الاثنين، 26 يوليو 2021

بطولة العطالة

 ‏{‏وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى‏}

أنت لا تملك إلا سَعيَك.. ليس آمالك التي تتخدّر بها، أو أفكارك التي تزهو بها، أو أحاديثك التي تدندنها، أو مُتعك التي تلهو بها.. ليس لك إلا ما عملت وما ظهر على لسانك أو جوارحك، أو نيّة حسنة وعزم صادق اطّلع الله عليه فأثابك عليه.

شاعت ظاهرةٌ منذ زمن حتى اليوم خاصة عند الشباب، وهي ما أسميها :"بطولة العطالة"؛ أي أنك لن يوضع لك القبول بين القوم ولن تبرز عندهم أحيانًا إلا إن كنت خاملًا عاطلًا متمددًا بين اللذّات والمتع، يغدو يومك ويروح بين نُصبها وتماثيلها ! حتى أنك قد تعمل وتتحرّك وتنتقل من هنا إلى هناك لكن شغلك هذا ما زال دائرًا في ظلال هذه المعاني السطحية غير مكلّفٍ نفسك بالغوص في الأعماق! بدأت ألحظُ هذا المعنى بارزًا في المرحلة المتوسطة بالذات، لا زلت أذكر تلك الأيام حين نرى طالبةً نجيبة متفوقة نشيطة تشارك في الإذاعات والمسابقات فإن هذا الأمر الذي هو سرّ تميزها يصبح ملمزًا فيها ومحط سخرية بها في أعيننا! ولا عجب أن أمسَتْ بفضل هذه النظرة كاتبةُ هذه المقالة طالبةً عادية بعد أن كانت من المتفوقات، وطالبةً مزعجة للمعلمات بعد أن كانت مؤدبة.. ليس هي فقط، بل كُنّ زميلاتها كذلك.. ثم لما انتقلنَ للمرحلة المتوسطة اجتمعن فيما بينهن وأخذن على أنفسهن عهدًا جماعيًا أن يتحدْن ويتمرّدن على ماضيهنّ المشرّف! والحمدلله أن هذا الاعوجاج اعتدل في نهاية الثانوية بفضل المعدّل التراكمي المُصلت على رؤوسهن! العجيب أننا كنا في متوسطة إدراتُها من أشدّ الإدارات في مدينتنا رقابةً على الطالبات وضبطًا لهنّ، وتُسجّل المشرفات التعليميات والمديرات بناتهن فيها لهذه السمعة، ورغم ذلك أبَينا إلا أن نطرح التعهدات والتهديدات بإبلاغ ولاة أمورنا بمشاغباتنا جانبًا ونستمرّ في غيّنا! أنا أقص عليكم هذا الخبر كمثال لترسّخ هذه العطالة في عقولنا اليافعة ذلك الوقت وحمل نفوسنا عليها رغم معاكستنا لتيار القوانين والأخلاق والعقل، وهذا ما نجده عند اليافعين والشباب حتى الآن متخذًا صورًا مختلفة في البيت والمدرسة والشارع وشبكات التواصل وغيرها، فتجد مثلًا الصورة المثالية للحياة عند الشاب أو الفتاة أن يجلس أمام الشاشة متنقلًا من فيلم إلى فيلم وبجانبه صحن الفشار والبيبيسي.. ثم يخرج المطاعم باحثًا عن ضالّته في وجبة شهيّة.. ثم يخرج لأصحابه ممضين لياليهم باللهو واللعب.. أو ترى الفتاة أن أحلام حياتها بين بريق المناكير وعلب المكياج أو صبغات الشعر والقصّات والملابس.. أو أن يعلّق أحدهما ثريّا حياته في السفر والتنزّه؛ فإن زُحزح عن بيته أو مدينته وذرع الأرض فهو من الفائزين! ولكن هل الأمر بهذا السوء ؟ من منّا لا يحب هذه المتع ويحب أن يتفسّح في أرجائها؟ كلنا يحب ذلك.. إلا أنه بالغ السوء حقًا حين تصبح الحياة دائرة عليها فقط، وبالغ السوء حقًا حين يؤدي هذا النوع من الحياة إلى قلب المفاهيم ومحوها؛ فلا يصبح للتفوّق معنى، ويصبح العلم والقراءة محض جدية وثقل، والإنتاج جهدًا وكدًا لا طائل منه، والعمل والإنجاز سفاهةً يشفق على أصحابهما العاطلون! أذكر مرةً في الجامعة كانت تدرس معنا طالبة متميزّة أنشأت من المبادرات والأعمال ما لا تفعله طالبة في عمرها الآن؛ فكنت أمتدحها أمام زميلاتي؛ فقالت إحداهن: "نعم.. ولكنها مسكينة لم تستمتع بحياتها!" قد ذهبَ من قال:

بصرتُ بالراحة الكبرى فلم أرَها

تُنال إلا على جسرٍ من التعبِ!


برأيي أن وجود هذا النمط في مجتمعاتنا يرجع إلى أسباب من أهمها:

تكريس هذه المعاني والصور في الأفلام والمسلسلات، وأن الحياة السعيدة لا تكون إلا بالتنزّه والتسوّق وشاشات السينما وحفلات الرقص والسمر مع الأصدقاء، حتى على مستوى الأمهات والعجائز؛ فتظهر هذه المواد مثلًا صورة الأم التي يكون استمتاعها بالوقت حين تقضيه في زيارات الجارات والصديقات، أو في مشاهدة البرامج التلفزيونية الترفيهية والمسابقات وغيرها فقط.. نعم هناك أفلام ومسلسلات تتحدث عن أشخاص ناجحين لكنها قليلة بالنسبة لغيرها وباعتبارهم استثناءً ومعدودين.. أيضًا سببٌ آخر مهم وهو أُمّ الأسباب حقيقة، ويرتبط مع السبب الأول وغيره بعلاقة عكسية؛ فكلّما زاد هذا نقص ذاك، وكلما زاد ذاك نقص هذا، ألا وهو غياب المرجعية الإسلامية ونصوص ومفاهيم الكتاب والسنة عن سماء الجيل وأُفقهم، ولا شك أن القرآن والسنة تؤسس لمفهوم الحق في الإنسان والكون باعتباره قوةً عميقة راسخة تصدع كل الباطل والخور والسطحية حولها وتشظّيها، وبرهان ذلك النظري مبثوث في نصوص الوحيين، أما برهانه التطبيقي ففي عمل القرون الأولى من الأمة وحضارتها، ثم انحدار هذه الحضارة شيئًا فشيئا وارتباطه بالابتعاد عن هذه المرجعية، رافق هذا الانحدار الديني انحدارًا نفسيًا وسلوكيًا يتمثّل في ضعف الهمة والهشاشة النفسية والميل للدعة والكسل وسفاسف الأمور، أيضًا من الأسباب التي ترجع للتدين وجود صورة نمطية منتشرة للشخص المتديّن الزاهد الذي يحصر تعبّدَه بعبادات ومظاهر معيّنة فقط ولا يوسّعها لدائرة تشمل العلم والبحث والحَرَكية والإنجازات الدَعَوية؛ فإذا تديّن الشاب أو الفتاة ينبغي أن يكون تديّنه بهذه الصورة المتخشّعة التي تعتبر الفاعلية والسعي ضربًا من الأمور الهامشية التي لا يُلتفت لها! أيضًا من الأسباب وجود فهم اجتماعي خاطئ يختزل النفع والعمل والفاعلية في مقاعد الدراسة أو الوظيفة والعمل خارج المنزل، وربّما هناك أسبابٌ أخرى، لكن بنظري هذه أهم الأسباب.

قد يعتبر البعض المراحل الانتقالية التي يمر بها الإنسان كمرحلة "المراهقة" سببًا لهذا الطيش واللامبالاة التي يعيشها الشباب الصغار.. حسنًا؛ سأخبركم أمرًا قد يُدهش بعضكم! في المرحلة المتوسطة ذكرت لنا معلمة الدين أنه لا يوجد شيء اسمه مرحلة "المراهقة" وأن هذا المسمى مخترعٌ غربي يبرّرون به طيش ونزوات أبناء هذه المرحلة؛ فجّرت كلمتها هذه إنكارًا واستغرابًا في عقولنا آنذاك، وعارضناها وجادلناها حميّةً عن طيش عمرنا وجهالته أن يخمد فورانَه أحدٌ ولا يطلق له العنان! ومنذ ذلك الحين وكلمتها محفورة في عقلي أبحث عن تصديق لها أو تكذيب..لتنبثق أمام عيني فيما بعد شواهد متواترة من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي لفتية قادوا جيوش أو برزوا في علمٍ أو استلموا مهمات ومسؤوليات وهم لا يزالون بعد في مرحلة "المراهقة" وبعضهم دون الثامنة عشرة! كأسامة بن زيد رضي الله عنه حين كلّفه النبي -صلى الله عليه وسلّم - بقيادة جيش وهو دون العشرين! وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها حين تركت أهلها المشركين وخرجت وحدها مهاجرة من مكة إلى المدينة وهي لا تزال صغيرة بل في السادسة عشرة كما قيل! ومحمد بن القاسم الثقفي حين قاد الجيوش وفتحت على يديه البلدان وهو لا يزال بعد في السابعة عشرة! والإمام الشافعي حين قال له شيخه "آن لك أن تُفتي" وعمره لم يجاوز الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة ! وغيرهم وغيرهم.. فلماذا لم يجارِ هؤلاء نزواتهم واحتياجاتهم وخصائصهم العمرية ويفسحوا لطيشهم وغرارتهم العنان! أؤمن أن لهذه المرحلة خصائص متغيرة وميل للّهو وغرائز وشهوات ظاهرة، وأن ذلك مما يُراعى ويُنظر.. وهو كما قالت عائشة رضي الله عنها: "فاقدروا قدر الجارية الحديثة السّن الحريصة على اللهو"، ولكن أؤمن أن هذه المرحلة هي أوان تفجّر القوة والفتوة واتّقاد العقل وسيلان العاطفة والجموح نحو الحياة؛ فهي أولى أن تُحوّر للخير والعلم والصراط المستقيم؛ وما تسقيه اليوم تحصده غدًا، ومن شبّ على شيء شاب عليه؛ ويكفيك أن تعلم أن الإسلام ينظر للشاب أو الفتاة أنهما بمجرد بلوغهما أصبحا مكلّفين عاقلين، عمومًا هذه حلقة رائعة علمية موثّقة للأخ سعد القحطاني تحدثت عن مفهوم "المراهقة" وتطوره وتبدّله عبر السنين : (خرافة المراهقة)

