الثلاثاء، 24 مارس 2020

"خذني لأندلـسِ الغيـاب"

أنعم الله عليّ هذا العام بزيارة دولة كم حلمت بزيارتها: أسبانيـا/الأندلـس.. جنة المسلمين المفقودة، وللنفس فيما تشتاقه من أماكن عجائب وغرائب؛ حتى أنها تنفق الأموال الغالية، وتقطع القفار الشاسعة والبلاد العديدة، وتضني جسمها وتقض راحتها لأجل رؤية طلولٍ خربة، وعروشٍ خاوية ! ولو قيسَ فعلها بمقياس العقل والمنطق لعُدّ حماقةً وجنونًا، ولكنها النفس وما تهوى، والقلب وما يريد! ذهبتُ إلى الأندلس وزرتُ أبرز المدن والمعالم الإسلامية هناك: إشبيلية، قرطبة، غرناطة، وحين أسميها "الأندلس" وأقول أني زرت هذه المدن فأنا لا أقفز على الواقع وأعاند الحاضر، فـ"أندلوسيا" هو إقليم من أكبر أقاليم أسبانيا حاليًا، ويضم أهم المدن الأندلسية القديمة، منها هذه المدن الثلاث.. المهم أني ذهبت هناك وعانقت التاريخ عناق الصبّ المشتاق، وأنا هنا لست بصدد سرد هذه الرحلة وتفاصيلها، ولا الحنين الغارق والانتحاب الطويل أمام الأطلال، فقد أفاض السابقون واللاحقون في هذين النوعين الأدبيَين وعبّروا عنهما بشتى ألوان التعابير، مما صار تعبير الواحد منا عندهم تكرارًا، أو حشوًا، أو استرسالًا باردًا؛ وإن كان لكل إنسانٍ تجربته الأدبية الخاصة، ولكنني بعيدًا عن هذا أحببتُ هنا أن أنشر تفاريق خواطر لا علاقة لها بقصّ الرحلة ولا سيرها ولا أطباعها العامة، وإنما هي مشاعر وأفكار منثورة لا تصلح لنظم.

(1)



أول المدن التي زرناها إشبيلية، وهي عاصمة إقليم "أندلوسيا"، وكنتُ قد أصبتُ قبل زيارتي لها بإنفلونزا تعالت ذروتها حين وصلنا إليها، فقضيتُ أغلب وقتي طريحةً في الفراش، وما استمتعت جيدًا بالمدينة، إلا أنها كانت مدينة جميلة يُعلّلك هدوؤها وجوّها الرائق ويخمد حرارة جبينك وجسدك، كأني بها يتهادى في أثيرها أنغام شعر المعتمد ابن عباد وغزله لزوجته اعتماد الرميكية.. فيزيد هواءها نقاءً وزهرها طيبًا وأهلها وقصورها سكينة! 

(2)

ثم ذهبنا من إشبيلية إلى غرناطة بالقطار، واستغرقت رحلتنا قرابة الخمس ساعات أو أكثر.. كانت طبيعة الطريق والسهول التي تحوطنا والأشجار التي تملأ نواظرنا تذكرني بشدة بسهول فلسطين وفيافيها التي شاهدتها من خلال الصور؛ فوجدتني بلا وعي أردد أغانٍ شعبية فلسطينية: عتابا، ميجانا.. وأتخيل أمامي فلاحين فلسطينيين يمشون حاملي فؤوسهم على أكتافهم وقد تعمّموا بالكوفيّات على رؤوسهم.. تتعبهم فلاحة الأرض لكن تُحفّزهم، يُضجرهم الفقرُ لكن يرضيهم؛ كأنهم بدأَبهم هذا في جهادٍ صامت وكفاحٍ حثيث أمام الدهر ليخبروه أنهم باقون في أرضهم ملتصقين بها في سرّائها وضرّائها، في عطائها وإمساكها، في غنيمتها وغُرمها! 
ولا أدري ما تفسير هذا الانتقال السريع في ذاكرتي نحو فلسطين وهذه الصور التي تقاطرت أمام عيني منها! أهو التشابه الطبيعي الجغرافي؟ أم تشابه القصة بشخوصها وأحداثها؟ غير أن جرح الأندلس قد اندمل وطُوي في الزمان وجرح فلسطين ما زال دمه يسيل أمامنا يأبى التجمد والوقوف! أم أن جرح الأندلس لم يندمل وعاد أخرى مُبدلًا مكانه وسال في فلسطين؟ فروحُ المأساة واحدة، وكأن روح فلسطين حلّت هنا، وروح الأندلس قد حلّت هناك!:
إنما أنت أنا لكنّمــا 
وُضعت أرواحنا في جسدَين! 




