السبت، 19 مارس 2022

"حملته أمّه وهنًا على وهن"




 "مبروك حبيبتي .. حامل!"

انهملت عبراتي ووقعتُ على الأرض ساجدة شكرًا وحمدًا؛ خبرٌ كنتُ أترقّبه، كأنما خُتم على دعواتي وصلواتي لا يفارقها ضراعةً ولهجًا، تمرّ الأيام وأتسلّى عنه بأعمال وإنجازات ولهو ولا يزال هو كالنقش في قلبي تسفي عليه الرياح تراب الأيام ويظل رسمه ومكانه باديًا لا يُطمس، رغم عدم مرور الكثير على زواجي إلا أن اللهفة أقوى من الانتظار، والتطلّع أشدّ من الصبر.. حين كنت أترقب الحمل كانت تلوح أمام عيني صورته الوردية التي لا يُكتب إلا عنها! صورةٌ وردية أكلح ما فيها ثقل بطن الأم وثقل حركتها معه وآلام ظهرها ومفاصلها! ربما يكون سبب ذلك بعض غفلتي عن الواقع والحقيقة، وربما يكون بسبب اعتقادي أنه رغم تعب الحمل وثقله وآلامه إلا أن حلاوته وفرحته تذيب ذلك كله! وما هي إلا أيام قلائل بعد يوم البشرى ذاك حتى بدأت أعراض الأشهر الأولى من الحمل تدبّ نحوي؛ فأستشعر يومًا بعد آخر معنى قوله تعالى :"حملته أمّه وهنًا على وهن" فبكل ما في كلمة :"وهْن" من خفة وخفوت تكون آلامه، وهنٌ تستشعر معه أيام عافيتك وقوتك، ضعفك الحقيقي، صورة أمك وهي حبلى بك وبإخوتك، وأن مغانم الدنيا بمغارمها وليست بالمجّان، حق الأم العظيم حدّ أن يُجعل تحت قدميها الجنة، وأشياء كثيرة.. أيام ولحظات صعبة أزحزح فيها أنا الزمن من ثقلها، وزاد من ثقلها أني فتاة لا تقرّ إلا على مَعين العمل والإنجاز، واللهو والمرح، فأصبحت أسيرة الأمرين: الوهن ونفسي المتحفّزة.. أصبحتُ أسيرة الخمول والإرهاق والنوم.. الفراش هو وطائي اللّين ومنتهى آمالي؛ فلا أبالي إن استلقيت عليه بنداءات الجِدّ والعمل.. الخمول يستوطن جسدي وروحي! أصبح الطبخ جهادًا بالنسبة لي؛ فأطهو وأنا أرتدي الكمامة كي لا تثير الروائح كبدي. أما الروائح .. فشأنها عظيم! رائحة طعام تأتي من بعيد فيرتعد لها كبدك قشعريرة واشمئزازًا.. كأن الروائح وباءٌ تهرب منه ! لا أبالغ إن قلت أني أريد المكوث عند أهلي أقصى ما أستطيع لهذا السبب! حسنًا: ولماذا لا أطلب الطعام من المطاعم؟! أما الطعام فشأنه أعظم! نزل وزني كيلوغرامات.. لا أشتهي أي شيء، وأتخوف من الأطعمة أن تضرني.. أصبح القيء أمرًا معتادًا؛ وأحيانًا أشعر بعده براحة، وأحيانًا أشعر بعده بتعب وحرقة تشعل جوفي، فأصبحت أتخوف من الزيارات لهذا السبب..

أما الكآبة والخمول وتدنّي الهمّة فعنوان تلك المرحلة! كانت يدي ترتخي نحو القاع بسهولة ويسر لتلتقط السفاسف ومضيّعات الأوقات فلا أُبالي! ثم يصحو ضميري فجأة فأتقطّع على وقتي الضائع حسرات، فأحاول النهوض فيتهاوى جسمي وتتلاشى أنفاسي وأعود إلى ما كنتُ فيه.. أنشطُ وأجَدّ ما كان فيّ ضميري الذي كانت تذهب صرخاته عليّ أدراج الرياح! لذلك أرى أن أجدى ما تفعله المرأة هنا أن تستسلم ولا تقاوم، وإن أحسّت من نفسها بوادر نشاط فلتقتنصها ما استطاعت، ولا بأس أن يغلب خمولها نشاطها.. الله سمّاها "وهنًا" وكفى بها عذرًا وحجّة!


وتمرّ الأيام.. وتعلّمك رسائل الضعف والقوة، والخمول والنشاط.. وتحمد الله أن ضعفك هذا بما فيه من تبريح لا يعدو الصحة والعادة، وأنه أمر طبيعي لا يدخل في مسمى المرض.. وأنه مرور وعبور لا مكوث وتطاول.. فتستشعر آلام المرضى الذين يعانون كما تعاني أو أشد، لكنهم مرضى وأنت طبيعيٌ صحيح مهما تألمت.. أذكر في تلك الفترة أخبرتني أمي عن أحد القريبات -رحمها الله- التي أصيبت بالسرطان وكيف انتشر السرطان في جسدها وعن معاناتها في تجرّع الكيماوي وآلامه وأنها كانت تتقيأ أي شيء باستمرار، فحمدتُ الله على ألمي الصغير الذي يعقبه فرحة مرجوّة -بإذن الله- مقابل آلامها التي الله وحده أعلم بمنتهاها وعاقبتها .. غفر الله لها والحمدلله على كل حال..

مرّت الشهور الثلاث الأولى (مرحلة الوَهن كما أسمّيها) على خير وأجر -بإذن الله-.. وشيئًا فشيئًا بدأ النور يبدد ظلام الونى والوهن، بدأت الأحاسيس الحلوة والملتمعة تتقاطر في القلب وتبلّ عروق الروح.. وكأنه السلام الوديع الذي يعقب هرج الحرب ومرجها فتتفجّر معه الآمال وتنطلق الأحلام وتتعلّق فيه القلوب بمستقبل يملؤه زينة الحياة الدنيا وأمل الأيام.. شيئًا فشيئًا تعودين كما أنتِ ببطنٍ صغير يكاد لا يُرى تطوف خواطرك حوله، شيئًا فشيئًا تحاولين استدراك ما فات؛ فنفسُك وطفلك الذي بين أحشائك يتسابقان فيك كفرسي رهان، فتحاولين إعطاء كل منهما ما يليق به من الاهتمام والتقدير.. فسبحان الله كيف ينتهي الألم ويحل مكانه السرور! وهذا من رحمة الله أن جعل الأم تنتقل في حملها بين ثقلٍ وخفّة فتستشعر به صورة حياتها المقبلة : التعب والفرح، الصبر والراحة، القلق والأمل! فالحمدلله دائمًا وأبدًا.. الحمدلله من قبل ومن بعد.. الحمدلله الكريم المتفضّل ذي اللطف والجلال والعظمة والكمال .