نورة المحسن
"مُختلفًـا ألوانُـه"
الأحد، 3 نوفمبر 2024
على بوابة الثلاثين..
السبت، 1 يونيو 2024
نعمة التكيّف
أكثر ما يخشى فقده الإنسان هو الإلف.. إلفُ الأشياء.. الأوقات.. الأمكنة..الأشخاص؛ الإلف هو جوهر الفقد وسبُبه! وبالنسبة لامرأةٍ منضبطة توّاقةٍ مثلي؛ كنتُ دومًا أخشى فقد الحياة التي تعوّدتها والرخاء الذي عايشته؛ وإن كان رخاءً نسبيًا أقتاته هُدنةً بين معارك المشاغل والالتزامات! كنتُ أخشى الأمور الحادثة التي تستولي على محبوباتي وأوقاتي المعتادة.. أخشى المشاعر الجديدة التي تربك سلام مشاعري القديمة، أخشى جرْس الخاطر المتوجّس الذي يزعج طمأنينة جوانحي.. أخشى أن أفشل في التوافق مع كل ذلك وأستمر في خوض معاركٍ معها أبد الدهر! لذلك أحمد الله أن زاد لي في نعمة الخيال واللهفة والتشوّف للمجهول ولم يجعلني واقعية أقيس المستقبل بقياسات الواقع فأقدّر الصعوبات بأوزانها الدقيقة وأشذّب من المباهج ما زاد منها وأخشى اللحظة التالية لأني أبصرت سوءً يطل برأسه منها! بل جعلني أخوض غمرة الجديد وأنا غير آبهةٍ بما تحته.. فإذا عايشته وعرفته قلقت مما كان فيه فأخوض حروبي معه أو أخضع له! هل هناك تضادٌ بين الأمرين؟ بين أن أخشى الجديد وأتلهّف له؟! لا .. فأنا أخشاه بعد وقوعه لا قبله!
كنتُ قبل الزواج قلقة بعض الشيء من هذه المرحلة الجديدة من حياتي، متخوفة من المسؤوليات والالتزامات والتقيّد بنفس السلسلة مع قيد شخصٍ آخر.. خائفةً أن تختنق رغباتي ومحبوباتي وأوقاتي الهانئة في زحام الحياة الجديدة .. فلما تزوجت لم يكن الأمر سهلًا كما توقعت، اعتركت وحاولت وجاهدت في سبيل التوفيق والتوافق.. ثم بفضل الله ثم بفضل تعاون الرفيق نجحت! لا لم تعُد حياتي كما كانت قبل الزواج؛ ولكنها أخذت طورًا جديدًا كبرتُ فيه أنا، ولكنها اختلفت و إن لم تكن تشابهت، ولكنها انتقلت وإن لم رجَعت! وكان هذا انتقالًا واختلافًا يسيرًا إلى ما سيكون! وذلك حين أصبحتُ أمًّا؛ هنا لم تنقلب أوقاتي فقط.. إنما انقلبت نفسي وروحي خلقًا وشيئًا آخر! لقد كانت الأمومة منذ اليوم الأول جوهرةً وهِبَةً فريدةً لا يشبهها شيء في بريقها وثمنها بالنسبة لي، ولكنها أُلقيت في صحراء مترامية من نفسي، ثائرةً رمالُها من كل جانب متوقّدةً شمسُها لا تعرف البرودة والسكينة.. صحراءَ لولا بريق الجوهرة ونفاستها لابتلعتها برمالها! لقد ظلّ الأمران فيّ يصطرعان عهدًا من الزمان.. بريق الجوهرة ووداعتها وسحرها.. واصطراع الرياح والرمال من حولها واتساع الغايات وبعدها، وقد ظللتُ أطلب الله غيثًا يخمد التراب ويُنبت اليباب ويزهر الأرض كل مشرقٍ خلّاب، ظللتُ أطلبه روحًا ونفسًا تشبه هذه الجوهرة.. تصبر عليها صبر الصائغ على جواهره يصوغ منها عقود الدرّ وخواتم الجُمان.. يتعلّم معها حرفةً ومهارات جديدة لا بأس.. وحياةً جديدة لا بأس! فما ملَك من لا بَذَل.. ولا أُعطيَ أحدٌ إلا والابتلاء في عطائه! وجاء الغيث على مكث متمهلًا، ولكنه يُغيّر ويصبغ الحياة لونًا جديدًا في كل مرة.. وصارت الجوهرة دائمًا نصب العينين حُبًا وحرصًا وخشيةً! لا يهمني الآن كم خسرتُ من ذاتي القديمة وأهدافي التي كانت قبل الأمومة.. بل يهمّني مقدار النجاح الذي أنجحه كل مرة في اختباراتها وأطوارها! الأمومة منهجٌ جديد .. امتحان مفصلي لا تشبه قياساته وأدواته ما سبق! ! وأن تؤخذ بأنها رباطٌ ومسؤولية، خيرٌ من أن تُرى بأنها مجرد مناغاةٍ وأُغنية.. والسعيدةُ من أُعطيت عزمًا لهذا وسَعَةً لذاك؛ فحازت الخيرين معًا!
ما أريد قوله لكل من هابَ أمرًا سيستقبله أو خشيَ شيئًا ظنّ أن نفسه لن تقدر عليه: أن الله الذي خلق الإنسان بهذه الخِلقة الفريدة روحًا وعقلًا وجسمًا وأعطاه كل هذه القدرات والمواهب قد أعطاه معها نعمةً عظيمة اسمها (التكيّف) فهو يتكيّف مع الظروف كلها خيرها وشرها عسرها ويسرها طال الزمان أو قصر -بإذن الله- .. ولا يخفى أن جزءً من صعوبة الأمور ليست في ذاتها، بل في استصعابنا نحن لها وعسر نفُوسنا وثِقَلها! فلنوطّن أنفسنا على الرحابة والسَعَة، ولننثر على أشواكنا زهور الفأل والأمل!
تتبدّل الحياة وتمضي.. ونتبدل نحن ونمضي معها.. كأن أيامنا الذاهبة عنا الخشب المتساقط من نحتِ النجّار للجذوع.. يحزنُ الجذوعَ تساقطُها واطّراحُها ولكنها تبينُ أخيرًا عن قطعة منحوتة مصقولة .. مختلفة عن سابقتها ولكنها أصبحت رائعة!
نحنّ لأيامنا القديمة نَعَم، ولكن ما نحن فيه خير.. وربما كان أبقى!
.....
هنا التدوينة منشورةً في موقع الألوكة:
الثلاثاء، 30 يناير 2024
قصة نضال الذاكرة
قليل في حقّك يا غزة.. قليل في حقك يا فلسطين .. قليل في حق كل مظلوم مستضعف! ولكن حسبي أن أعظم الجهاد كلمة؛ فلربّما ألهبت كلمةٌ.. وأخمدت كلمةٌ !ولكن حسبي وعذري أنها ما أستطيعه، ولوددتُ أني أطيق أكثر منه.. ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها !
الاثنين، 28 أغسطس 2023
سنة حلوة يا سنـاء
إلى نبضي الأول، إلى ابنتي، وصديقتي، وأمي الصغيرة: سنـاء .. في يوم ميلادها الثاني، في عامها الأول:
أنتِ التي أحييتِ الأم فيني، وبَذَرَت يداكِ الصغيرتان مشاعر شتّى ما كنتُ أحسب أن أرضي خصبةً لها، ولكنك كنتِ كمزارع صبور تتعاهدينها بالسقاية دائمًا حتى في اللحظات التي توشك فيها على الذبول! نلد الأبناء وهم يلدوننا.. نحنو عليهم ونعانقهم ونضمّهم عطفًا ومواساة ولكن أحضانهم الصغيرة تبادلنا كذلك من الشعور.. فلا ندري من فينا الأم ومن فينا الولَد!
صغيرتي سناء،
تمنّيتُ منذ اللحظة التي علمتُ فيها بحملي بك أن تكون بكري فتاة، أعوّض فيها فقدي للأخت؛ فتكون أختي وابنتي وصديقتي، فأكرمني الله بك وكنتِ أنتِ ! فيا لسعدي وفرحتي بك!
صغيرتي سناء،
للطفل الأول حُبٌ مختلف.. تحبينه قبل أن تُلقى نطفته في رحمك حتى! حين تعدكِ به الآمال ويشوّقك له نداء الفطرة والغريزة، فترسم لكِ وله صورة أمومية حالمة، تظل تهدهد القلب إلى أن يأتي! وتحبينه حين يتخلّق في بطنك، وهنا تفور حقًا تلك المشاعر الهادئة الخفيّة في تلك المرحلة الحالمة وتتكثّف وتتمايز ويصبح لها حسُّ واسمٌ ومسمى! فمرةً محبة، ومرة لهفة، ومرةً قلق، ومرة خوف، ومرةً أمل! وتحبّينه حين يولد، وهنا تتجسّم المشاعر وتشخص بوضوح أمام العينين، وتصبح حقائق صارخة بعد أن كانت سارية في الوهم والخاطر.. تصطدم بكِ عند انتصابها أمامك حينًا، وترشدك وتعدّل مسارات نفسك حينًا، وتبهجك بحضورها ورؤيتك لها حينًا؛ فمرةً صبرٌ وتجلّد، ومرةً نضجٌ وتبصّر، ومرةً إخفاق وخيبة، ومرةً انتظار وأمل، ومرة ضعف وجزع، ومرة رحمة، ومرة قلق، ومرة كَلَف، ومرةً حُب.. حبٌّ لا يشبهه أي حب آخر! لأنه خليط تلك المشاعر مجتمعة! فهل سمعتِ يا صغيرتي بحبٍّ كهذا؟! لا أظنه يوجد إلا في قلوب الأمهات! وحده قلب الأم تتقلّب فيه تلك المشاعر المتعاكسة، وفضاءُ المحبة والحنان هو وعاؤها جميعًا!
