الأحد، 9 فبراير 2025

علّمتني سنـاء ..



سنتان ونصف هي عمري الأمومي الذي أدخلتني في زمانه صغيرتي الحلوة سناء، سنتان هي رحى مشاعر شتى تُذر وتتخلق شيئًا آخر، تدور وتختلط وتضطرب، تسرع وتتردد سرعةً وتردادًا أشبه بقلب الأم القَلق اللاهف المؤمل المنقسم بين نفسه وقطعةٍ من نفسه، سنتان هي انغماسٌ في تجربة إنسانية كاملة وسمتني -وما زالت- بصبغة أخرى غير التي عرفْتُ وعُرفت بها نفسي. 

لم تشرع لي الأمومة في بداياتها أبوابها طواعية ولم تفرش من تحت قدمي سجادها الوردي الحرير الذي صوّروه لنا، كانت (كما بلوتها أنا) صعبة لحدّ الحيرة، محيّرة لحدّ الوعورة، لم أرفضها وأنفر منها بحمدالله ولكن مخاضها الشعوري كان عسيرًا وأصعب من مخاضها الجسدي.. لم يكن سهلًا علي الانتقال من عريشي الياسميني المنفرد إلى دَغلٍ تزحمني فيه شجيرات وعشائش أخرى.. تُضيّق خطوي أحيانًا.. تجعلني أقدّر وأفكر عدة مرات قبل الخروج منها والعودة إليها! تُربةٌ وحياةٌ أخرى نقلتني إليها الأمومة، ولكني-بحمدالله- نَمَوتُ بها شجيرةً في نهاية المطاف؛ وما زلتُ أتباسق وأعلو، وأثمر وأعطي، وأضمّ سناء إلى صدري وأنا أردد قول الأعرابية :

"يا حبذا ريح الولد .. ريح الخزامى في البلد

أهكذا كل ولد؟ .. أم لم يلد مثلي أحد؟!" 

وأحمد الله على نعمة الأمومة الجزلى .

علمتني هذه التجربة القصيرة عمرًا الغزيرة أثرًا أشياء كثيرة، تتغير وتتشكل في كل مرحلة من مراحل سناء العمرية، ولكن أهمها : الصبر والتصبّر! فلو جمعتُ كل نصيحة صبر نصحوني بها؛ ما ألقيت لها أذني كما فعلت حين جاءت سناء، ولو تتبعت كل أثرٍ وخبر يحث عليه؛ ما أخصب وأثمر كما في تجربتي في الأمومة! ذلك أنه لا سبيل للأم إلا الصبر، وصبرها ليس علقمًا مرًا، بل تخلط فيه حلاوة الإشفاق على صغيرها ورجاءَ أن تبلغ به غاية محابّها وآمالها.. قليلٌ ما جربت في عمري أن تفور كبدي وتنشق غيظًا حتى كأنها -بلا مبالغة- أرض بركانية تلمع من تحتها النيران، ثم تلتئم فجأة وتنطفئ جمارها وتغور حتى كأنها ما وُجدت! ولكني حين أصبحت أمًا جربت هذا الأمر مرات كثيرة .. فسبحان من سكب في قلوب الأمهات صبرًا وحنانًا.

علمتني هذه التجربة كيف تتشكّل نفس الإنسان من عوامل تُرى ولا تُرى أحيانًا، وتُصنع أحيانًا وأحيانًا تطرأ، وتُختار أحيانًا ويجبر عليها أحيانا! مذهل حقًا أني أنا الأم المدادُ العريض في هذه الصفحة البيضاء الفارغة.. وليست صفحة في كتاب أو لوحة على جدار؛ بل نفس إنسانية غضة ناشئة بكل ما تحمله هذه الكلمة من كثافة معنوية! مذهل حقًا حين أرى أثرًا نفسيًا وسلوكيًا ولغويًا فيها سببه أنا، ثم إنه قد لا يكون سببًا مباشرًا، بل حصيلة تراكمات وطبائع نفسية متأصلة ظهرت بغير اختيار مني على طفلتي.. فكل صفة على ابنك هي شائبةٌ من صفاتك وأثر سابق منك أو من حتى عائلتك وأجدادك، مذهل ومخيفٌ في آن! ومع ذلك .. فقد علمني هذا الامتحان التربوي والنفسي كيف أفقه النفس الإنسانية بناءً وصناعةً؛ فسابقًا كانت علاقتي بالنفس علاقة شعورٍ وأدب، وخواطر وعواطف.. أي علاقة انكفاء لا إعلاء، ودوران لا تسديد!

علمتني هذه التجربة مسيرة اللغة في الإنسان، وكيف تتشكل في دماغه من إشارة وكلمة وسياق وعبارة.. وصورة وإحساس وشعور ومشهد! علم لسانيات ولغويات أتلقى دروسها تطبيقيًا لا نظريًا أمامي، وفيلم وثائقي يشرح لي اللغة أنا فيه المُخرج وصغيرتي هي المؤدّي والمُعِدّ في آن! لكم كان فاتنًا بالنسبة لي -وأنا الأديبة العاشقة للغة- حين أعلمها كلمة جديدة وأفكر كيف أوصلها لها وأدسّها في وعيها وتركيزها! وقد تعلمت أن اكتساب اللغة عند الطفل يتم كثيرًا بطريقة السياق لا الإفراد؛ بمعنى أنك حين تعلمه كلمة جديدة تأتِ بها في سياقات مختلفة: أنشودة أو بيت شعر، أو جملًا بمعانٍ مختلفة تُقال أمامه، ثم تترك لذكائه الفطري وصفاء عقله الصغير أن يلتقطها ويفهمها ويترجمها إلى لغته الناشئة.. من بين مراحل سناء العمرية المختلفة كانت مرحلة تكوّن اللغة واكتساب الكلمات هي الأحب والأمتع بالنسبة لي! فحين أتذكر كيف كانت حين ولدتُها وأن لغتها كانت مجرد بكاء وأصوات لا معنى لها ونظرات وإشارات عشوائية.. ثم كيف أصبحت الآن أسبح بحمد ربي الذي علم الإنسان معجزة البيان! 

