الأحد، 3 نوفمبر 2024

على بوابة الثلاثين..

كمن يتحاشى أن ينظر في المرآة إلى عيبٍ في منظره معلًّلا نفسه بأنه غير ظاهر، أو ليس بالشيء الناشز ؛ أتحاشى أنا عمري الثلاثين الذي بلغته منذ عامٍ في التقويم الهجري! أقول في نفسي: ليس بعد .. التقويم الميلادي أضبط.. ثم إن العمر مجرد رقم، والعمر النفسي والتأريخ الشعوري أضبط وأدق، وها قد حلّ تاريخ عمري الثلاثون بالتقويم الميلادي هذه المرة، والعيب في المرآة يلحّ أن يُهذَّب أو يُزال! فأين أنا من الجلوس على ربوة العمر أتأمل طلل العشرين المهجّرة للتو.. وأتأمل بروج الثلاثين خلف تلك الأسوار والطرقات المجهولة ؟! فأبكي على ما فات أو أستدرك له؟ أم أودّعه لطيفًا خفيفًا كما جاء مرّ ؟! هيهات.. أنّى في دنيانا السلام المبرأ من الأذى والأكدار ؟!أنى منها الصواب المنزه عن الخطأ والندم؟! مُحال! يسمّي بعض أهل اللغة من بلغ الثلاثين كهلًا، فهل آنستُ من نفسي رُشدًا يجوّز إطلاق الكهولة عليّ بحكم أني بلغت الثلاثين؟ أم أنه كما قلت بأن العمر مجرد رقم، وأنه ليس نهرًا بل جدولًا صغيرًا تعبره بخطوة إلى ضفةٍ كأنها الأولى التي خلَّفتها ! هذا السؤال أحرى بأهل الفكر والاجتماع والمتأملين من الناس أن يتفكرونه ويتباحثونه، ولا تطرحوه رجاءً على أصحاب تطوير الذات والذين يضعون قوالب جاهزة عن الأعمار ومعالمها النفسية وما ينبغي عليك فعله في كل عمر! أما أنا فالجواب النظري العام لا يزال مبهمًا في عقلي، أما الجواب الشخصي المحسوس فهو أني مررتُ من الأحداث والأدوار والتجارب والمسرات والآلام في عقدي العشرين ما أسنّ رمحي وشدّ قلبي وأنضج عقلي حتى غدوتُ فتاةً أخرى غير ما كانته قبل خمس سنوات وغير ما هو قبل عشر سنوات! ورغم ذلك.. ما زلتُ أحنّ إلى بعض ما كان وإن كان الذي هو كائنٌ أسوغ في العقل والعُرف والمكانة أحيانًا، إلّا أن القلب يتمنى ويشتهي مباحاتٍ ومندوحاتٍ أُحلّت له، ولكن إذا جاء الواجب وحُدّتِ الحدود وخُطّت وأضحى ما وراء الحدّ حرامًا وذنبًا؛ انتصب العقل آمرًا وناهيًا فلا مجال للقلب إلا الإذعان! لقد كان عقْدًا مليئًا بتدبير الله واختياره الحكيم العليم، كانت يده سبحانه تدفعني إلى المضي في طرقات لولاها لبقيت ساكنة في مكاني لا يحركني شيء.. أخبط ذات اليمين والشمال، ويعجبني هدوء مكاني واستقراره وابتعاده عن الزحام ومواضع الأقدام، وأحسب أني على خير وهون.. ولكن الله يسوقني ويوجّهني إلى غير ما أرغب ، ثم أُراني أدرك لاحقًا أني في الطريق الصحيح .. فأحمد الله على لطفه وخِيرته.. وتقديره وهداياته، ونِعمٍ ومسخّراتٍ ما زالت تُصب عليّ أينما توجهت ..

السبت، 1 يونيو 2024

نعمة التكيّف



أكثر ما يخشى فقده الإنسان هو الإلف.. إلفُ الأشياء.. الأوقات.. الأمكنة..الأشخاص؛ الإلف هو جوهر الفقد وسبُبه! وبالنسبة لامرأةٍ منضبطة توّاقةٍ مثلي؛ كنتُ دومًا أخشى فقد الحياة التي تعوّدتها والرخاء الذي عايشته؛ وإن كان رخاءً نسبيًا أقتاته هُدنةً بين معارك المشاغل والالتزامات! كنتُ أخشى الأمور الحادثة التي تستولي على محبوباتي وأوقاتي المعتادة.. أخشى المشاعر الجديدة التي تربك سلام مشاعري القديمة، أخشى جرْس الخاطر المتوجّس الذي يزعج طمأنينة جوانحي.. أخشى أن أفشل في التوافق مع كل ذلك وأستمر في خوض معاركٍ معها أبد الدهر! لذلك أحمد الله أن زاد لي في نعمة الخيال واللهفة والتشوّف للمجهول ولم يجعلني واقعية أقيس المستقبل بقياسات الواقع فأقدّر الصعوبات بأوزانها الدقيقة وأشذّب من المباهج ما زاد منها وأخشى اللحظة التالية لأني أبصرت سوءً يطل برأسه منها! بل جعلني أخوض غمرة الجديد وأنا غير آبهةٍ بما تحته.. فإذا عايشته وعرفته قلقت مما كان فيه فأخوض حروبي معه أو أخضع له! هل هناك تضادٌ بين الأمرين؟ بين أن أخشى الجديد وأتلهّف له؟! لا .. فأنا أخشاه بعد وقوعه لا قبله!

كنتُ قبل الزواج قلقة بعض الشيء من هذه المرحلة الجديدة من حياتي، متخوفة من المسؤوليات والالتزامات والتقيّد بنفس السلسلة مع قيد شخصٍ آخر.. خائفةً أن تختنق رغباتي ومحبوباتي وأوقاتي الهانئة في زحام الحياة الجديدة .. فلما تزوجت لم يكن الأمر سهلًا كما توقعت، اعتركت وحاولت وجاهدت في سبيل التوفيق والتوافق.. ثم بفضل الله ثم بفضل تعاون الرفيق نجحت! لا لم تعُد حياتي كما كانت قبل الزواج؛ ولكنها أخذت طورًا جديدًا كبرتُ فيه أنا، ولكنها اختلفت و إن لم تكن تشابهت، ولكنها انتقلت وإن لم رجَعت! وكان هذا انتقالًا واختلافًا يسيرًا إلى ما سيكون! وذلك حين أصبحتُ أمًّا؛ هنا لم تنقلب أوقاتي فقط.. إنما انقلبت نفسي وروحي خلقًا وشيئًا آخر! لقد كانت الأمومة منذ اليوم الأول جوهرةً وهِبَةً فريدةً لا يشبهها شيء في بريقها وثمنها بالنسبة لي، ولكنها أُلقيت في صحراء مترامية من نفسي، ثائرةً رمالُها من كل جانب متوقّدةً شمسُها لا تعرف البرودة والسكينة.. صحراءَ لولا بريق الجوهرة ونفاستها لابتلعتها برمالها! لقد ظلّ الأمران فيّ يصطرعان عهدًا من الزمان.. بريق الجوهرة ووداعتها وسحرها.. واصطراع الرياح والرمال من حولها واتساع الغايات وبعدها، وقد ظللتُ أطلب الله غيثًا يخمد التراب ويُنبت اليباب ويزهر الأرض كل مشرقٍ خلّاب، ظللتُ أطلبه روحًا ونفسًا تشبه هذه الجوهرة.. تصبر عليها صبر الصائغ على جواهره يصوغ منها عقود الدرّ وخواتم الجُمان.. يتعلّم معها حرفةً ومهارات جديدة لا بأس.. وحياةً جديدة لا بأس! فما ملَك من لا بَذَل.. ولا أُعطيَ أحدٌ إلا والابتلاء في عطائه! وجاء الغيث على مكث متمهلًا، ولكنه يُغيّر ويصبغ الحياة لونًا جديدًا في كل مرة.. وصارت الجوهرة دائمًا نصب العينين حُبًا وحرصًا وخشيةً! لا يهمني الآن كم خسرتُ من ذاتي القديمة وأهدافي التي كانت قبل الأمومة.. بل يهمّني مقدار النجاح الذي أنجحه كل مرة في اختباراتها وأطوارها! الأمومة منهجٌ جديد .. امتحان مفصلي لا تشبه قياساته وأدواته ما سبق! ! وأن تؤخذ بأنها رباطٌ ومسؤولية، خيرٌ من أن تُرى بأنها مجرد مناغاةٍ وأُغنية.. والسعيدةُ من أُعطيت عزمًا لهذا وسَعَةً لذاك؛ فحازت الخيرين معًا! 


ما أريد قوله لكل من هابَ أمرًا سيستقبله أو خشيَ شيئًا ظنّ أن نفسه لن تقدر عليه: أن الله الذي خلق الإنسان بهذه الخِلقة الفريدة روحًا وعقلًا وجسمًا وأعطاه كل هذه القدرات والمواهب قد أعطاه معها نعمةً عظيمة اسمها (التكيّف) فهو يتكيّف مع الظروف كلها خيرها وشرها عسرها ويسرها طال الزمان أو قصر -بإذن الله- .. ولا يخفى أن جزءً من صعوبة الأمور ليست في ذاتها، بل في استصعابنا نحن لها وعسر نفُوسنا وثِقَلها! فلنوطّن أنفسنا على الرحابة والسَعَة، ولننثر على أشواكنا زهور الفأل والأمل! 

تتبدّل الحياة وتمضي.. ونتبدل نحن ونمضي معها.. كأن أيامنا الذاهبة عنا الخشب المتساقط من نحتِ النجّار للجذوع.. يحزنُ الجذوعَ تساقطُها واطّراحُها ولكنها تبينُ أخيرًا عن قطعة منحوتة مصقولة .. مختلفة عن سابقتها ولكنها أصبحت رائعة!

نحنّ لأيامنا القديمة نَعَم، ولكن ما نحن فيه خير.. وربما كان أبقى! 

 .....

هنا التدوينة منشورةً في موقع الألوكة:

https://www.alukah.net/literature_language/0/169476

الثلاثاء، 30 يناير 2024

قصة نضال الذاكرة

قليل في حقّك يا غزة.. قليل في حقك يا فلسطين .. قليل في حق كل مظلوم مستضعف! ولكن حسبي أن أعظم الجهاد كلمة؛ فلربّما ألهبت كلمةٌ.. وأخمدت كلمةٌ !
ولكن حسبي وعذري أنها ما أستطيعه، ولوددتُ أني أطيق أكثر منه.. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها !







قصتي :(نضال الذاكرة):


الاثنين، 28 أغسطس 2023

سنة حلوة يا سنـاء




 إلى نبضي الأول، إلى ابنتي، وصديقتي، وأمي الصغيرة: سنـاء .. في يوم ميلادها الثاني، في عامها الأول:


أنتِ التي أحييتِ الأم فيني، وبَذَرَت يداكِ الصغيرتان مشاعر شتّى ما كنتُ أحسب أن أرضي خصبةً لها، ولكنك كنتِ كمزارع صبور تتعاهدينها بالسقاية دائمًا حتى في اللحظات التي توشك فيها على الذبول! نلد الأبناء وهم يلدوننا.. نحنو عليهم ونعانقهم ونضمّهم عطفًا ومواساة ولكن أحضانهم الصغيرة تبادلنا كذلك من الشعور.. فلا ندري من فينا الأم ومن فينا الولَد! 

صغيرتي سناء،

تمنّيتُ منذ اللحظة التي علمتُ فيها بحملي بك أن تكون بكري فتاة، أعوّض فيها فقدي للأخت؛ فتكون أختي وابنتي وصديقتي، فأكرمني الله بك وكنتِ أنتِ ! فيا لسعدي وفرحتي بك!

صغيرتي سناء، 

للطفل الأول حُبٌ مختلف.. تحبينه قبل أن تُلقى نطفته في رحمك حتى! حين تعدكِ به الآمال ويشوّقك له نداء الفطرة والغريزة، فترسم لكِ وله صورة أمومية حالمة، تظل تهدهد القلب إلى أن يأتي! وتحبينه حين يتخلّق في بطنك، وهنا تفور حقًا تلك المشاعر الهادئة الخفيّة في تلك المرحلة الحالمة وتتكثّف وتتمايز ويصبح لها حسُّ واسمٌ ومسمى! فمرةً محبة، ومرة لهفة، ومرةً قلق، ومرة خوف، ومرةً أمل! وتحبّينه حين يولد، وهنا تتجسّم المشاعر وتشخص بوضوح أمام العينين، وتصبح حقائق صارخة بعد أن كانت سارية في الوهم والخاطر.. تصطدم بكِ عند انتصابها أمامك حينًا، وترشدك وتعدّل مسارات نفسك حينًا، وتبهجك بحضورها ورؤيتك لها حينًا؛ فمرةً صبرٌ وتجلّد، ومرةً نضجٌ وتبصّر، ومرةً إخفاق وخيبة، ومرةً انتظار وأمل، ومرة ضعف وجزع، ومرة رحمة، ومرة قلق، ومرة كَلَف، ومرةً حُب.. حبٌّ لا يشبهه أي حب آخر! لأنه خليط تلك المشاعر مجتمعة! فهل سمعتِ يا صغيرتي بحبٍّ كهذا؟! لا أظنه يوجد إلا في قلوب الأمهات! وحده قلب الأم تتقلّب فيه تلك المشاعر المتعاكسة، وفضاءُ المحبة والحنان هو وعاؤها جميعًا!

صغيرتي سناء،

أشعر بالبهجة والزهو حينما جعلتِني أنا من يصوغ لك مشاعرك تجاه هذا العالم؛ حين تنظرين مثلًا نحو طائر أو منظر غريب.. أو تسمعين صوتًا ما، فتنظرين إلي مباشرة لتَرَي ردّة فعلي، فأتعمّد ظهور ملامح الدهشة الفَرِحة في وجهي، فتسكُن صدرك تنهيدة اطمئنان متبوعة بدهشة مثل دهشتي على وجهك، فصرتُ كذلك أتعمّد حين أسمع صوتًا مخيفًا أن تسكُن ملامحي وإن كان القلق يهزّ داخلي لتظلّل الطمأنينة وجهكِ وقلبك على الدوام.. فأي فخرٍ وأي مسؤولية أعظم أن يكون وجهك بوابة عبور لشعور إنسان نحو هذا العالم؟! ثم إني والله أتجدّد بك وأكتشف العالم مرة أخرى بدهشاتك ونظراتك المبهورة.. فأيّنا يرى العالم بعيني الآخر.. أنا أم أنتِ ؟

صغيرتي سناء،

لقد أحببتك مرة ثانية حين أحبّك والديّ وأحبّاني فيكِ.. حين أضفتِ لفصولهما فصلًا آخر من فصول الشباب قد ظنّا أنه مات مع العمر وانطوى مع تقدّم السنّ، فكنتِ أنتِ إشراق مشاعر الأبوة فيهما الغاربة منذ دهر، وصوت الحنان والمناغاة الأنيس في أرض العمر الموحشة، وأخوالك الشباب.. ماذا فعلتِ بهم؟ كنتِ أنتِ تهاوُن هيباتهم، وعطف جذوعهم المنتصبة.. فيا لبركتك على الجميع!


 ثم لتعلمي يا صغيرتي أن أمكِ مهما أحبتك فإنها تُطلقك، تُطلقك من مدى قلبها إلى آمادك وآماد الحياة الرحبة، تُطلقك ليرتخي قلبُها فلا يتهتّك بطول الشدّ والربط، تُطلقكِ لتكوني أنتِ وتكون هي! قد يسمّون هذا الإطلاق تقصيرًا أو لا مبالاة.. فليسمّونها ما شاؤوا.. سيشهد حبك لقلبي في ضربات الخوف والقلق وليالي المرض والسهر ودعوات السجود وإعداد طعام الهناء والعافية وحسن التعليم وصدق التربية.. وكل مفترقات المحبة والحرص؛ والله الوكيل نستعينه في كل أمر، وبه توفيقنا وعليه اعتمادنا، فمن وفّقه فهو الموفّق، ومن خذله فهو المخذول.. ولا حول ولا قوة إلا به..


أمك التي تحبك كثيرًا:

نورة


السبت، 4 فبراير 2023

إغراء الطفولة

أتأمل تخلّق الإنسان وانتقاله من طور إلى طور في ابنتي وأنا أسبّح بالذي خلق الإنسان من عدم فجعله سميعًا بصيرًا.. أتذكر حين ولدتها كيف كان منتهى آمالي أن تصوّب إلي فقط نظرةً ذات معنى.. أن تلتفت إليّ إذا ناديتها ؛ كانت مجرد قطعة لحم، تأكل وتصيح وتنام، ثم ها هي تكبر مرة بعد مرة وفي كل مرة يزيد فيها شيء.. يتحسّن سمعها ويتطوّر نظرها وتتصلب عظامها فأردد دائمًا الآية الكريمة: "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة"، أتأمل جرمها الصغير ولطافة كل شيء فيها ورقّته.. حتى قلبها لم أرَ أرقّ منه! يرفّ لكل شيء خوفًا ويرهف لكل شيء دهشة واستغرابًا؛ إخالها لو أُوتيت القدرة على الكلام والبيان وهي في سنها هذا لأصبحت شاعرة تلتقط دقائق الخطرات وتتتبع أصاغر الدهشات!.. تذيبني تلك اللطافة التي تخفّ عن الغلاظة والثقل، وذلك الطهر الذي لا يخالطه كدر، وأتمنى أحيانًا لو بقيت هكذا ولا تكبر!.. ستكبر.. نعم، وستتفتح أزهارها دومًا أمام عيني وسيعبق شذاها في البيت رقةً وصبا ومرحًا وشقاوة، ستسبيني في كل مرة، ولكني أشعر بالقلق حين أفكر بالحياة الطويلة التي ستستقبلها وما سوف تكابده من أقدار ومخاوف وآلام؛ لأن درب الشقاء في الحياة يجانب دومًا درب النعيم، وأغصان الشجرة الوارفة وورقها الناعم وثمرها الغض يسبقها جذعها الخشن الذي يدمي اليدين والقدمين التي تتسلقه وتروم جناه! ستكبر وستزداد آلامها ومخاوفها.. ستعرف أن للخوف صورًا أعمق وأرسخ من رمشة عين وهزة قلب وسيتكثف هذا اللطف وستتسنّى هذه الطهارة، وكأن الكدر هو شرط الحياة والعمر المتطاول! ولكن ماذا عليها لو كبرت وتمدد جلدها وامتشق عظمها ولكن روحها تبقى غضّة بارقة البراءة ؟! ما الروح لولا طفولة القلب؟ ولماذا نصرّ على استبقاء الأحزان في أعماقنا زاعمين أننا نتقوى بذلك لننال فضيلة الصبر؟ لماذا لا نصبح كالأطفال.. دموع الليل يجفّفها ضياء الشمس ، وأحقاد خصوماتنا يغسلها اللعب والحلوى .. لماذا لا نمرّ على الآلام لمامًا ونعطيها منّا حظ لحظتها فقط ثم بعد ذلك نغشّيها ظلام التسلّي والنسيان؟! فأن تكون طفلًا هو طريق السعادة المختصر ! تخلع جسدك جانبًا وتعرّي أعماقك.. وتطلق روحك صاخبةً تضحك، وقاصية الخيال تحلم، وصريحة الحزن تبكي.. أن تنهمر مشاعرك مصوّبة كالسيل فلا تلتفت لأحد عن يمينك أو يسارك إلا أن يكون معك أمامك أو خلفك! لستَ أنانيّ الشعور ولكنك صادق التعبير، لست منطويًا لا تبالي بأحد ولكنك تزخر بنفسك وتملأ حظّها نصيبًا موفورًا.. صراحة الطفل تخجلنا حينًا بل وتجعلنا ننفر منه حينًا، وفي مقابل هذه الصراحة والوضوح تكمن في الطفل غفلة وبراءة هي سرّ لطفه وحسنه لذلك نحن نحبهم وتخلب قلوبنا أحاديثهم وأفعالهم.. هل رأيتَ أننا نهوى في الأطفال ما نفقده؟ فنحب صراحتهم وتبدّيهم لأن عواطفنا مشوبةٌ معكّرة يتناوبها رأينا فيها حينًا ورأي الناس عنها حينًا آخر، ونحب غفلتهم لأننا نتحسس الحياة ونتقصّاها حتى لكأننا نريد أن نقشع الغيوب ونحيط بالأحداث خُبرًا.. لا أقول أن نكون إما هذا وإما ذاك ولكن لماذا لا نقدر المعاناة تقديرًا صائبًا لا تضخمه الأوهام ولا يقزّمه الحمق فنأخذ من الغفلة أو الصراحة بحسب ما يناسب المقدار؟! اثنان هما حياة العواطف وغضارتها: طفولة القلب، والخيال والجمال! وبحياة العواطف يحيى الأدب ويخضلّ الفكر ويعشوشب كل قفار؛ لا أنسى ولن أنسَ زمانًا كنت خالية البال من الشؤون والمسؤوليات.. ليس لي من الاشتغال إلا ما بين يدي من كتاب أو قلم، أو معرفة وهواية وفنّ! فلا أجاوزه إلا لخيال مجنح أو جمال حالم يتراءى في العالم من حولي ، فكان الخيال يمدّد آفاق قراءاتي وأدبي وعالمي من سعته، والجمال يرطّبها من رقّته وروعته! زمانًا كان الشعور فيه شمسًا تذُرّ الأرض والتِلال وتحرّك الأشباح والظلال، وتقتم القلب أو تُنيره، وتعشو البصيرة أو تهديها! وأنت في هذا كله طفلٌ سارحٌ بين روحك والحياة.. ينتهي يومك رغمًا عنك ويضطرك الليل إلى الذهاب إلى فراشك.. ترقد في فراشك فترمق الغد لا بعين الهواجس والتكاليف؛ بل بعين المباهج الموعودة.. مباهج الشمس والألعاب والحكايا والكتب، مباهجٌ مألوفة ويوميّة .. نعم! ولكنها موعودة منتظرة للقلب أبدًا! فكأنما هي الموعودات المبهمات اللائحات من سجف الغيب، لا المتكررّات الواضحات المشهودات! فهل نملك الجرأة أن نثور ونلقي الواقع والأعباء جانبًا.. أو هل نستطيع أن نصبح أطفالًا طوال الوقت ؟! لمَ لا نحاول!