إذن لا أسباب حقيقية ترجع إلى عمرٍ أو دينٍ أو فكرٍ قويم تبرّر أو تشرعن هذه العطالة، إنما هي أهواء وطبائع فاسدة وجاهلية حديثة ابتُلي بها شباب هذا العصر، والحل أن تُنشر دائمًا ثقافة العمل والنفع والانتاجية الخالية من الشوائب والمنظورات الاجتماعية والفكرية الخاطئة، سواء بنصوص من تراثنا الإسلامي، أو من ثقافات ومرجعيات أخرى؛ لأن الغرض أولًا هو الحشد لفكرة العمل في النفس واعتبارها خصيصة إنسانية تستقيم بها حياة المرء والناس.. أحب كثيرًا تأمل ما قاله أحد الصالحين: "يا بني، همّتك فاحفظها لأنها مقدمة الأشياء" وقد أوجز بهذه الكليمات اليسيرات دروسًا عديدة في تطوير الذات وفن الحياة والسعي للأحلام وتحقيق الذات! فمن لا همّة له، لا عمل له ولا إنجاز في صغير الأمور وكبيرها، ولاحظ قوله: "فاحفظها" لأن الهمة تُحفظ بالحركة والسعي، وتفسد بالكسل والعجز! مهما كانت ظروفك؛ أبقِ شعلة الحياة "الهمة" مشتعلة في أعماقك، ولو كان ضوؤها وإحراقها لا يجاوز إبهامك.. قد يأتي يومٌ وتصبح شمسًا ! عن عبيد الله بن زياد قال: كان لي خالٌ يقول لي: "يا عبيد هِمَّ؛ فإن الهمة نصف المروءة"، وأحب مقولة عمر -رضي الله عنه-: "إني أكره الرجل يمشي سبهللًا، لا في أمر الدنيا ولا في أمر الآخرة!"؛ قد تكره ما تفعله الآن لأنه بنظرك ليس من معالي الأمور أو من أمور الآخرة، ولكن حتى الأمور الدنيوية اليومية فعلك لها هو دلالة نفعٍ وحياة فيك، وتستطيع تحويلها لنيّة خير يمتد أجرها إلى الآخرة بإذن الله، المهم أن لا تكون "سبهللًا"؛ تحدثت الأديبة (ميّ زيادة) في مقالة لها رائعة بعنوان (غاية الحياة) عن أوجاع النساء وقتامة أرواحهن المتمثلة في داءِ واحد يسلب ما فيهن من ماء الحياة وبريق الإنسانية، ألا وهو "الفراغ" والفراغ من القيمة بالذات؛ تقول ميّ:


