الأربعاء، 9 مايو 2018

دُقُّوا العلم ودقّقوه!

 
 
يمكن لسطرٍ واحد في كتاب أن تحوي كلماته أنواعًا مختلفة من العلوم، بل يمكن لكلمةٍ واحدة أن يكتنفها ويتضارع فيها علمان مختلفان؛ تُشتق من كل منهما أبوابًا وتصانيف عديدةً من المعرفة! ليس الأمر سحرًا أو غموضًا، ولا يحتاج إلى طلسمٍ لفكّ عقده أو شفرةٍ للدخول إلى دهاليزه؛ الأمر بسيط.. يستطيع فعله أي واحدٍ منا، فقط يحتاج إلى عقلٍ يفكّر ويُحلّل جيدًا ما يقرأ، ويثقب به جُدر الكلمات المُصمتة والمعاني الساكنة، وستتدفق عليه حينها وديانٌ وأنهار لم يحسب لوجودها على خريطته حسابًا
قبل أن أشرح؛ أستهلّ بعبارة للإمام الشافعي تُلخّص حديثي السابق وحديثي الآتي بإيجازٍ مُعبِّر واختصارٍ بليغ، يقول رحمه الله :
"من أرادَ العِلم فليُدقّق؛ لئلّا تضيع دقائقُ العِلم!"
فالعلم إذن تدقيقٌ يُراد به التوصّل إلى تلك الدقائق والإمساك بها.. لأن من دونها التفريط بالعلم والبخس من حقّه
 
سأضرب مثالًا يتضح به شيء من المقال:

قال عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-: إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ مَا عَلَيْهِ إِلَّا بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ ، وَالَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ ؟ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ

ظاهر الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبر أصحابه أنه سيأتي عهدٌ تنفتح فيه الدنيا على المسلمين وينفتحون عليها، ويتبدّل حالهم من فقرٍ إلى غنى، وأنهم وإن كان ظاهر أمرهم حينها أنهم أحسن حالًا إلا أنهم باطنًا ليسوا كذلك؛ لأن الدنيا ستأخذهم عن دينهم وتلهيهم عن ربهم..هذا موضوع الحديث الرئيس؛ ولكن من أراد أن يُدقّقه كله سيجد فيه دلالات ومفاهيم ومعلومات وإشارات هي أبوابٌ لما بعدها، فمثلًا فيما يخص مصعب بن عمير ابتداءً سيعرف ويتعرّف أنه كان قبل الإسلام من أغنياء قريش.. شابًا بهيَ الطلعة، أنيقَ المنظر، يثير مظهره الإعجاب فيمن حوله: "كان أعطرَ أهل مكّة" هكذا وصف المؤرخون والرواة شبابه وحاله قبل الإسلام وما كان عليه من الترف والنعيم، لكنه اشترى بهذا النعيم كله الله ورسوله والدار الآخرة،وقال عنه النبي-صلى الله عليه وسلم- معتزًا ومفتخرًا:
"لقد رأيتُ مُصعبًا هذا، وما بمكة فتًى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذاك كله حبًا لله ورسوله!" لهذا السبب بالذات بكى صلى الله عليه وسلم عند رؤيته مصعبًا وهو في تلك الحالة من الفقر بعد الغنى، والذبول بعد النضارة.. اقرؤوا سيرة مصعب بن عمير لتعلموا أي مُجاهدٍ متمسّك بدينه كان ذلك الشاب!
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى حديثه صلى الله عليه وسلم لأصحابه سنجده يُغريهم ويُمنيّهم بحُلةٍ يلبسونها في الغداة، وحلّةٍ أخرى يلبسونها في الرواح، وبصحفة طعامٌ توضع، وأُخرى تُرفع؛ ويُستنتج من ذلك أنهم كانوا فقراء لدرجة أن الواحد منهم قد لا يملك إلا ثوبًا واحدًا فقط، ولا يأكل في اليوم إلا نوعًا واحدًا أو صحفةً واحدة من الطعام فقط، لذلك كان يغريهم بأكثر من ذلك، ثم يقول لهم أنكم في ذلك العهد ستسترون بيوتكم كما تُستر الكعبة؛ ويُستنتج من ذلك أنهم لفرط التنعّم سيُزينون جدران بيوتهم بالثياب النفيسة كما  تُزيّن الكعبة، وقد يكون في هذا إشارة لما جاء في بعض الأحاديث المرفوعة والموقوفة في النهي عن ستر جدران البيوت، وهو مُختلفٌ في حكمه، وقالوا إن ستر الكعبة لخصوصيتها ومكانتها.
ثم انظُر إلى جواب الصحابة بعدها حين سألهم الرسول فقالوا :" يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ" وتأمله جيدًا.. ستدمع عيناك! لم يفضلوا ذلك الحال الذي سُتغدقُ عليهم فيه الأموال لأنهم سيصبحون أكثر غنًى وترفًا وملكًا وعزًا.. بل لأنه سيكفيهم تكاليف العمل وواجبات الحاجة ومطالب الرزق، فيتفرغون حينها للعبادة.. فانظر إلى تفاوت الهمم، وتباين الأسباب والغايات بيننا وبينهم.. والله المستعان
ومن أراد أن يُدقّق في الحديث أكثر وأكثر ستنفتح له غير ذلك من المشارب والموارد أكثر وأكثر، ولكني سأكتفي بهذا..