السبت، 24 ديسمبر 2022

عامي التاسع والعشرون..

أُكملتُ بالأمس عامي التاسع والعشرين حسب التقويم الهجري، ورمية حجر تفصلني عن الثلاثين إن شاء الله.. هل أنا متهيبة لاقترابي من الثلاثين؟ الحقّ أني أشعر بمزيج رهبة وغرابة وبراءة.. رهبةٌ لأني سألج عَقدًا جديدًا يوصف أنه بداية الكهولة وأول الرشد والحكمة، فستُلزمك الأعراف والأوصاف أن تقضي على طيشك ونزقك رغمًا عنك وإن كان عقلك بحجم الحصاة وروحك متفجرة الغرارة! وغرابةٌ لأني أشعر أني غافلة عن قافلة العمر الضاربةِ في السنوات ذاهلةٌ عن أرقامها المتصاعدة! فماذا يعني أن أكبر؟ وماذا يعني أن أقترب من الثلاثين؟ ماذا يعني كل ذلك إن لم أكن أشعر به على الحقيقة! فليس في جسدي عضوٌ يحصي السنوات، وليس في روحي دقّات ساعة أسمع ضرباتها ولا أراها! كل ذلك لا أشعر به فكيف أؤمن به! لقد مرّ هذا العام سريعًا بطيئًا.. غريبًا واضحًا.. مضطربًا مستقرًا! شعرتُ به بمزيج تناقضات، بلهفةٍ ثم إنكار.. بدموعٍ حارّة ثم ببلادَةٍ قارَّة.. بتقدّم واطّراد، ثم بتأخرٍ وانفراط، ثم تتلاعب الأضداد وتتناغم حينًا، ويغلب بعضها الآخر حينًا وحينًا.. هذا العام قَدِم وأنا حبلى بطفلتي الأولى وانصرم وقد أنجبتها وأتمّت من العمر ٤ أشهر، لم يُكبّرني زمان الحَبَل كثيرًا، لقد أثقل بطني وجسدي ولكنه لم يثقل قلبي؛ ما زال قلبي خفيفًا يتأوه لأوهى حزن وألم ويطرب لأبسط حلم ونغم.. ولكني حين أنجبتها مرّت بقلبي أطوار.. بروجٌ وأغوار، كالجبل صلابة وشموخًا، وكالغبار هباءً واضطرابًا! أحيانًا أنسى أمومتي وأراني ما أزال تلك الفتاة اللاهية، وأحيانًا أشعر بأن "سناء" هي الحجر الذي أتمّ بنائي وأكمل نقص حياتي وأنا من دونها ثغرة تدخل منها الريح لقلبي وتعصف بمشاعري وخطراتي.. أحيانًا أشعر بأن بيني وبينها كل هذه السنوات التي تفصلني عنها، وأحيانًا أشعر أن ما بيني وبينها إلا أيام وشهور وأن قلبي يكاد يكون كقلبها طفولة وبراءة؛ فأنزل لها وألعب معها وأضاحكها كطفلٍ وطفل لا كأم ووليد! فما الضير أن نكون كالأطفال روحًا وإن كان العمر والجسد يجرفنا إلى غير مجرانا! لطالما شعرت بأني طفلة.. لا أجنح إلى الطفولة طيشًا وشقاوة، ولكن لأن "شبه الشيء منجذبٌ إليه"؛ فأهنأ وقتي وأنداه حين يتوافق قلبي مع براءتي.. فمن أنا؟ تلك الأم الواعية، والمرأة الحكيمة؟ أم الفتاة الغافلة، والطفلة الحالمة؟ وهل أنا الأمل الكاذب أم اليأس المهلك أم الواقع المتوازن؟ الصاخبة لهوًا أم الساكنة تأملًا ؟ أنا مزيج من هذا كله.. أتغيّر وأتبدّل أحيانًا في أيام بل ساعات بل في لحظات ! وإني لأكبُر بما أشعر في روحي من علوٍ أو في عقلي من نضج، وإني لا أبالي بعمري إلا من زمانٍ آنَسني أو زادَ في رَشَدي.. لا من رقم وتاريخ لا يصلني به إلا إرادة الله أن أولدَ فيه.. وإني لأكبر أحيانًا وأصغر أحيانًا، وأسأل الله أن يجعل ختامي على ما يرضاه؛ فذلك منتهى الرشد وتمام الحكمة..

