الثلاثاء، 10 يناير 2017

قارئٌ سؤول!




حين أقرأ وتذهلني فلسفة قالها أحد الفلاسفة أو نظرية وضعها أحد العلماء أو تساؤل طرحه أحد المفكّرين أو أي شيءٍ مما تتسع معه حدقة العين ويومض لأجله العقل وتسري به في القلب نبضةٌ من نوع مختلف دهشة وتعجّبًا وتفكّرًا..فإني بقدر ما يذهلني ما أقرؤه بقدر ما يذهلني أكثر العقل الذي اكتشفه ووضعه وكتبه أو نقله.. بالعقل الذي صاغ هذه الفلسفة أو النظرية أو أثار هذا التساؤل؛ أفكّر بهذا العقل الذي استطاع أن يستفزّه ذلك الموضوع ثم راح يعمل عقله فيه أكثر فيتأمله ويقلبه ويبحث عن جوابٍ أو شيء ضائع له، أفكّر بهذا العقل الذي وجد بنفسه منفذًا للتساؤل في الأشياء والمجتمع والبيئة والكون وكل مجالات الحياة من حوله.. وجد منفذًا للتساؤل لم يجرّه له سؤال جاهز طرحه أحدهم في كتاب أو موقع إلكتروني أو نادٍ ثقافي أو مجلس علمي
من الرائع أن تكون الكتب التي نقرؤها تطرح علينا أسئلتها وإشكالاتها وتشركنا في حيثياتها وتأويلاتها وقطعياتها.. من الرائع أن نكون معها كما يكون المعلم الحصيف مع طلابه؛ يطرح عليهم الأسئلة وينتظر ما يتحفونه من أجوبة تنمّ عن مستوى ذكائهم وقدراتهم.. لا أحد يجادل مثلا في أهمية التعلّم المبني على طرح الأسئلة التي تشجع الطلاب على التفكير.. ولكن أفضل من ذلك أنه من العظيم حقًا أن يتنبّه عقلك بنفسه لتساؤلٍ أثاره ما تقرأ وما تشاهد أو ما تعرف؛ أن يُشير بنفسه إلى تساؤل استوقفه بدلًا من أن يشير أحدهم إليه لينظره.. من العظيم أن يكون مُنطلق التساؤل من عندك أنت وجوابه يبتدئ من عندك أنت كذلك.. من العظيم أن تضيف إلى معارفك معرفةً كانت بالأصل جوابًا لتساؤلٍ قادَك عقلك له
كثيرٌ من المفكرين والفلاسفة والعلماء الذين أضافوا لمكتباتنا كتبهم الرائعة والثرية كانت بداياتهم بتساؤل أثارهم واستفزهم فراحت عقولهم تنقب عن إجابة وافية له في بطون الكتب ومصادر المعرفة المختلفة، أو حتى عبر التأمل الشخصي في ذات التساؤل خصوصًا إذا كانت لديهم خبرات معرفية كافية تمدهم بخيوط الإجابة ودلائلها.
إن للأسئلة والتساؤلات في بناء محصولنا المعرفي أهمية عظيمة لا مشاحّة في أمرها، إنها تعمل كمثبّت قوي لطوبِ بنائنا المعرفي كي تجعله شامخًا وصلبًا على المدى البعيد فلا يسقط لأدنى عاصفة نسيان بإذن الله؛ فتأمّلك فيما تقرأ وتشاهد وتسمع ومحاولة نقضك لغزله وفحص خيوطه وتقليبها والعثور على تساؤلٍ ما في أمرها -إن وجد- ومن ثمّ إعادة حياكتها -ربما على شكل جديد يتناسب مع أطرنا المعرفية والثقافية- يؤسس لك بالطبع معرفة قوية ذات نفع عميق وأثر طويل؛ ولكن يجب التأكيد هنا على أن يكون التساؤل وسيلة من وسائل الحصول على المعرفة لا أن يكون غاية في حد ذاته، فكثير من الأسئلة بقيت بلا أجوبة حتى الآن، والاستمرار في محاولة العثور على أجوبة لها بالدلائل والقرائن نفسها هو أشبه بمحاولة صنع إكسيرٍ يطيل الحياة ويبعد الموت.

خلاصة الأمر أن القراءة في حد ذاتها كالمادة الخام، فليس لها أي قيمة أو اعتبار إلا إذا عولجت وتفاعلت مع العقل لتخرج منه مادة أخرى ذات نفع وقيمة تتوزع وتتخلل أجزاء عقل الإنسان وروحه وقلبه، ولن تتم هذه المعالجة إلا من خلال التأمل والتساؤل والتركيب والتدليل والتحقيق والتدقيق وغيرها من العمليات العقلية، ولكني ركّزت على السؤال أو التساؤل هنا باعتباره من أهم الركائز الأساسية للتفكير ومنشطًا فعّالًا للعقل، فمن التساؤل استُنتجت كبرى البديهيات والحقائق والنظريات والفلسفات.. من التساؤل آمن أقوام وتحرر أقوام وتميّز أقوام واعتلى سُدد العلوم والعبقرية والمجد أقوام.. من التساؤل يرتقي القارئ البسيط العادي إلى مستويات عالية تجعله قارئًا واعيًا مفكّرًا ناقدًا مبدعًا ومضيفًا للمعرفة.. من التساؤل المحضون بالعقل استحق أن يكون الصحابي الجليل عبدالله بن عباس حبرًا لهذه الأمة.. حين سألوه :"أنى أصبت هذا العلم؟" فأجابهم:" بلسان سؤول، وقلبٍ عقول!".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق