(1)
أكملت
قبل أيام عامي الـ ٣٢ حسب التقويم الهجري؛ أصدقكم القول أنه التبس عليّ هل أكملت
عامي الواحد والثلاثين أم عامي الثاني والثلاثين؟ قد تسارعت الأيام وتداخلت حدودها
واختلطت بقاعها فما تمايز عامٌ منها عن آخر، بل إني ما زلتُ أشعر أني للتو أكملتُ
الثلاثين، ولمّا يفارقني ظلال العشرينات بعد! وأمرٌ آخر أشعرني برهبة.. وهو أن
عامي القادم بإذن الله سيكون الثالث والثلاثين، وهو عمُر أهل الجنة.. وإذ شارفته؛
فإن ميعاد الدار الآخرة إزاء بصري، وسؤالها وماذا أعددتُ لها يطيف بفكري! فاللهم
عمرًا وعملًا يوازي ذلك الجزاء والنعيم، وإن كان لا يُنال إلا برحمتك وفضلك!
(2)
بماذا
نقيس قيمة الأيام الأعوام؟ بنهاياتها؟ حين يطير كل شيء ولا يحطّ إلا المشهد الأخير
بشعوره ومعناه، فيعشعش في غصن القلب ويولّد فراخًا وذكريات وأحاسيس تعيش معك إلى
عامك الآخر؟ أم نقيسها بمجموعها وبالعقل الذي يقرّر أن ما غَلَب غُلّب وإن جار
عليه إحساس وشعور لا يختار إلا ما أدمى القلب وهتّك الروح؟! .. يفجؤك حدثٌ تتحاشاه
وأمر تتوقّاه منذ زمن، ترى المستقبل معه هواء من القلقِ والأوهام، لا يثبت في فكرك
تصوّر ولا رؤية، ولا تدري كيف تؤول الأمور من بعده! لكنك حين تتذكر أنه قدر من
الأقدار المدبّرة المقدرة من لدن حكيم عليم رحيم يسمع مناجاة قلبك وخلجات صدرك
وحشرجات أنفاسك تسكن وتسلّم، والحمدلله على نِعم تبرهن على ألطافه، ورحماتٍ تغيث
في أقداره..
(3)
ثمة أيام
تودّ لو زوي العمر كله وضُمّ فيها.. أيام مصرّاةٌ بالخير مما لو بُسط لكان في كل
ناحية من جوانحك منارة وفي كل أفقٍ من روحك نجمة، تلك هي أيام دراستي في معهد
النجاح الذي يعنى بالسنة وعلومها، وهي وإن كانت دراسة لها تكاليفها ومجهودها إلا
أني لا أجهَد فيها إلا بمقدار ما تجهد النحلة تنتقل من زهرةٍ لأخرى ومن حقل إلى
آخر لتجني عسلًا حلوًا سائغا للشاربين..فالحمدلله على هكذا لحظات تجعل ما دونها من
مصاعب وهموم مغفورًا مطمورًا!
(4)
حين كان
لدي ابنة واحدة كان في بيتي شمسٌ حيّية، سنيّة؛ ضوؤها الماء الزلال رقة وترسّلًا..
ويكفيك إشراقة اليوم بإطلالها، وحين رُزقتُ في عامي هذا بأختها تعالت الشمس وسطعت
وتوهجت.. وصارت الأيام فيها صخبًا وحياة! أصلحهما الله وبارك لي فيهما، رغم امتلاء
أيامي بهما حتى أكاد لا أجد في بعضها نفاذًا إلى نفسي إلا أن تغريدهما وصخبهما
يشاغلني عن همّ نفسي وأسى قلبي وأستشعر به صوت الحياة وطربها وغناءها وضحكها
!
(5)
في هذا
العام لم أكن في وصالٍ دائمٍ مع الكتابة، كنتُ أقصدها غِبًا..لمامًا؛ أحيانًا
كارهة وأحيانًا مختارة! تارةً لانشغالي ومسؤولياتي المفروضة عليّ، وتارة لانشغالي
الذي فرضته على نفسي؛ أي بدراستي بالمعهد، وكنتُ أقول في ذلك أني وإن انقطعت عن
الكتابة حرفًا وتأليفًا إلا أني لم أنقطع عنها مادةً وجوهرًا، إذ أن مشكاة المعاني
وجذوة الفصاحة تُوقد في روحي كل يوم حين أتدارس -بفضل الله- وحي الله ونوره في
كَلِم سيد الفصحاء -صلى الله عليه وسلم- ، وقد جربت عدة مرات أن أكتب بعد انقطاع
وقد توضأ قلبي للتو من معين حديثه العذب الشريف فإذا بي أتدفّق وكأن محبرتي لم
تغبرّ وقلمي لم يجف! على أن هذا لا يحدث دومًا؛ وتبقى الدُربة ثقاف القلم ويقينه
الذي لا يُكذّب!
ولكنني
حين اشتغلت بالسُنّة وحقّها وحقيقها وجِدّها وفصل خطابها رأيت أن في الدنيا أمورًا
هي أحقّ أن تشغل متون صحاف حياتك لا هامشها، وهي أحق بذلك من غيرها! هنا ضربني
سؤال الأولويات ومشروع الحياة ضربة تقريرٍ وتقريع، ولا مفر من الإقرار له؛ فصرتُ
أتساءل عن جدوى كتاباتي ولمَ أكتب؟ لا عن جدوى الكتابة نفسها، فالكتابة لي عين
ثالثة أبصر بها فكر عقلي وخطرات قلبي وأتلمّح بها المعاني ورؤى الحياة وغيوبها؛
فإن عمَيتْ صرتُ طينةً لا تبالي ولا تشعر! وصار سؤال الكتابة ووجهتي فيها هاجسي
وحيرتي التي لم تنجلِ بعد، وأدعو الله أن يجلوها لي في أقرب وقت.
(6)
أشعر
مؤخرًا وكأني أركض على فرس، تراهن الريح على سبْقها، وتمر بي في سباقي مرائي
الحياة ومشاهدها ومواقفها سريعًا ، فلا تستقر عليها العين حتى تجوزها، ولا الفكر
حتى يخطئها.. ثم ما ألبث أن أصل إلى وجهتي التي قُدّرت لي؛ فهل استمتعتُ بالرحلة
حتى أعذِر الوجهة؟ أم هل اخترت الوجهة حتى أغفر سرعة الرحلة؟! حسبي أن من السرعة
رحمةً تشفيك من مضّ الحوادث وبطئها، وتعبر بك أيامك الثقيلة التي ما ظننت أن
تنتهي، وحسبي أن نعم الله علي وستره ولطفه فوق كل شيء وجبرًا وهناءً لكل
شيء.