السبت، 4 فبراير 2023

إغراء الطفولة

أتأمل تخلّق الإنسان وانتقاله من طور إلى طور في ابنتي وأنا أسبّح بالذي خلق الإنسان من عدم فجعله سميعًا بصيرًا.. أتذكر حين ولدتها كيف كان منتهى آمالي أن تصوّب إلي فقط نظرةً ذات معنى.. أن تلتفت إليّ إذا ناديتها ؛ كانت مجرد قطعة لحم، تأكل وتصيح وتنام، ثم ها هي تكبر مرة بعد مرة وفي كل مرة يزيد فيها شيء.. يتحسّن سمعها ويتطوّر نظرها وتتصلب عظامها فأردد دائمًا الآية الكريمة: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة"، أتأمل جرمها الصغير ولطافة كل شيء فيها ورقّته.. حتى قلبها لم أرَ أرقّ منه! يرفّ لكل شيء خوفًا ويرهف لكل شيء دهشة واستغرابًا؛ إخالها لو أُوتيت القدرة على الكلام والبيان وهي في سنها هذا لأصبحت شاعرة تلتقط دقائق الخطرات وتتتبع أصاغر الدهشات!.. تذيبني تلك اللطافة التي تخفّ عن الغلاظة والثقل، وذلك الطهر الذي لا يخالطه كدر، وأتمنى أحيانًا لو بقيت هكذا ولا تكبر!.. ستكبر.. نعم، وستتفتح أزهارها دومًا أمام عيني وسيعبق شذاها في البيت رقةً وصبا ومرحًا وشقاوة، ستسبيني في كل مرة، ولكني أشعر بالقلق حين أفكر بالحياة الطويلة التي ستستقبلها وما سوف تكابده من أقدار ومخاوف وآلام؛ لأن درب الشقاء في الحياة يجانب دومًا درب النعيم، وأغصان الشجرة الوارفة وورقها الناعم وثمرها الغض يسبقها جذعها الخشن الذي يدمي اليدين والقدمين التي تتسلقه وتروم جناه! ستكبر وستزداد آلامها ومخاوفها.. ستعرف أن للخوف صورًا أعمق وأرسخ من رمشة عين وهزة قلب وسيتكثف هذا اللطف وستتسنّى هذه الطهارة، وكأن الكدر هو شرط الحياة والعمر المتطاول! ولكن ماذا عليها لو كبرت وتمدد جلدها وامتشق عظمها ولكن روحها تبقى غضّة بارقة البراءة ؟! ما الروح لولا طفولة القلب؟ ولماذا نصرّ على استبقاء الأحزان في أعماقنا زاعمين أننا نتقوى بذلك لننال فضيلة الصبر؟ لماذا لا نصبح كالأطفال.. دموع الليل يجفّفها ضياء الشمس ، وأحقاد خصوماتنا يغسلها اللعب والحلوى .. لماذا لا نمرّ على الآلام لمامًا ونعطيها منّا حظ لحظتها فقط ثم بعد ذلك نغشّيها ظلام التسلّي والنسيان؟! فأن تكون طفلًا هو طريق السعادة المختصر ! تخلع جسدك جانبًا وتعرّي أعماقك.. وتطلق روحك صاخبةً تضحك، وقاصية الخيال تحلم، وصريحة الحزن تبكي.. أن تنهمر مشاعرك مصوّبة كالسيل فلا تلتفت لأحد عن يمينك أو يسارك إلا أن يكون معك أمامك أو خلفك! لستَ أنانيّ الشعور ولكنك صادق التعبير، لست منطويًا لا تبالي بأحد ولكنك تزخر بنفسك وتملأ حظّها نصيبًا موفورًا.. صراحة الطفل تخجلنا حينًا بل وتجعلنا ننفر منه حينًا، وفي مقابل هذه الصراحة والوضوح تكمن في الطفل غفلة وبراءة هي سرّ لطفه وحسنه لذلك نحن نحبهم وتخلب قلوبنا أحاديثهم وأفعالهم.. هل رأيتَ أننا نهوى في الأطفال ما نفقده؟ فنحب صراحتهم وتبدّيهم لأن عواطفنا مشوبةٌ معكّرة يتناوبها رأينا فيها حينًا ورأي الناس عنها حينًا آخر، ونحب غفلتهم لأننا نتحسس الحياة ونتقصّاها حتى لكأننا نريد أن نقشع الغيوب ونحيط بالأحداث خُبرًا.. لا أقول أن نكون إما هذا وإما ذاك ولكن لماذا لا نقدر المعاناة تقديرًا صائبًا لا تضخمه الأوهام ولا يقزّمه الحمق فنأخذ من الغفلة أو الصراحة بحسب ما يناسب المقدار؟! اثنان هما حياة العواطف وغضارتها: طفولة القلب، والخيال والجمال! وبحياة العواطف يحيى الأدب ويخضلّ الفكر ويعشوشب كل قفار؛ لا أنسى ولن أنسَ زمانًا كنت خالية البال من الشؤون والمسؤوليات.. ليس لي من الاشتغال إلا ما بين يدي من كتاب أو قلم، أو معرفة وهواية وفنّ! فلا أجاوزه إلا لخيال مجنح أو جمال حالم يتراءى في العالم من حولي ، فكان الخيال يمدّد آفاق قراءاتي وأدبي وعالمي من سعته، والجمال يرطّبها من رقّته وروعته! زمانًا كان الشعور فيه شمسًا تذُرّ الأرض والتِلال وتحرّك الأشباح والظلال، وتقتم القلب أو تُنيره، وتعشو البصيرة أو تهديها! وأنت في هذا كله طفلٌ سارحٌ بين روحك والحياة.. ينتهي يومك رغمًا عنك ويضطرك الليل إلى الذهاب إلى فراشك.. ترقد في فراشك فترمق الغد لا بعين الهواجس والتكاليف؛ بل بعين المباهج الموعودة.. مباهج الشمس والألعاب والحكايا والكتب، مباهجٌ مألوفة ويوميّة .. نعم! ولكنها موعودة منتظرة للقلب أبدًا! فكأنما هي الموعودات المبهمات اللائحات من سجف الغيب، لا المتكررّات الواضحات المشهودات! فهل نملك الجرأة أن نثور ونلقي الواقع والأعباء جانبًا.. أو هل نستطيع أن نصبح أطفالًا طوال الوقت ؟! لمَ لا نحاول!

هناك تعليقان (2):

  1. كيف نوفي شُكر الصغار؟
    يُبهرني دائمًا كيف يحملني حضورهم بعيدًا عن كلّ همّ فيكونون اللحظة بكلّ تفاصيلها وتجلّياتها.
    لكن بهذه التدوينة أضيف لهم فضلاً آخر= فتحهم لنوافذ التأمّل والتفكر ومراجعة نظرتنا وتعاملنا مع الحياة وهمومها، وعلاقاتنا بالآخرين وحتى بأنفسنا.

    رزقكِ الله برّ الصغيرة ورقّتها وبهاءها وعافيتها،
    وحنّن عليكما وخفّف عبء الأمومة ومسؤولياتها بأن يصنعها سبحانه على عينه ❤

    ردحذف
    الردود
    1. "فيكونون هم اللحظة بكل تفاصيلها وتجلياتها" بالضبط!

      اللهم آميين.. ما أجمل دعواتك حنين وأبردها على القلب .. وما أشذى مرورك العاطر.. لا حُرمنا نفحه ()

      حذف