السبت، 15 أكتوبر 2022

الأمومة.. المبتدى

 كغريقٍ يصارع الأمواه والظلمات واليأس، قد أحاط به الموت من كل مكان ثم يُلقى إليه لوح النجاة فيستمسك به بكل ما أوتي من قوة.. يرى فيه الحياة ولمّا يخلص من الموت والخطر بعد؛ فما الذي فعله به لوحٌ صغير وموجةٌ واحدة من أمواج البحر هي أكبر منه وأعظم وما الذي أعطاه له من حياة وأمل؟ فانظر إلى رحمة الله كيف جعل لبعض الصغائر قوة قادرة على تفتيت أعصى الأهوال والكبائر! لقد كنتُ أنا كهذا الغريق، وكان البحر هو آلام المخاض والوضع الشداد، وكانت طفلتي "سناء" هي الخشبة التي لمّا لاحت لي تبدّت لي الحياة.. قاهرةً بسناها القوي الشفيف كل ظلمات الألم! لا أنسى ولن أنسى.. والتقريب والتشبيه هو أجدى ما تفعله الكلمات هنا؛ تلك اللحظة التي رفعوها أمام عيني حين أخرجوها من بطني وأنا وسط أرطال من الصراخ والألم، وحين رأيتها خمدت فجأة ثائرة توجعي وانهالت الدموع من عيني صارخة : الحمدلله الحمدلله الحمدلله! تلك كانت قرة عيني الأولى بها..! أسأل الله أن يتبع القرة بالقرة ممتدة إلى بعد موتي برًا ودعاءً.