وصلنا غرناطة، وفي اليوم التالي زرنا درّتها المتوهجة؛ قصر الحمراء، الذي بناه بنو الأحمر آخر ملوك غرناطة والعهد الإسلامي في الأندلس، وإليهم نُسبت، ويقصده الآن كثيرون من بلدان وأديان مختلفة ليروا هذه العجيبة الإسلامية المذهلة.. تراهم يتجولون فيه مسمّرين أعينهم منبهرين من روعة النقوش والنوافذ والتماثيل والأقواس والقباب، ومن روعة الحدائق والأشجار والسواقي والنوافير؛ يحادث بعضهم بعضًا وهم يتأملون الزخارف والنقوش، ولا أدري هل ينظر بعضهم إليها كلوحة فنيّة مجردة عن الفنان لا تُنسب إلا إلى عالم الفن والإنسان؟ أم ينظرون إليها آخذين باعتبارهم من أبدعها والخلفية الإسلامية التي جاءت منها، متأملين دلالاتها ومعطياتها الدينية والتاريخية؟ أم ينظرون إليها وقد أجبرهم علو قيمتها وانتشار صيتها واحتفاء الفنّ بها على التظاهر بالانبهار والذهول بها جريانًا على سلوك الغربيين الذين يُقدّرون الفن والآثار الفنية الثمينة كيفما كانت، ولو كانت لوحة فيها أضغاث خطوط من ألوانٍ متنافرة؛ لا يُعرف معناها ولا قصد راسمها.. سوى أنه فنان عظيم! 
ثم كيف ينظر هؤلاء إليّ أنا المرأة المسلمة المتجلببة أمامهم؟! هل ينظرون فيّ إلى ذلك القديم الذي خرج من كهف الزمان ونبت من شقوق الأرض وطلُع من جُبٍ سحيق ! هل يرَوْن شبح الماضي يسير في ظلّي ونظرة الثأر تبرق من عيني ومشاعر اللوعة والحنين تطوف حولي كلما نظرت إلى النقوش والجدران التي تركها آبائي؟ هل إذا أفسحوا لي الطريق وابتعدوا عن خطواتي يتحاشون ذلك الجريح الذي أقسم على الانتقام.. فكأنهم بتحاشيهم هذا يعتذرون ويفسحون لمشاعري المقهورة أن تتحرّر، ولسان حالهم يقول: "دعوها، فلا تزال حزينة!"، أم أنهم ينظرون إلي كعدوٍ لا يُبالى بحياته أو موته.. بعزه أو ذلّه، فقد حُسم كل شيء؛ فالأرض أرضهم والزمان زمانهم؟!
أم أنهم لا يهمهم أصلًا من أنت ولا من تكون.. أنت واحد من هؤلاء  الناس.. يُمحى اسمك ويُنسى لونك وملامحك، ويُشطب على كل شيء إلا أن تُشبههم فيما يفكرون أو يقولون.. أدلجَ الدهرُ فطُوي زمانُك، وتصالح المدُ والجزر فسكنت شطآنُك، وعفى التاريخُ فانطفأ بركانُك ! تهاوت الجُدر فتلاقت الأزمنة، وبتّ في زمن العولمة والحضارة والفكر الواحد، والإنسانية المُدّعاة والسلام المنافق والخبث المضمر ! .. أنا لا أنكأ جرحًا قد التأم، ولا أمسك ماضيًا قد عبَر، أنا فقط أحنّ إلى أطلال قومي، وأتردد على متحف التاريخ أُعرّف كل قطعة وزخرفةٍ بأهلها، وأقلّب صفحات الماضي أتذاكر وإياها الحكاية.. والذين يرون القديم مجرد فنٍّ أو أثرٍ أو حكاية ويقفون أمامه على منطقة محايدة يربّون فيهم -بلا شعور - لا مبالاةٍ تورِث التبعية والخَوَر؛ وكأنهم يعترفون بلا وعي أن الأمجاد ودعاوى الهوية والاستقلال الفكري ما هي إلا ضلال قديم يمسخها التاريخ فلا يبقَ منها إلا تحفًا وصور، فلا يضحكُ عليهم ولا يستفيد منهم إلا الدول العظمى ومنطق القوة والسيطرة الذي هو نفسه قد نصب لهم ذلك المتحف وجلب لهم تلك القطع! من ينسَ ماضيه أو يتناساه لا يبقى له من الحاضر إلا خيوطٍ متهتكة من لباس سُحل وتقطع.. وهل لَعمري يستره أو يدفئه ؟! 

