السبت، 1 سبتمبر 2018

المسلسلات التركية و"تتريك الإسلام"

 
في السنوات الأربع الأخيرة غزَت الساحة الفنية التركية مسلسلات من نوع مختلف تمامًا عن الصورة النمطية للمسلسلات التركية المشهور ترويجها للمجون والقيم المنحلة عن الدين والعادات والتقاليد.. ابتدأ هذا الغزو بالمسلسل الشهير "قيامة أرطغرل" ثم تبعته مسلسلات أخرى ذاع انتشارها كـ"عاصمة السلطان عبدالحميد" و "كوت العمارة" وغيرها وغيرها؛ ما يميز هذه المسلسلات هو طابعها المحافظ المختلف عن الخط السائد في الساحة الفنية التركية، فلا عُري.. ولا لقطات مُخلّة .. ولا ترويج لقيم وسلوكيات هدّامة للأسرة والمجتمع، بل ترويج لقيم وآداب وأفكار إسلامية أصيلة كاد المجتمع التركي المنغمس في العلمانية أن ينساها ! ليس على المستوى الاجتماعي فحسب.. بل على المستوى السياسي والتاريخي؛ وليس بمجرد إلماحات أو إشارات، بل حوارات وعبارات تُقال هكذا صراحة بلا مواربة أو مجاملة ويكاد يقوم أساس المسلسل عليها، فمثلًا في مسلسل قيامة أرطغرل لا يتم الحديث عن الأعداء البيزنطيين أو المغول إلا أنهم "كفار" فتجدهم يقولون : "سنذهب لقتال الكفرة" أو "نشتاق لجهاد الكفرة!" وغيرها، وفي مسلسل السلطان عبدالحميد مثلًا يتم الحديث عن الدولة العثمانية باعتبارها دولة مجيدة عظيمة حمت الإسلام والمسلمين، وفي مشاهد عديدة كثيرًا ما كان السلطان عبدالحميد يحذر من ضياع الدولة العثمانية وأن بضياعها لن يبقى هناك مجد أو رفعة للشعوب التي تحكمها، وغير ذلك من الأفكار الجريئة التي لو قيلت قبل سنوات لربما سُجن أصحابها أو أُعدموا! فمن يعرف شراسة النظام العلماني والقومي الذي جاء به أتاتورك بعد إنهاء الخلافة العثمانية وتنكيله بكل ما هو إسلامي سيدرك مصداق قولي.
هذا التناول الفني الجريء لهذه القضايا يعطي تصورًا عن التغير السياسي الاجتماعي الذي شهدته تركيا في السنوات الأخيرة بعد وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم والتأثير.. لا أقول أن هذا التغير الفني انعكاسٌ للتغير السياسي؛ بل هو امتدادٌ له وأداة من أدواته، فالذي يقوم بتمويل بعض هذه المسلسلات ودعمها هو حزب العدالة والتنمية، ولا شك أن الحزب بهذا الدعم يهدف من خلال قوة المسلسلات الناعمة للتأثير على المزاج الشعبي العام، والمسلسلات في تركيا بطبيعة الحال تحظى بمشاهدات شعبية واسعة، فيكون هذا التأثير جزءً من استراتيجية تغيير شاملة يسعى الحزب لتطبيقها خلال فترة حكمه.

