السبت، 1 يونيو 2024

نعمة التكيّف



أكثر ما يخشى فقده الإنسان هو الإلف.. إلفُ الأشياء.. الأوقات.. الأمكنة..الأشخاص؛ الإلف هو جوهر الفقد وسبُبه! وبالنسبة لامرأةٍ منضبطة توّاقةٍ مثلي؛ كنتُ دومًا أخشى فقد الحياة التي تعوّدتها والرخاء الذي عايشته؛ وإن كان رخاءً نسبيًا أقتاته هُدنةً بين معارك المشاغل والالتزامات! كنتُ أخشى الأمور الحادثة التي تستولي على محبوباتي وأوقاتي المعتادة.. أخشى المشاعر الجديدة التي تربك سلام مشاعري القديمة، أخشى جرْس الخاطر المتوجّس الذي يزعج طمأنينة جوانحي.. أخشى أن أفشل في التوافق مع كل ذلك وأستمر في خوض معاركٍ معها أبد الدهر! لذلك أحمد الله أن زاد لي في نعمة الخيال واللهفة والتشوّف للمجهول ولم يجعلني واقعية أقيس المستقبل بقياسات الواقع فأقدّر الصعوبات بأوزانها الدقيقة وأشذّب من المباهج ما زاد منها وأخشى اللحظة التالية لأني أبصرت سوءً يطل برأسه منها! بل جعلني أخوض غمرة الجديد وأنا غير آبهةٍ بما تحته.. فإذا عايشته وعرفته قلقت مما كان فيه فأخوض حروبي معه أو أخضع له! هل هناك تضادٌ بين الأمرين؟ بين أن أخشى الجديد وأتلهّف له؟! لا .. فأنا أخشاه بعد وقوعه لا قبله!

كنتُ قبل الزواج قلقة بعض الشيء من هذه المرحلة الجديدة من حياتي، متخوفة من المسؤوليات والالتزامات والتقيّد بنفس السلسلة مع قيد شخصٍ آخر.. خائفةً أن تختنق رغباتي ومحبوباتي وأوقاتي الهانئة في زحام الحياة الجديدة .. فلما تزوجت لم يكن الأمر سهلًا كما توقعت، اعتركت وحاولت وجاهدت في سبيل التوفيق والتوافق.. ثم بفضل الله ثم بفضل تعاون الرفيق نجحت! لا لم تعُد حياتي كما كانت قبل الزواج؛ ولكنها أخذت طورًا جديدًا كبرتُ فيه أنا، ولكنها اختلفت و إن لم تكن تشابهت، ولكنها انتقلت وإن لم رجَعت! وكان هذا انتقالًا واختلافًا يسيرًا إلى ما سيكون! وذلك حين أصبحتُ أمًّا؛ هنا لم تنقلب أوقاتي فقط.. إنما انقلبت نفسي وروحي خلقًا وشيئًا آخر! لقد كانت الأمومة منذ اليوم الأول جوهرةً وهِبَةً فريدةً لا يشبهها شيء في بريقها وثمنها بالنسبة لي، ولكنها أُلقيت في صحراء مترامية من نفسي، ثائرةً رمالُها من كل جانب متوقّدةً شمسُها لا تعرف البرودة والسكينة.. صحراءَ لولا بريق الجوهرة ونفاستها لابتلعتها برمالها! لقد ظلّ الأمران فيّ يصطرعان عهدًا من الزمان.. بريق الجوهرة ووداعتها وسحرها.. واصطراع الرياح والرمال من حولها واتساع الغايات وبعدها، وقد ظللتُ أطلب الله غيثًا يخمد التراب ويُنبت اليباب ويزهر الأرض كل مشرقٍ خلّاب، ظللتُ أطلبه روحًا ونفسًا تشبه هذه الجوهرة.. تصبر عليها صبر الصائغ على جواهره يصوغ منها عقود الدرّ وخواتم الجُمان.. يتعلّم معها حرفةً ومهارات جديدة لا بأس.. وحياةً جديدة لا بأس! فما ملَك من لا بَذَل.. ولا أُعطيَ أحدٌ إلا والابتلاء في عطائه! وجاء الغيث على مكث متمهلًا، ولكنه يُغيّر ويصبغ الحياة لونًا جديدًا في كل مرة.. وصارت الجوهرة دائمًا نصب العينين حُبًا وحرصًا وخشيةً! لا يهمني الآن كم خسرتُ من ذاتي القديمة وأهدافي التي كانت قبل الأمومة.. بل يهمّني مقدار النجاح الذي أنجحه كل مرة في اختباراتها وأطوارها! الأمومة منهجٌ جديد .. امتحان مفصلي لا تشبه قياساته وأدواته ما سبق! ! وأن تؤخذ بأنها رباطٌ ومسؤولية، خيرٌ من أن تُرى بأنها مجرد مناغاةٍ وأُغنية.. والسعيدةُ من أُعطيت عزمًا لهذا وسَعَةً لذاك؛ فحازت الخيرين معًا! 


ما أريد قوله لكل من هابَ أمرًا سيستقبله أو خشيَ شيئًا ظنّ أن نفسه لن تقدر عليه: أن الله الذي خلق الإنسان بهذه الخِلقة الفريدة روحًا وعقلًا وجسمًا وأعطاه كل هذه القدرات والمواهب قد أعطاه معها نعمةً عظيمة اسمها (التكيّف) فهو يتكيّف مع الظروف كلها خيرها وشرها عسرها ويسرها طال الزمان أو قصر -بإذن الله- .. ولا يخفى أن جزءً من صعوبة الأمور ليست في ذاتها، بل في استصعابنا نحن لها وعسر نفُوسنا وثِقَلها! فلنوطّن أنفسنا على الرحابة والسَعَة، ولننثر على أشواكنا زهور الفأل والأمل! 

تتبدّل الحياة وتمضي.. ونتبدل نحن ونمضي معها.. كأن أيامنا الذاهبة عنا الخشب المتساقط من نحتِ النجّار للجذوع.. يحزنُ الجذوعَ تساقطُها واطّراحُها ولكنها تبينُ أخيرًا عن قطعة منحوتة مصقولة .. مختلفة عن سابقتها ولكنها أصبحت رائعة!

نحنّ لأيامنا القديمة نَعَم، ولكن ما نحن فيه خير.. وربما كان أبقى! 

 .....

هنا التدوينة منشورةً في موقع الألوكة:

https://www.alukah.net/literature_language/0/169476