يحدثوننا دائمًا عن وهن الحمل، وآلام المخاض والوِلاد، ولا يحدثوننا عمّا بعد ذلك.. يصورون لنا الأمومة زهرًا يفيض رقة وندى، ولا يخبروننا بما قبل النعومة من تعاهد وسقاية ورعاية، لا يحدثوننا عن أنها تحتاج جبالًا من الصبر حتى تثبت ثباتًا ما فيه اهتزازٌ اللهمّ إلا هزّ اليدين للمهد! وأن الشدة ستصدمكِ فيها منذ أول يوم مهشمةً نظارة أمومتك الوردية.. نعم؛ ستَشْرَقين بالصبر أيامًا، ستقبضين عليه كما تقبضين على الجمرة ليس لها إلا يدكِ لتطفئها! لا ماء المحبة ولا رمال الضعف! الحب والعطف والرحمة شعارُ الأمومة، والصبر دِثارُها! انتهى مخاضكِ الجسدي، وسيبتدرك بعدها مخاضك المعنوي الذي تولَدين فيه وتلدين في كل مرة، ومن ثَمّ.. فقُبلةٌ أو ضمّة أو شمّة لطفلك قادرة على اختراق كل لحظات التعب والسهر والوصب! ومن رحمة الله أن جعل الصبر والحب شقّي الأمومة؛ يحمل هذا ذاك وذاك يحمل هذا، ويستقيم هذا بذاك، فلا يميع الضعف، ولا تخشوشن الصلابة، ومن ثم ؛ ليست الفضيلة أن تُجرح فتُشفى، بل أن تُجرح فلا تتألم، وترى الدم فلا تنقبض! ثم تزهر بعدها أشواك الصبر، وتتفجر ينابيع الأمومة في أعماقكِ عطاءً ومحبة.. ستصبح شؤونها طوع يدك بعد أن كنتِ أنتِ طوع يدها.. ستكتشفين الأم التي ركّبها الله في فطرتك، وسيتبدّى صغيرك كأغنية أنتِ من يغنيها، وكضحكة أنتِ ثغرها، وكحبٍ أنتِ قصته، وعطفٍ أنتِ رقّته وعذوبته.. كل إناث الأرض مهما اختلفت طباعهن وشخوصهن أمهات بالفطرة؛ سواء منهنّ من أوتيت حظًا وافرًا من الشفقة والحنان أو من قَسَت طباعها ظاهرًا ولكن في داخلها قدْرًا من الأمومة تستطيع أن ترعى به صغارها وإن لم يقنع بهذا القدْر المغالون والمقدّسون للأمومة أو لاكتها بسببه ألسنةُ الناس! نعم.. انظروا حولكم مغمضين أعينكم عن الصورة الوردية المقدسة للأم التي تصورها كقديسة هبطت من السماء قد ظللت صغارها بجناحي النورانية والعطف والإشفاق الغامر.. انظروا إلى شتى أمهات الأرض ممن حولكم وممن سمعتم عنهن وقرأتم في الماضي والحاضر، في صنوف الأقطار والبلدان وألوان الشعوب والبشر، بل حتى في ممالك الحيوان! ستجدون الأم/ الأنثى مهما ظُنّ أنها أرْخَت يدها عن صغارها وابتعدت عنهم أو تركتهم يبتعدون عنها لا بد أن تقبض يدها عليهم في لحظة أو يوم أو زمنٍ ما! إنها "الرحمة"! وهي القدر الضئيل من الأمومة الموجودة في كل أنثى.. وقد خُلقت معها وخُلقت فيها؛ إنها مقتطعة ومنتسبة إلى "الرحم" الذي هيأه الله للولد في جسمها، ثم لما انفصل عنها ولدها لم تنفصل هي عنه فألحقت به رحمتها فكأنه رحمها الذي يمشي على الأرض وبه ترعى وليدها.. يختلف الناس، ويختلف الأطفال، وتختلف الأمهات كذلك! وكل أم مهما وُجّه لها من النصح واللوم ستبقى في داخلها بوصلة بها تشق رحلتها مع أطفالها؛ ألا وهي: غريزة الأمومة.. ذلك الخيط الذي يصلها بابنها، ويصلهما جميعًا إلى اختيار مسدد خاصٍ بهما وإن تعدّدت الاختيارات والنظريات، وإن اجتهدت وأخطأت فخطؤها مغفور! 
إنّ رسْم صورة واحدة مقدّسة للأمومة ومحاولة تنميط الأمهات عليها يزيد من ثقل المسؤولية على الأم وتأنيبها لضميرها، لأنها ستظل دائمًا تحاكم نفسها إلى تلك الصورة وتقيسها عليها ولا تجد من يطمئنها على أمومتها التي لا ريب أنها موجودة فيها! ولولا اختلاف الأمهات لما اختلف الناس في طبائعهم وأحوالهم.. ثم أين أصحاب الصورة الوردية تلك من الأمهات اللاتي ينذُرْن أبناءهنّ للجهاد أو للعلم مثلًا في أماكن قاصية محتملات ألم فقدهم وابتعادهم عنهن؟ أينهم من والدة مريم عليها السلام حين نذرت الجنين الذي في بطنها للعبادة؟ وأينهم من الصحابيات اللاتي يموت عنهن أزواجهن أو يطلقونهن فيتزوجن بعدهن رغم صغر أعمار أبنائهن؟ أينهن عن أسماء بنت عميس مثلًا؟ أينهن عن سبيعة الأسلمية التي حين مات عنها زوجها وهي حامل تزينت للخطاب بعد خروجها من نفاسها مباشرة ولم يقل لها أحد وليدك أجدر بك من زوج وغيره أو يتهمها في أمومتها وينبزها بعدم التضحية! لم يلم أحد أولئك الصحابيات؛ فلم يفعلن إلا شيئًا قد أباحه الله لهنّ ومارسْنَ حقوق أنفسهن بالزواج رغم وجود أولاد صغار تحت أيديهن! لا تعارض بين أن تمارس الأم حقًا شرعيًا أباحه لها في الزواج أو طلب علم أو ترويح أو غيره ما لم تضيّع أولادها أو تفرّط في حقهم! ثم أين هؤلاء وأين أصحاب الدعاية الإعلامية بتشجيع الرضاعة الطبيعية عن تلك العادة العربية التي اشتُهرت في قريش بإرسال أطفالهم بعد ولادتهم إلى قبائل البادية لتقوم نساؤها بإرضاعهم، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- خير مثال؛ حين أرسلته والدته مع حليمة السعدية في تلك القصة المعروفة.. ولم تلطم أولئك النسوة القرشيات والعربيات خدودهن وتشققن ثيابهن عويلًا على أبنائهن وجزعًا على فقدهم وابتعادهم عنهن! فماذا يقول أصحاب تلك الدعاية عن هذه العادة؟ هل سيشكّكون في أمومة هؤلاء النسوة ؟ وأين ادعاءاتهم بتقوية الرضاعة الطبيعية للعلاقة بين الأم ووليدها منها؟! إن اللوم الموجّه للأمهات "المقصّرات" الآن ينبغي أن يوجّه لمن أظهرهن بتلك الصورة وحمّلهُنّ قدرًا زائدًا عن أمومتهنّ من معتقدات أو عادات أو أعراف، أو حتى ظروف اجتماعية واقتصادية أدّت إلى عدم وجود معين أو مساعد لها في تربيتها ورعايتها لأطفالها وبيتها، فغدت الأم في نهاية الأمر كالغصن الذي يُحرق ليستضيء ويستدفئ من ناره الآخرون.. لا كالغصن الذي يورق ويثمر ليستظل ويأكل منه الآخرون! فهل يستويان مثلًا!