.. ثم انتبهت فجأة وأكببتُ على آثار قدميه أحفرها بعمق حتى لا تمحوها الريح بسهولة.. فأضيع!

السبت، 6 مارس 2021

إن شأنكنّ عظيم!



 لو أن ملكًا أرهب البلدان وأخضع الملوك وأكل جيشُه جيوشَ الأرض مجتمعة وأهلك الحرث والنسل وشَكَت منه الأرض وضاقت السماء، وحتى في خاصّته وأهله هو الفزع المهول والشر المستطير.. يبتعد عنه كل من مرّ بجنبه رعبًا كأنه ملَك الموت، وإذا أمرَ أمرًا طار الجميع لتنفيذه كما تطير الغزلان هربًا من زئير الأسد، وإذا نهض من عرشه انتصبوا جميعًا كانتصاب الأعمدة لا تسمع لهم ركزًا.. هذا إن كانوا يجلسون قبلها! لو أن ملكًا كذلك لَحلَف كل من سمع به أن هذا لا يخضعه شيء إلا المرض المقعد أو الموت.. ولكن لا.. وُجدت ملوكٌ وعتاةٌ مثله وكان من أخضعهم كائنٌ لطيف روّضهم كما تُراض الوحوش؛ كائنٌ ليس له سلاحٌ أو قوة إلا نعومةٌ هي أحَدّ من السِنان، ورنينُ حُليٍّ هو أفتك من صلصلة السيوف، ودَلٌّ هو أقوى من ألف إقناع، وتمايلٌ  هو أخدر في الرأس من سِنةِ الوسنان، وشفتان كالثمرة النضرة في البستان، وصوتٌ وهمسٌ كطعم النغمة الحالمة لدى العاشق الطربان.. إنه المرأة.. المرأة المعشوقة؛ التي بلغت من سحرها وجلالها أن أخضعت الصخر وفجّرت منه الأنهار؛ واسألوا هنري الثامن ما الذي أحدثته في قلبه ومملكته آن بولين، واسألوا كيف عقلَت شهرزاد جنون شهريار وسكّنت شرره، واسألوا عابدًا زاهدًا متحصنًا في صومعته محكمًا إغلاقًا عليه أبوابها وأبواب نفسه.. فارًّا إلى أغلال خشيته وتقواه كيف خرقت تلك الحُجب وأزلّته من ذرى التقوى إلى قاع الرذيلة مليحةٌ في خمارٍ أسود، واسألوا الملوك والسلاطين كيف تسلّلت نساءٌ وجواري إلى مستودعات سرّهم ومعاقل رأيهم التي لا يجرؤ على الولوج فيها أحد.. فصرن شريكات حكمهم ووزيراتهنّ المحجوبات اللاتي يُصدر عن رأيهن ويُسمع كلامهن! والسلطانة هورم والسلطانة كوسيم مثالٌ لا حصر ! 

وربما لا تكون تلك المرأة أجمل النساء وأحسنهن.. قد يكون غيرها أجمل منها، ولكن اجتمع فيها من الأنوثة ما فاض عنها وغمر الرجل الذي عشقها، والأنوثة سرٌّ يختلف كنهه من امرأة لأخرى، ويدرك أمره كلُّ رجلٍ وقع في روعه ومضٌ منه، والجمال بعضٌ من الأنوثة وليس كلّها.. إنها قوة المرأة وجبروتها الذي تعمى عنه أعين الرجال وتدركه قلوبهم حين يمسّها طائفٌ منه! خدَعهم منها رقّة طبعها ولين جلدها فصوّروها ذلك الكائن الضعيف الذي يحتمي بأكتاف الرجل، ولكنها القوية جدًا للحد الذي تخضع فيه أقوى رجل بلا سهم أو سيف :"مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ" ويستعمل كثير من الجهلة عبارته -صلى الله عليه وسلم- : "ناقصات عقل ودين" لتحقير المرأة وإرخاصها، ففضلًا عن أنهم لم يحفظوا من الحديث كله إلا هذه العبارة ولم يطّلعوا على بقية كلامه -صلى الله عليه وسلم- فإن فيها شهادة قوتها لو فقهوا! فانظر مقدار تعجبه -صلى الله عليه وسلم- في قوله :"ما رأيت!" ثم تبيينه ذلك باجتماع النقيضين اللذين هما عُنصرا كلِّ عجَب؛ وهما هنا : النقص والقوة، فحين التقيا غلب النقص القوة! فانظر كيف طارت الرجولة شعاعًا بحضور امرأة! 


وليست قوّة المرأة محصورة باستوفازها قلوب الرجال واقتيادها لهم بجمالها وفتنتها؛ بل تكون أيضًا بحصافتها وحسن رأيها وتدبيرها كما هو الرجل، بل تزيد قوتها بذلك وتصبح لفتنتها وأنوثتها أنيابًا يُخشى منها أو يُستسلمُ لها، ويصبح لرأيها اعتبارًا عند اثنين: المقسط من الرجال، أو المحب المستهام؛ بل يصبح لرأيها سلطانًا عند المحب المستهام أقوى من رأي الرجال مجتمعين! أما غيرهما من الرجال فينكر تلك القوة والحكمة ويصرّ أن يردّها إلى ضعفها وسفهها الذي يتصوره ويراه؛ وكأن المرأة عندهم لا تصبح إنسانًا إلا إذا كانت محبوبة، ففتنتها وتأثيرها هو انعكاس قلوبهم عليها، لا انعكاسها هي عليهم! ولو لم يشهد القرآن لبلقيس لرأوا أنها أخطأت وأصاب من حولها من الرجال! 