وحين كنت أقرأ كتاب "تاريخ آداب العرب" للرافعي كان يُذهلني مدى تدقيقه وتمحيصه للأخبار والكتب رحمه الله؛ فتجده مثلًا يستخلص من كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي (ت ٦٢٦هـ) حينما تحدث ياقوت عن جبلي "عُكاد" وأخبر عنهما بقوله :"وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب، وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم..." فتجده يستخلص من هذه العبارة أن الفصحى قد فسدت منذ القرن الخامس الهجري حتى بين الأعراب، ولم يبقَ من سلمت لغته من ذلك فيما يظهر إلا هؤلاء العكاديين، لذلك أورد ياقوت المتوفى في القرن السابع هذا الخبر عنهم على سبيل التفرد والغرابة. فانظر؛ فهو كتاب في الجغرافيا قد تنبّه به الرافعي إلى التاريخ واللغة، وأخذ منه ما أفاده في بحثه وأسئلته عنهما.. وللرافعي كثيرٌ من هذه الأمثلة التي تدلّ على عقلٍ فاحص ونظرٍ ثاقب وذاكرةٍ مُقتنصة ورأيٍ فطن، وأن الكتب لا تمر بين يديه إلا كما تكون عيّنة التجارب بين يدي الباحث؛ يُشبعها ملاحظةً وأسئلةً وافتراضاتٍ واختبارات ونتائج وتحليل، حتى يتوصّل إلى جوابٍ موثوقٍ محكم يحصل به علم اليقين، ولن يتأتى هذا الأمر لمن يقرأ وهو يمرر عقله ليتلمّس حاجته وصخرته فقط، مهملًا الحُصيّات الصغيرة التي ربما كان منها لآلئ ودُرر لو يعلم

قال الإمام مالك -رحمه الله-لإسماعيل وعبدالحميد ابني أُخته لما رأى حرصهما على العلم: "أراكما تُحبان هذا الشأن -أي العلم- فإن أحببتما أن ينفعكما الله به؛ فأقلّا منه، وتفقّها فيه!" أي أن كثرة العلم لا تفيد إن لم يصاحبها فقه لبواطنه وسبر لأغواره، وقال دغفل بن حنظلة نسّابة العرب المشهور: "إن للعلم أربعة: آفة، ونكدا، وإضاعة، واستجاعة. فآفته النسيان، ونكده الكذب، وإضاعته وضعه في غير موضعه، واستجاعته أنك لا تشبع منه"، قال الجاحظ: وإنما عاب الاستجاعة لأن الرواة شغلوا عقولهم بالازدياد والجمع عن تحفظ ما قد حصلوه، وتدبر ما قد دونوه، ويقول عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- عن تدبر القرآن :"من أراد علم الأولين والآخرين فليُثوّر القرآن" ولا جرم أن كتاب الله قد حوى كل شيءٍ مقصودًا ومشهودًا؛ بخلاف كتب أهل الأرض ومؤلفيهم الذي قد يكتب الواحد منهم العبارة لا يريد بها إلا أمرًا واحدًا، فيفطن قارئها إلى أمورٍ أخرى فيها غابت عن ذهن واضعها؛ الشاهد هنا هو معنى :"التثوير" -الذي صار اصطلاحًا  فيما بعد تحت مسمى تثوير القرآن- الذي أجده معنًى بليغًا لا أبلغَ منه، فهو يعني أن تحفر وتُقلّب وتهيج أرض الكلمات.. لتستخرج ما وراءها من معانٍ وأسرار، وهو في كتاب الله وسنة نبيه أجدر وأولى، وفي غيره من علوم أهل الأرض وآدابهم مندوبٌ محمودٌ مبرورٌ مشكورٌ.

على أنه بقيَ أن أشير إلى أمرٍ في غايةِ الأهمية هنا؛ وهو أن من التدقيق حكمةً وتُفرسًا، وخبرةً وتثقفًا، ومنه أيضًا تكلفًا وتعنتًا، ووسوسةً وتنطعًا، وبينهما صراط دقيق يعبره اللبيب، ويسقط عنه الأحمق، وكل إنسان هو أدرى باهتماماته وحاجاته وتساؤلاته المعرفية والأدبية، وعلى هذا الأساس سيقتنص عقله ما يثيره ويستهويه، ويطرحُ مالا يريده ولا يرى فائدة في أخذه وتتبعه، فاحذروا "شهوة الاستقصاء" كما سماها إبراهيم السكران-فرج الله عنه- وانظروا الحاجة وفضول الحاجة، والأوقات والساعات، وسدّدوا بينهما وقاربوا.