علّمتني الأمومة أن كل أُمٍّ مهما هُمّشت في نظر من حولها ومهما بَدَت حقيرة وضئيلة في عَينيْ نفسها فإن لها من التأثير والمِلئ في عيني صغيرها ما يشبه أثر نبيٍّ في نفوس أتباعه! أولم يقل صلى الله عليه وسلم :"فأبواه يهوّدانه أو يمجسّانه أو ينصّرانه…" ؟ لم يعطني أحدٌ ثقةً في الكلام ويقينًا في الإقناع كما أعطتني سناء حين أحادثها وأعلّمها، أشعر أن تعليمي لها يُسدّد كالسهم فيصيب في قلبها الغض موقعه.. وتلك عظمة الأمومة وإبهارها، وأمانتُها ومخوفها.

علمتني الأمومة أن كل أُم هي أُمّ بطريقة أو بأخرى مهما غالوا في قدسيتها وزادوا، ومهما أعادوا وفصّلوا ونقّحوا! لا أخبركم كيف تعرقلت كثيرًا بتنظيرات الأمومة الجمّة الزبدِ منها والحقيقي، اللغو والفَصْل، المثالي والواقعي في عمري الأمومي القصير! وغالبها بالطبع منثور في وسائل التواصل، ولا أنكر أن كثيرًا منها بحمدلله لم آخذه على علّاته بل كان دافعًا لي للقراءة والبحث في شأنه..وعرفت منه أن غالبها أتى من الغرب أو متأثر بمشاربهم وأساليبهم.. وسأنشر بإذن الله مقالةً كتبتها بهذا الخصوص أفصل فيها بالأمثلة والشواهد أكثر، ولكني أريد القول هنا أنه سواءً إن اختارت الأم أن تقتصر على وظيفتها الأمومية بين جدران منزلها، أو اختارت الخروج لوظيفة أخرى (بحدٍ معقول وساعات معقولة) أو أصرّت على مواصلة دراسة أو طلب علم أو ممارسة هواية- سواء خلال سنتي طفلها الأولى أو بعد ذلك- فهي أمٌ طالما لم تُفرّط! وضعوا تحت "تفرط" ألف خط، فهو المعيار هنا، لا الإفراط أو الإفراط الذي يتمظهر بمظهر التوسط! 

وكيف تعرف الأم حدّ التوسط الحقيقي أو حدّ التفريط الذي لا تزلّ عنه؟! من وجهة نظري بعدّة أمور:

-عدم الإكثار من متابعة حسابات الأمهات والتربويين والتربويات في وسائل التواصل، والاقتصار على حسابات أصحابها مشهود لهم حقًا بالنفع والخبرة وأصالة المرجع والمنهج. وللأسف أن غالبية حسابات الأمهات في وسائل التواصل طرحها متأثر بالمناهج الغربية! وإن كنت عمومًا لا أحبذ الاعتماد على وسائل التواصل بل تكون شأنًا ثانويًا وإضافيًا، ويكون الاعتماد على تربوي مشهود له بأصالة المرجع وطول الخبرة.

-أن تحاول الأم إكمال حياتها بصورة طبيعية، كما كانت سابقًا.. ولكن كيف والأمومة تتطلب ما تتطلب؟! نعم.. سوف تضاف لحياتها مسؤولية جديدة تزحم وقتها وربما تثقلها قليلًا، ولكن لا بد ألا يزاد في قَدْرها، وليس هذا تنظيرًا لا واقعية فيه.. بل لأن الطفل يتعلم بالتوازي مما يلاحظه من الحياة المستمرة حوله وليس بحاجة أن يُفرد له وقت مستقل وأنشطة خاصة! نعم يحتاج بعضًا من ذلك، ولكن ليس كل يوم وليس أغلب الوقت! هذه عادة غربيّة بامتياز.. تعزل الطفل عما حوله، بل وكثير منها تُصغّره ولا تبلغه مبلغ الكبار! وهناك استقراءات وشواهد.

-أن تقرأ الأم في التربية قديمًا وطريقة الأمهات في التنشئة والرعاية سواء على سبيل التقليد والاتباع لها أو الموازنة والتسديد والمقاربة معها! وخيرٌ من ذلك وأظهر وألزم .. أن تقرأ كيف كان يربي خير المرسلين صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلفهم من بعدهم الأطفال والأبناء، فهم خير مثال وفي طريقتهم ما يزيح عن النفس حرج التقصير وضائقة الغلو.

-لا أصدقَ للأم من حدسها.. ولا أوثقَ من ملاحظتها ونظراتها لصغيرها، ثم لا أحسن من الموازنة بين الحقوق المختلفة: حق ربها، وحق نفسها، وحق زوجها، وحق بيتها وأبنائها.. ومن الله الهداية والتوفيق والعون والتأييد، لأن هذه الأمور تتطلب قوةً وانتزاعًا للنفس؛ فليس سهلًا لقلب الأم المشفق الضعيف أن يصمد أمام زحام العتب والنصائح والنظريات المتعلقة بفلذة أكبادها، وغالبية من حولها يسبحون مع هذا التيار ولا يحاولون معاكسته.


أقرّ الله كل أمٍّ بأبنائها وأعانها في نفسها وفيهم، وبلّغها ما ترجوه من خيري الدنيا والآخرة.