والمرأة التي لا تفهم من الأنوثة إلا الضعف الخانع والغَنَج السمج والخواء المائع فهي وإن اصطبغت بألف لون 

وتلمّعت بالأساور والحُليّ لم تكن زينتها إلا أصوات الشهوة ونداءات اللذة؛ ثم ماذا؟ كالحيوان يُمضغ لحمه ويُهضم.


لا.. ليست هذه الكلمات فتنة وتزيينًا.. أو إعلان حرب بين الرجال والنساء؛ بل تذكيرٌ للمرأة أن تميس اعتزًازًا بسحرها وسلطان أنوثتها ويشرّئب عنقها فخرًا وكبرياءً، أن تطيف حول طبيعتها كأنما هي معجزة تُقدّس وتُعظَّم.. كائنٌ يخضع كائنًا آخر يظن أنه الأقوى -ليس من المرأة فقط ولكن ربما من الكائنات كلهم- ألا يحق لها بأن تفخر بإركاعه؟! ولا عيب أن يقال بأن المرأة تؤدي وظيفتها إذ تستميل الرجل لسلطانها.. وهل تُعاب الحاجات والغرائز في لغة الطبيعة ؟ وهل يُسأل لمَ تسعى النمل أو هل تُلام على طيرانها الفراشة؟ ومن الذي يقول للطرف الكحيل اقصُر ولا تنظر؟ وهل تلامُ الحاجة أو يُلقم فمُ الشوق بحجر؟! وهل يُقال للفنّ اعجب بنفسك ودُر حولها، لا تسأل غيرك عنك، يكفيك أنت منك!

سعي المرأة للرجل وسعيه لها تفريغ للطبيعة مهما جحدت الجاحدات أو شمخت المتكبرات! المرأة قوية بأنوثتها، عزيزة بسحرها.. ولكن كل ذلك يتقوّض إن ظنّت أنه لوحدها؛ المرأة نبات مرتفع وارفٌ مستغنٍ بنفسه يُسمّى لوحده: شجرة، وهي بانتمائها لحضن أوسع حولها تتناغم به وتنسجم معه يسمّيان: طبيعة، ولا وجود للشجرة إن لم توجد الطبيعة، ولا تمام للطبيعة إن لم توجد الشجرة.


وليست العلاقة بين المرأة والرجل علاقة مفاضلة تؤدى بالميزان فمن رجح فهو الأفضل وغيره هو المفضول، كيف وهما لا يجتمعان حتى يفترقان ولا يفترقان حتى يجتمعان .. فكيف يُحكم بينهم؟!.. كوكبان تولّدا عن سماء واحدة؛ شمسٌ لا ينبغي لها أن تدرك القمر، أو ليلٌ لا يسبق النهار.. جمعتهما الإنسانية وفرّقتهما خواص وطباع شتى تؤلف كل منها نظامًا مختلفًا عن الآخر.. فمتى يُدرك أن المرأة نظام مختلف قد تنقلب فيه المعاني وتتضاد عن التي عند الرجل! فضعفها كما يسميه الرجال هو في نظامها قوة! ولا أدلّ على ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم "فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ،"؛ فانظر إلى عبارته :"فإن ذهبتَ تُقيمه كسرته" فأنت أيها الرجل لا تستطيع أن تحوّر هذا "الضعف" لـ"قوة" كما تفهمها أنت، دعِ الاعوجاج وشأنه.. فهو قادرٌ رغم انحنائه على إخضاعك! واتركي أيتها الجاحدة ذلك الضعف وشأنه، ولا تحاولي إلباسه ثيابًا تُخفي حدَبه وانحناءه، واقطعي إن شئتِ كل سبيل وتفرّقي في كل واد حتى تبلغي قوة الرجل، ستدركين لاحقًا أن غايتك في مبتدئكِ؛ عند الفطرة التي ضيعتِها! 

اللافت أن هذين المتناحرين من الجنسين تجد أن كلًّا منهما قد أغلق عليه نفسه وقُلبت عيناه إلى الداخل فلا تنظر إلا إليه وطُبّقت يداه على خاصرته كهيئة المستكبر المتحدّي.. فلسان أحواله كلها يقول: "وماذا لي؟ وما لي أنا؟!" .. ولو أنهما فتحا باب نفسيهما وأهرقا من دلوِ قلبيهما صبابة تمتزج بصبابة الآخر لطأطأت الريح ولأوْرق الشوك وصارا لبعضيهما سكنًا ومودة ورحمة؛ ومن وُفِّق في علاقته وذاق طعم الاستقرار الزوجي والعاطفي عرَف حلاوة الآخر وأنه لا غنى عنه، ورأى دعوات التفرّد والتمرّد الفجّة ضلالًا وتحريش شياطين، أما المتطوّح المهتز فتارةً سيلعن الرياح لأنها تحرّكه وتارة سيشتم الطين الواقف عليه لأنه يُزلقه وتارة يسبّ الذباب الذي يحوم عليه لأنه يُشتّته وتارةً سيلعن أهل الأرض وتارة سيناكف الفطرة وتارة سيغاضب السماء و....


تسب الجاهلةُ الرجال وتلعن الأعراف والمجتمع والقانون ثم هي تتبعهم في كل طريق وتطلع لهم في كل ناحية وتطلب المساواة معهم في كل أمر ثم تسمي نفسها خداعًا "نسوية"! استقلالٌ ليس سوى اسم.. وتفرّدٌ هو المجاز لا الحقيقة! فلتتمثل النسوية إذن كنظام متميز لوحده..يتبع صوت أنوثته وفطرته.. وينظر أمامه فقط حيث طريقه ووجهته ولا يتلفّت إلى غيره!: 

"ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"