صغيرتي سناء،
أشعر بالبهجة والزهو حينما جعلتِني أنا من يصوغ لك مشاعرك تجاه هذا العالم؛ حين تنظرين مثلًا نحو طائر أو منظر غريب.. أو تسمعين صوتًا ما، فتنظرين إلي مباشرة لتَرَي ردّة فعلي، فأتعمّد ظهور ملامح الدهشة الفَرِحة في وجهي، فتسكُن صدرك تنهيدة اطمئنان متبوعة بدهشة مثل دهشتي على وجهك، فصرتُ كذلك أتعمّد حين أسمع صوتًا مخيفًا أن تسكُن ملامحي وإن كان القلق يهزّ داخلي لتظلّل الطمأنينة وجهكِ وقلبك على الدوام.. فأي فخرٍ وأي مسؤولية أعظم أن يكون وجهك بوابة عبور لشعور إنسان نحو هذا العالم؟! ثم إني والله أتجدّد بك وأكتشف العالم مرة أخرى بدهشاتك ونظراتك المبهورة.. فأيّنا يرى العالم بعيني الآخر.. أنا أم أنتِ ؟
صغيرتي سناء،
لقد أحببتك مرة ثانية حين أحبّك والديّ وأحبّاني فيكِ.. حين أضفتِ لفصولهما فصلًا آخر من فصول الشباب قد ظنّا أنه مات مع العمر وانطوى مع تقدّم السنّ، فكنتِ أنتِ إشراق مشاعر الأبوة فيهما الغاربة منذ دهر، وصوت الحنان والمناغاة الأنيس في أرض العمر الموحشة، وأخوالك الشباب.. ماذا فعلتِ بهم؟ كنتِ أنتِ تهاوُن هيباتهم، وعطف جذوعهم المنتصبة.. فيا لبركتك على الجميع!
ثم لتعلمي يا صغيرتي أن أمكِ مهما أحبتك فإنها تُطلقك، تُطلقك من مدى قلبها إلى آمادك وآماد الحياة الرحبة، تُطلقك ليرتخي قلبُها فلا يتهتّك بطول الشدّ والربط، تُطلقكِ لتكوني أنتِ وتكون هي! قد يسمّون هذا الإطلاق تقصيرًا أو لا مبالاة.. فليسمّونها ما شاؤوا.. سيشهد حبك لقلبي في ضربات الخوف والقلق وليالي المرض والسهر ودعوات السجود وإعداد طعام الهناء والعافية وحسن التعليم وصدق التربية.. وكل مفترقات المحبة والحرص؛ والله الوكيل نستعينه في كل أمر، وبه توفيقنا وعليه اعتمادنا، فمن وفّقه فهو الموفّق، ومن خذله فهو المخذول.. ولا حول ولا قوة إلا به..
أمك التي تحبك كثيرًا:
نورة
السبت، 4 فبراير 2023
إغراء الطفولة
السبت، 24 ديسمبر 2022
عامي التاسع والعشرون..