اللافت في هذا الطرح الإسلامي المحافظ لهذه المسلسلات هو ما سماه البعض بـ"تتريك الإسلام"، وهم يقصدون المزج ما بين الانتماء الإسلامي والقومية التركية، والمزج ما بين الانتماء العرقي والديني لا بأس به وهو  في الحالة التركية محمود ومندوب بسبب القومية التركية المرتفعة جدًا بين الأتراك والتي أيّدها وضاعف من قوتها علمانية أتاتورك الشرسة التي أقصَت باقي الانتماءات الأخرى كالدين والطائفة وغيرها، فبالتالي سيكون الترويج لفكرة الانتماء الديني الفعال هكذا بلا مقدمات صادمًا لعقيدة قومية علمانية تربى عليها الشعب، فكان مناسبًا أن يتم التأليف والمزج بين هذين الانتمائين بشكل يجذب قلوب الناس للثاني ولا يلغي وجود الأول، لكن هذا المزج بين القومية والدين في هذه المسلسلات رأيناه يأخذ طابعًا مغاليًا بعض الشيء إلى حد تجاهل دور الأعراق الأخرى وكأنها ليست موجودة، وإلى حد تسميته بـ"تتريك الإسلام" وليس "أسلمة التتريك" مثلًا! فمثلًا في سياق الحديث عن نصرة الإسلام تجدهم يتحدثون عن فضل الأتراك وعظمة الأتراك وكأنهم هم الوحيدون الذين سينقذون الأمة الإسلامية من مصائبها، وأذكر في قيامة أرطغرل مثلًا لم يأتِ أي ذكر للخلافة العباسية برغم أن أرطغرل عاش في تلك الفترة، وأيضًا حين وُلد عثمان بن أرطغرل لم يأتِ أي ذكر لها برغم أن ولادة عثمان كانت في عام ٦٥٦ هـ وهو العام الذي سقطت فيه الخلافة العباسية بيد المغول، فكان يمكن أن يُستغل هذا التوافق في الولادة والسقوط في الترويج الإيحائي لعجائب القدر وآياته؛ حيث أن أفول نجم خلافة قابله بزوغ نجم مؤسس الخلافة القادمة فكان يمكن أن تُحسب هذه الحادثة لهم
قد يفسر البعض هذا التجاهل في قيامة أرطغرل بأن المسلسل موجّه للجمهور التركي في المقام الأول، وأن أرطغرل وُجد قبل قيام الدولة العثمانية وأنه ليس إلا زعيم قبيلة تركية مهاجرة تعيش في سياقها القبلي والعشائري فمن الطبيعي أن يكون شكل الانتماء عرقيًا في المسلسل.. ونحن نقول بأن هذا الافتخار والتعصب القومي في هذه المسلسلات لم يقف على حدود قبيلة تركية تعيش في نطاقها الضيق؛ بل امتد إلى مساحات الدولة العثمانية التي ضمت تحت لوائها مختلف الأعراق والشعوب الإسلامية، وفي عهد من ؟ في عهد السلطان عبدالحميد الذي رفض القومية وسخر من أصحابها ودُعاتها وكان صاحب فكرة الجامعة الإسلامية ومنشئ سكة حديد الحجاز! أجل لقد عُرضت مشاهد عديدة في مسلسل السلطان عبدالحميد تُظهره فيها وهو يفتخر بالأتراك وبطولتهم بأسلوب لا يتناسب مع كونه خليفة للمسلمين أجمعين والمنافح لوحدتهم والنابذ لداء القومية الذي فرّقهم.. صحيح أن المسلسل تطرق لقضايا المسلمين والخلافة وتطرق لمسألة الفتنة التي زرعها الإنجليز بين العثمانيين والعرب ووصف العرب بـ"العرق النجيب" وكانت أغلب خطاباته أممية إسلامية، إلا أنك تلمحُ رغم ذلك إصرار الكاتب على إبراز روح القومية التركية على لسان من لم يكن يؤمن بها يومًا وسعى لإبطالها!
