السبت، 12 فبراير 2022

أدب بلا أدباء!


 

كنتُ أتصفح الانستقرام فشاهدتُ قصة فُلانة التي عُرفت بثقافة وقلمٍ جميل تابعتها لأجلهما؛ فإذا هي غير التي عرفتها منذ سنوات وقد تغيّرت اهتماماتها كثيرًا؛ أصبحت من المفتونين بالقهوة ومريدي المقاهي والمطاعم.. لا يكاد يمر يومان إلا وتراها في مقهى أو تستعرض إعلانًا لقهوة أو لباسٍ أو حذاء أو تحف أو هدايا، ليس هذا فقط بل أصبحت من زوّار الفعاليات المتنوعة التي لا نسب بينها وبين الثقافة والأدب لا من قريب ولا بعيد؛ والتي لو زار إحداها الطنطاوي أو المنفلوطي لَخرَج وقد تعكّرت روحه وفسدت نفسه ولبث أيامًا يحاول استعادة عافية أدبه وقلمه! مما جعلني أتساءل عن الفارق بين صاحبتنا ومشاهير السنابشات جوّالي الشوارع والأماكن المزدحمة سوى أنها تكتب أحيانًا من بقايا أدبها القديم نصوصًا اختلط فصيحها بعامّيّها قصدًا لا عَرَضًا! 

أسلوب حياة صاحبتنا هذا منتشر للأسف بين بعض الأدباء الشباب هذه الأيام ممن خطفتهم أمواج الصخب والترفيه، بل إني -ولا أزكّي نفسي- أجده في نفسي فترات غير قادرةٍ على استلال نفسي من قشّه! وأظن أن انتقالي للسكن في الرياض بعد الزواج سببًا في هذا؛ انبهارًا بأضواء هذه المدينة الصاخبة وتطبيعًا منها لي! مما جعلني أخاطب واعظًا أدبيًا رسمته في خيالي يطوف على الأدباء يعلّمهم ويزكّيهم، فقلت له أبثّه وأشكوه:

يا واعظ الأدب.. ومُعرِق النَسَب، وحكيم الخُطب ! شرٌّ قد اقترب، يريد أدب العرَب، فأدركنا كي لا نُصَبْ .. واقطع منّا رأسه والذَنَب!

يا واعظ الأدب: جِد لي أديبًا لم تقتلعه رياح اللهو والاستهلاك، لم يفسده المال ولم يسيّل لعابه الانفتاح، لم يهرعه إيقاع الحداثة المتسارع عن شعوره ولم يُصعّده الصخب عن أعماقه.. جِد لي أديبًا لم تدمن أذناه "البودكاست" والمسموعات ولم يفكّر أنها تغنيه عن كتاب، أديبًا يجد دفئه بين أحضان الكتب وتجذبه رائحة الورق .. جِد لي أديبًا لا ترهبه الوحدة ولا يوحشه الخلاء؛ بل يزعجه الضجيج  ويختنق من الامتلاء، أديبًا لا يفزع من وحشته إلى هاتفه أو إلى أفلامه ومسلسلاته، بل يهرع إلى قلمه أو كتابه؛ يرى في هدأة الأفكار منفذًا إلى فضاءات وآماد.. جِد لي أديبًا لم تشكّله أدبيّات وسائل التواصل ولم تنخر أسلوبه سوستُها، أديبًا يحيك حرفه بالفصيح الجزل ويصوّر معناه بالبليغ الفَصْل، أديبًا لم تقصّر يده مساحة التغريدات، بل لا تزال ممتدة للمطوّلات؛ تكتب المقال ذي الثلاث والأربع والخمس صفحات لا تسأم..
جِد لي أديبًا ليّنًا سهلًا يطوّعه الشعور ويثنيه المعنى وتحيّره الأفكار والأسرار ويصادق الطبيعةَ؛ جمّ الحياة والروح، أديبًا غير مدجّجٍ بمطامح "البزنس" والثروة الشخصية واللهث المالي والقوة والاستقلال.. جِد لي أديبًا لا تذهله عناوين العصر كـ"البحث عن الذات" و"تقدير الذات" و"البحث عن المعنى" و"الشغف" وغيرها ولم تداخل كتاباته سفاهاتها، أديبًا المبدأُ الراسخُ حكمتُه والدين هالَتُه والمعنى السَنيُّ وجهته..

يا واعظ الأدب؛ أنا لا أُعجِزُ الأدباء بالقديم ولا أسدّ عليهم منافذ الجديد؛ أنا لا أطالبهم بفكرة لازمة ولا صورة واحدة، أنا أريد أديبًا يحفظ للأدب سمته وحدوده، أديبًا إن قال الناس من الأديب؟ قيل: هو ذاك؛ فصدّقوا غير مكذّبين !