الجمعة، 1 أبريل 2022

رمضان .. شهري الأثير

 رمضان 1442 هـ:

رمضان.. ما رمضان ؟ نسمة باردة في حر الزمان، وتنهيدة الراحة للاهث النصبان، ورؤيا بشرى وسلام في منام المهموم الحيران؛ ما السر في رمضان؟ ما الذي جعله دوحة الأيام وقرارها والمَعين؟ بالطبع لأنه شهر الرحمات والغفران والقرآن وليلة القدر والعتق من النيران، بالطبع لأنه "رمضان"؛ قدسية الاسم ونَفَثه النوراني يجيبانك، ولكن ماذا أكثر؟ ما الذي لامسه فيّ رمضان وأثاره في نفسي حتى يكون روحًا من أيامي؟ ما الذي جعلني فيه وكأني في مرقاة تطلع روحي بها إلى السماوات وأرى منها كل مرة ملكوتًا جديدًا؟ ما الذي جعلني فيه كالمحدّق في النجوم في ليلة صافية منيرة عليلة؛ سلامًا وسكونًا واستغراقًا؟ ما الذي جعل هذا الشعور يلازمني حتى كأنه وسم رمضان وحضوره؟! لأعد إلى رمضان ولأتأمل كيف عشته وما الفارق بينه وبين شهور عامي الأخرى: أظن أن أول ما يميز رمضان عن غيره، وهو مميّز مهمٌ وجوهريٌّ فيه: أني أتخفف من برامج التواصل قدر استطاعتي: أحذف تويتر، وأقلل من دخول السنابشات والانستقرام، إلى مرتين أو ثلاثًا كحد أقصى، هذا التخفف يزيح غُثاءً عن دماغي ويهب لي صفاء تفكير واستخدامًا للعقل فيما يفيد وينمي، والأهم أنه يجعلني أكثر حضورًا في العبادات ويهذّب وقتي، رمضان ليس شهر عبادة بالمعنى الشعائري والطقوسي فحسب، بل هو زكاة للنفس.. توجيه لها للأعلى والأسمى، اختبار لها في التخلي عن عوالق الدنيا وفضولها، ووسائل التواصل من أكبر جوالب التشتت والغفلة عن الوقت، وكما يقولون: التخلية قبل التحلية؛ أي أنك إن أردت أن تتزكى فأزِح عن طريقك ما يعيقك لكي تستطيع أن تعبر وتمضي، وهذا بالضبط مع وسائل التواصل وباقي المشتتات، أما التلفاز فلست من أهله ولله الحمد، ثم نأتي إلى التحلية وهي كثيرة في هذا الشهر؛ وأبهاها وأغلاها: كتاب الله جل وعلا، وأي شعاعٍ تضيء به جنبات نفسك كالقرآن.. بل أي شمس؟! تقرأ وتقرأ فتتوهج أكثر.. تتوهج، حتى تتشبع من هذه المعاني الدرّيّة، لتصبح أنت شمسًا تلقي على الموجودات أنوارها، فلا تبالي أأظلم الكون من حولك أم أصبح.. وبحسب نهلك من القرآن وقراءته قراءةً مستشعرة؛ بحسب وجود رمضان فيك، رمضان= القرآن، فلا تبحث كثيرًا عن رمضان في غيره! وما سكينة رمضان ووضاءته إلا من كثرة التالين لكتاب الله فيه من مصاحفهم أو من على مآذن تروايحهم، ثم تُدبِر هذه السكينة بحسب إدبار الناس عنه في بقية الشهور! أشعر أني أسمو مع القرآن سموًا حقيقيًا.. فالقرآن يوقظ في النفس الحقائقَ الكونية والإنسانية التي غفلت عنها أو جهلتها، يعيد ترتيبها لتكون نفسًا فاعلة.. ثمة فرق بين أن ترتفع بعقلك  ويكون محور أفكاره معانٍ مثل: الكون والعالم، الحق والباطل، الخير والشر، الإيمان والكفر، التوحيد والشرك، الأخلاق والأحكام والحدود.. وبين أن تكون سادرًا في ماجريات الحياة والعيش ضائعًا في دهاليزها الملتوية! هذا حقًا ما فعله إقبالي على القرآن في رمضان، وكأني كنتُ نبتةً صغيرة أو حشيشة من الحشائش تحسب أن الحياة لا تجاوز طول عودها، ثم يأتي القرآن وكأنه عاصفة ضخمة أو سحاب كوني هائل يجتاحها ويغشّي ما حولها فلا يبقى في الآفاق إلا صورته وصوته ويختفي ما دونه فيه: "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا" القرآن يحشدك بقوة نحو هذه الحقيقة! 
القرآن وصلاة التراويح والتحرز عن الحرام والحرص على الطاعة في رمضان علمتني درسًا مهمًا كنت أسمع به وأتحققه أحيانًا، ولكني هذه المرة تيقّنته حقّ اليقين؛ ألا وهو : أن السكينة والسعادة الصافية والراحة المجلوّة هو في القرب من الله تعالى، وأنه جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة: "من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة" صدق الله! لا أدري لِمَ نعرف هذه الحقيقة جيدًا ثم نخادع عنها ونختلق اللهو والأعذار التي تصرفنا عنها ثم نشكو الهم والغم وعسر الحال:
إبليس والدنيا ونفسي والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي؟! *

اللهم عونك والثبات.
وماذا أيضًا؟ ماذا عن الترويح؟ كيف أروّح عن نفسي في هذا الشهر؟ في الأثر :"روّحوا القلوب ساعة بعد ساعة؛ فإنها إذا ملّت كلّت وإذا كلّت عميت" حتى ترويحي في هذا الشهر كان زاكيًا وساميًا، كنت قبل رمضان أرفّه عن نفسي غالبًا بمشاهدة السنابشات أو الانستقرام أو حلقة من مسلسل أو أي شيء مما يدور في باب "اللهو" غالبًا، لكن في رمضان كنت أود تجريب نفسي في ترويح من نوعٍ آخر.. ترويح ثقافي وفكري أكثر.. فكنت أشاهد في اليوتيوب أو أقرأ مقالات من هذا النوع.. وأحيانًا تتسلل نفسي وتأبى إلا أن تعود إلى عادتها القديمة في مشاهدة اللهو والتسلية، ولكن في المحصلة أحسب أني نجحت في اختبار نفسي في الترويح الآخر.
وماذا بعد ؟ ماذا بعد التمام إلا النقصان؟ كنت أرى التقويم وأرى أرقامه تزيد لتنقص، وتكبر لتفنى؛ فلو كان لي أن أعلّق تلك اللحظات لأعيش فيها ما حييتُ لفعلت، ولو كان لي أن أصوغ نفسي من بلّور ذلك المعنى الجليل ونورِه فأعيش به ما بقي من عمري لفعلت..

فأين أنا من ليالٍ يُذرى عليّ فيها ضوء القمر، يهدهد روحي نسيمٌ عليل، وتناجيني فيها النجوم، وينقلب سواد الليل فيها إلى عمق وأغوار وأسرار تحتضني بهمساتها وحقائقها .. تُريني ملكوت السماوات والأرض في أرجائها، وملكوت المعنى في قرآنها، وملكوت نفسي في إيمانها.. فأين أنا منها إلا أن يكون الزمان رمضان!