ونأتي لمسلسل آخر وهو كوت العمارة؛ الواقع أني سررتُ جدًا بفكرة إنتاج مسلسل يحكي عن معركة سجّل فيها العرب والأتراك انتصارهما معًا على العدو الإنجليزي، وأحببتُ جدًا المشاهد التي تعرضهما متوافقين متآلفين تجمعهما دولةٌ واحدة ومصير مشترك في فترة كانت دعوات القومية تتصاعد من الجانبين العربي والتركي، ولكن لا يخلو المسلسل من أمورٍ نغّصت هذا الاحتفاء تعوّدناها من باقي المسلسلات.. فالمسلسل يحكي عن انتصار الدولة العثمانية على القوات الإنجليزية في معركة كوت العمارة عام ١٩١٦ م؛ فلماذا يتم الحديث في بعض المشاهد عن الأتراك وقوة الأتراك؟! وفي أحد المشاهد مثلًا يقول القائد "شفيق" عند الاستعداد للحرب : "أروهم غدًا من يكون الجندي التركي وأنه لا يُهزم -أو كما قال-!" فلماذا؟! الجيش العثماني كان يضم جنودًا من الترك والعرب والأكراد وغيرهم فلمَ يتفاخرون بعنصر واحد من هذا الجيش وفي معركة وقعت في أرض العرب وبمساعدة العرب والعشائر العربية وغيرهم من أعراق الجيش العثماني؟!! وأمرٌ آخر حين قال "السيد عمر" والذي يمثّل العرب الموالين للعثمانيين في المسلسل في أحد المشاهد: "حين كنت صغيرًا كنت أسمع عن قوة الجندي التركي فأحلم أن أكون مثله -أو كما قال-" فهل اندثرت الأمجاد والمآثر والقصص العربية عن الأبطال العرب والمسلمين حتى يتمنى عربي أن يكون مثل جندي تركي عادي أتى في القرون المتأخرة؟! هذه ليست عصبية، وليس استنقاصًا للآخر وتفاخرًا أحمق بالذات، فنحن نقدر ونبجّل أي بطل مسلم قدّم للإسلام والمسلمين ولو كان عبدًا حبشيًا كأن رأسه زبيبة.. لكن حدّث الناس بما يعقلون؛ فلو كان هذا الكلام صادرًا من شخص ينتمي لأمة خاملة لعذرناه، ولكن أن يصدر من عربي يزخر تاريخ أمته بالصناديد الشِداد فلا والله لا نقبل! كتّاب المسلسل يريدون ربط المشاهد التركي بأمجاده وتاريخه، ولكن يجب أن يكون هذا الربط صحيًا وليس على حساب الآخرين! أنت بحاجة إلى كسر حدة القومية المنافسة للدين عند المشاهد التركي..ولن يتحقق هذا الكسر إلا بتعزيز الانتماء الإسلامي وبتقوية أواصر الارتباط بالشعوب الإسلامية والتعريف بها، فكيف إذا كان شعبًا كالعرب حدثت بينه وبين الأتراك بعض المشاحنات.. أليس من الأفضل إذن أن يتم التعريف بهذا الشعب ومن يكون وما هي فضائله على الإسلام والمسلمين وأنه ذو تاريخٍ عظيم، وأنه قدّم مع الأتراك وغيرهم جنبًا إلى جنب خدمات مشرّفة للعالم الإسلامي ؟ أليس إبراز محاسن الآخر خير وسيلة للتقارب معه بدلًا من إصماتها لتكون أنت البارز الوحيد ؟ اعتزازك الشديد بنفسك لا يعطيك الحق بإظهار الآخر بمظهر الصغير والخامل، أنت هنا تنفّر الآخرين منك، ولا تجذب سوى أشباهك! كانت هذه العبارة بالذات هي أكثر مااستفزني بالمسلسل، صحيحٌ أن مثل هذه المشاهد قليلة، لكنها رغم قلتها مزعجة، وصوت القومية منفرٌ ومؤذي! وصحيحٌ أن هذه المسلسلات موجهة للجمهور التركي في المقام الأول وربما الأخير.. لكني هنا أناقش المبدأ؛ وهو مبدأ القومية الغالي والمجحف للآخرين أحيانًا

ورغم ذلك، لا تزال هذه المنغّصات مغمورةٌ في بحر حسنات هذه المسلسلات، فقد استمتعت جدًا جدًا بمشاهدتها واحتلّت جزءً عميقًا من قلبي وروحي.. وهالَني جدًا هذا المستوى الفظيع في التمثيل والإنتاج والإخراج والقصة والسيناريو، ولم أكن أتصور أن المسلسلات والإخراج في تركيا وصل إلى هذا المستوى الذي جعله ينافس المسلسلات الغربية والعالمية.. وما المقارنات التي انتشرت مؤخرًا بين مسلسل "قيامة أرطغرل" ومسلسل "قيم أوف ثرونزإلا خير دليل على هذا! ويكفيني من هذه المسلسلات أني أشاهدها بنفس مرتاحة بلا خوف من مشهد ساقط أو حركة مُخلّة..يكفيني منها القيم والمبادئ الإنسانية والإسلامية التي تُغذيني بها..يكفيني أنها فتحت لي أبواب الاطلاع والبحث حول التاريخ العثماني والتركي، يكفيني منها أشياء كثيرة، ولكن.. ليس في الإمكان الإغضاء عمّا كان!