(3)



قرطبة كانت محطتنا الأخيرة، وكانت كذلك مدينة ساكنة تضارع إشبيلية في الهدوء؛ كأنهما ما خاضتا يومًا حربًا طالت الإنسان والدين والتاريخ! ولا أدري سر هدوئهما بالنسبة لصخب غرناطة رغم أنهن جميعًا تشتركن في الماضي ذاته.. لعل تقدمهما عن غرناطة في السقوط بيد الإسبان أنهكَ قواهما عن مقاومة الحاضر الجديد فسكنت أجواؤهما سكون اليأس، أما غرناطة فما زالت تحاول، وما زال صخب المحاولة ينبعث في غيرِ مكان فيها!


(4)


لعلّ أرواحنا قد تندّت من قطرات المسارب في مغاور التاريخ واشتاقت إلى نسماتٍ تهوّي الألم، ونورٍ كاشف يجلّي عن نفسه بلا اختلافات أو تناقضات أو تساؤلات.. وهكذا خلّفنا إقليم أندلوسيا وراءَنا متوجّهين إلى تاريخ مختلف وعالم آخر، إلى إقليم كتالونيا وتحديدًا عاصمته برشلونة، كانت برشلونة مدينة منطلقة حرة يموج فيها الناس يمنة ويسرة، تسير بهم ويسيرون بها في طريق واحد يؤدي إلى مصير واحد، وتحاكي فيهم ويحاكون فيها شكلها الواحد؛ فالماضي واحد والحاضر واحد والهوية واحدة، اطمئنان والتئام لا انقسام يُفرّقه ولا صراعات تُشوّشه.. ربما لأجل ذلك شعرتُ فيها بالوئام رغم غياب الآثار والمعالم الإسلامية وطُغيان الحداثة وكثرة المظاهر المسيحية! فنحن أحيانًا نكره في المدن أن تكون ذات وجهين كما نكره في البشر ! 
أما المدن الأندلسية فتبدو كمدن معتَقَلةٍ مستوفِزة؛ لا هي تقدر على الوثوب، ولا هي ترضى بالقعود! يتنازعها ماضٍ لا تزال أنفاسه المحتضرة تنبعث تحت الأحجار وبين الجدران والحصون وفوق المآذن والقناطر والجسور، وحاضرٌ نزقٌ عنيد يراوغ الزمان فيهرب، فيصطدم بجدران المكان، وكلما اصطدم يُنفض غبارٌ كثيف.. ويتردد صدًى بعيد.. وتتراءى له صور قديمة تثبت نسب الأبناء إلى الأجداد والمكان إلى التاريخ وترفض التنازل عن ثأر وحقٍ وأرض!

(5)

هذه الرحلة الشجيّة المليئة بالوجد والألم، بالدهشة والنغم.. الغائرة في أعماق الماضي وأسراره؛ جعلتني أتفكر في معنى التاريخ، وأنه وبكل وضوح ماضٍ وحاضرٌ ومستقبل.. وليس ماضٍ فقط، وأنك مهما تمردت لن تستطيع محوه؛ كالكرة تضربها بقوة بباطن يدك نحو الأسفل فترتد إلى يدك مرة أخرى بفعل الجاذبية الأرضية! لا تنعتق الأمم منه إلا لتعود إليه، ولا تُنكره إلا وتتلبّسها آثاره لتفضحها؛ وهل محاولة أمةٍ طمس جرائمها والاعتذار عن أفعالها والتعبير عن حسن نواياها لأمة عدوة لها سابقًا إلا تقليبٌ للتاريخ واستحضار آخر للماضي على مسرح الحاضر؟!

هناك تعليقان (2):

  1. ليس كلّ موثّقٍ لزيارة الأندلس بكاتب،
    لكنّ خلف هذا النص كاتبة، وأديبة، ومؤرّخة
    عذبٌ عميق مؤلم!
    شكرًا نورة

    ردحذف
    الردود
    1. أغنيتِني بلطفك وثنائك حنين ♥️
      حقًا ممتنة لهذه الإحسان .. شرُفت بك كثيرًا ♥️

      حذف