"كثيرات هنَّ التعبات اللاتي وقعن فريسة ذلك الشلل المعنويِّ، مولِّد المجازفة والانحطاط الذي يدعى: السآمةَ، فيجرين هنا وهناك هربًا منه مخاطِرات بما وجب صونه، ناسيات ما عليهنَّ أن يذكرنه، ومنهن من لا تطيق البقاء يومًا واحدًا بلا زيارات واستقبالات وأحاديث جارات وخالات وعمات، كأنها تخاف الاختلاء ومقابلة نفسها وجهًا لوجه فتفقد بذلك أعظم تعزيةٍ وأعظم أمثولة في الحياة، وإن أحسنت القراءة دفنت سآمتها في الروايات دون أن تفقه ما فيها من مغزًى اجتماعيٍّ أو أخلاقيٍّ، مكتفيةً بتتبع الصلة الغرامية والاستسلام إلى ما يُبديه أبطالُ الرواية من انفعالٍ اصطناعيٍّ مضخَّمٍ، جاهلةً أنها بتطلب ذلك التحريض القهريِّ تُطفئ نور ذهنها وتُضعف من نفسها جميعَ القوى حتى قوة الحب الذي ينتقم من مُهينيه ومُزيفيه انتقامًا صارمًا.


وكيف نتناول ذلك الدواء ونتغذى بذلك القوت الإلهي؟ السبيل واحد لا ثاني له، وهو: العمل، العمل الذي ينير العقل، ويفتح القلب، ويملأ الوقت، ويحبو الحياة طعمًا لذيذًا، ويروِّح النفس الواجمة، ويرضي الطباع الساخطة، ويصرف العواطف المتلازبة في منافذ ومخارج حسنة العائدة على المرأة الواحدة وعلى من يلوذ بها. فلتعمل المرأة أيَّ عملٍ ينتظر يدًا تقوم به، وكل عمل تشعر من نفسها بميل جِدِّيٍّ إليه، وسواء كانت مشتغلة لتعيش أو لتلهو، لا فرق بين نوع العمل من علم وفن وخياطة وتطريز وتدبير منزل أو بيع في المخازن، فالأمر الجوهريُّ هو الاجتهاد، ووضع قلبها وفكرها في ما تعمله لتتقنه وتكبر به مهما كان صغيرًا حقيرًا، ولكن لفظة الحقارة لا تصلح لمعنى العمل؛ لأن كلَّ عمل شريف في ذاته، وليس منظِّف الشوارع بين الغبار والأقذار بأقلَّ أهمية من الرجل العظيم في قصره بين التهليل والإكبار، ولا هو أقلُّ نفعًا لأمته وللإنسانية."


عثرت على مقولة مؤخرًا أحب استذكارها كلما شعرتُ بالضياع أو بهتت في عيني نضارة الحياة: "إنّ التشاغلَ بالدفاتر والمحابر  والدفاتر والدراسة؛ أصلُ التعبّد والتزهّد والرئاسة والسياسة"‏ ؛ أؤمن كثيرًا أن العمل والتشاغل بما نفعله ترياق فعّال لكثير من همومنا وأحزاننا، وأن الجلوس بلا فعل شيء هو موتٌ بطيء يزحف على أعضائك واحدًا تلو الآخر زحف الثعبان، وكلما كان العمل جيدًا زاكيًا كلما جاد العقل وزكا الفؤاد وتفتحت في روحك أزاهير الحياة الطيبة! وإلا فما هي الحياة الطيبة؟ في القاموس المحيط: طابَ يَطِيبُ طابَاً وطِيباً وطِيبَةً وتَطْياباً: لَذَّ وَزَكَا، أي أن جواب الحياة الطيبة ببساطة هو : اللذيذة الزاكية، وما معنى اللذيذة الزاكية؟ (اللذة) في معجم لسان العرب هي: نقيض الألم،و(الزكاء): تأتي بعدة معانٍ ، وأصلها في اللغة كما في لسان العرب: الطهارة والنماء والبركة والمدح، أي أن الحياة الطيبة ليست فقط في الأشياء التي نستلذها، أو أن مفهوم اللذة لا يقتصر على الغرائز والمحسوسات كما اعتدنا أن نتصوّر، بل الأشياء التي نستلذها وتزكو بنا، اللذائذ الزاكية، المجردة والمحسوسة، الغائبة والمشهودة! فعلينا أن نبحث عن الحياة الطيبة في هذين الأمرين: اللذة، والزكاء، ولن تجتمع اللذة والزّكاء إلا في عمل صالح في الدنيا والآخرة! 

قد يرى العاطلون أن العمل إتعابٌ للعقل وخدش لنعومة الجسد وإرهاق للروح، وأن المتعة والراحة أن تبتعد عن ذلك، ولم يتفكروا يومًا أن متعتهم وراحتهم هذه ميّتة باردة لا طعم لها ولا لون، وأن طعم المتعة والراحة الحقيقية تُذاق بعد العمل.. بين أوقات الإنجاز.. في توازنات الحياة وإعطاء كل شيء حقه؛ فهكذا لن يُضيّع العمر ولن تُهمل الراحة ولن تُلغى البهجة والمتعة.