أُكملتُ بالأمس عامي التاسع والعشرين حسب التقويم الهجري، ورمية حجر تفصلني عن الثلاثين إن شاء الله.. هل أنا متهيبة لاقترابي من الثلاثين؟ الحقّ أني أشعر بمزيج رهبة وغرابة وبراءة.. رهبةٌ لأني سألج عَقدًا جديدًا يوصف أنه بداية الكهولة وأول الرشد والحكمة، فستُلزمك الأعراف والأوصاف أن تقضي على طيشك ونزقك رغمًا عنك وإن كان عقلك بحجم الحصاة وروحك متفجرة الغرارة! وغرابةٌ لأني أشعر أني غافلة عن قافلة العمر الضاربةِ في السنوات ذاهلةٌ عن أرقامها المتصاعدة! فماذا يعني أن أكبر؟ وماذا يعني أن أقترب من الثلاثين؟ ماذا يعني كل ذلك إن لم أكن أشعر به على الحقيقة! فليس في جسدي عضوٌ يحصي السنوات، وليس في روحي دقّات ساعة أسمع ضرباتها ولا أراها! كل ذلك لا أشعر به فكيف أؤمن به! لقد مرّ هذا العام سريعًا بطيئًا.. غريبًا واضحًا.. مضطربًا مستقرًا! شعرتُ به بمزيج تناقضات، بلهفةٍ ثم إنكار.. بدموعٍ حارّة ثم ببلادَةٍ قارَّة.. بتقدّم واطّراد، ثم بتأخرٍ وانفراط، ثم تتلاعب الأضداد وتتناغم حينًا، ويغلب بعضها الآخر حينًا وحينًا.. هذا العام قَدِم وأنا حبلى بطفلتي الأولى وانصرم وقد أنجبتها وأتمّت من العمر ٤ أشهر، لم يُكبّرني زمان الحَبَل كثيرًا، لقد أثقل بطني وجسدي ولكنه لم يثقل قلبي؛ ما زال قلبي خفيفًا يتأوه لأوهى حزن وألم ويطرب لأبسط حلم ونغم.. ولكني حين أنجبتها مرّت بقلبي أطوار.. بروجٌ وأغوار، كالجبل صلابة وشموخًا، وكالغبار هباءً واضطرابًا! أحيانًا أنسى أمومتي وأراني ما أزال تلك الفتاة اللاهية، وأحيانًا أشعر بأن "سناء" هي الحجر الذي أتمّ بنائي وأكمل نقص حياتي وأنا من دونها ثغرة تدخل منها الريح لقلبي وتعصف بمشاعري وخطراتي.. أحيانًا أشعر بأن بيني وبينها كل هذه السنوات التي تفصلني عنها، وأحيانًا أشعر أن ما بيني وبينها إلا أيام وشهور وأن قلبي يكاد يكون كقلبها طفولة وبراءة؛ فأنزل لها وألعب معها وأضاحكها كطفلٍ وطفل لا كأم ووليد! فما الضير أن نكون كالأطفال روحًا وإن كان العمر والجسد يجرفنا إلى غير مجرانا! لطالما شعرت بأني طفلة.. لا أجنح إلى الطفولة طيشًا وشقاوة، ولكن لأن "شبه الشيء منجذبٌ إليه"؛ فأهنأ وقتي وأنداه حين يتوافق قلبي مع براءتي.. فمن أنا؟ تلك الأم الواعية، والمرأة الحكيمة؟ أم الفتاة الغافلة، والطفلة الحالمة؟ وهل أنا الأمل الكاذب أم اليأس المهلك أم الواقع المتوازن؟ الصاخبة لهوًا أم الساكنة تأملًا ؟ أنا مزيج من هذا كله.. أتغيّر وأتبدّل أحيانًا في أيام بل ساعات بل في لحظات ! وإني لأكبُر بما أشعر في روحي من علوٍ أو في عقلي من نضج، وإني لا أبالي بعمري إلا من زمانٍ آنَسني أو زادَ في رَشَدي.. لا من رقم وتاريخ لا يصلني به إلا إرادة الله أن أولدَ فيه.. وإني لأكبر أحيانًا وأصغر أحيانًا، وأسأل الله أن يجعل ختامي على ما يرضاه؛ فذلك منتهى الرشد وتمام الحكمة..
السبت، 15 أكتوبر 2022
الأمومة.. المبتدى
كغريقٍ يصارع الأمواه والظلمات واليأس، قد أحاط به الموت من كل مكان ثم يُلقى إليه لوح النجاة فيستمسك به بكل ما أوتي من قوة.. يرى فيه الحياة ولمّا يخلص من الموت والخطر بعد؛ فما الذي فعله به لوحٌ صغير وموجةٌ واحدة من أمواج البحر هي أكبر منه وأعظم وما الذي أعطاه له من حياة وأمل؟ فانظر إلى رحمة الله كيف جعل لبعض الصغائر قوة قادرة على تفتيت أعصى الأهوال والكبائر! لقد كنتُ أنا كهذا الغريق، وكان البحر هو آلام المخاض والوضع الشداد، وكانت طفلتي "سناء" هي الخشبة التي لمّا لاحت لي تبدّت لي الحياة.. قاهرةً بسناها القوي الشفيف كل ظلمات الألم! لا أنسى ولن أنسى.. والتقريب والتشبيه هو أجدى ما تفعله الكلمات هنا؛ تلك اللحظة التي رفعوها أمام عيني حين أخرجوها من بطني وأنا وسط أرطال من الصراخ والألم، وحين رأيتها خمدت فجأة ثائرة توجعي وانهالت الدموع من عيني صارخة : الحمدلله الحمدلله الحمدلله! تلك كانت قرة عيني الأولى بها..! أسأل الله أن يتبع القرة بالقرة ممتدة إلى بعد موتي برًا ودعاءً.