الأربعاء، 26 يوليو 2017

المُتع الفورية وطاقتنا الفكرية!



الأمثلة على قضاء الأوقات الطِوال في القراءة وبين الكتب كثيرة جدًا، والطاقة القرائية الطويلة لكثير من القرّاء العِظام مبهرةٌ حقًا .. مثلًا؛ يقول الشيخ علي الطنطاوي أنه يقضي ١٠ ساعات يوميًا في القراءة! وكانت حياة العقّاد كلها محصورةً في المكتبة لدرجة أنه لفرط انشغاله بالقراءة والتأليف لم يتزوج!! في المقابل قضى الشيخ عبدالحي الحسني مؤلف كتاب "نزهة الخاطر" ذو الثمانية أجزاء والذي يضم تراجم لأكثر من ٤٥٠٠ شخصية من عظماء الهند أكثر من ٣٠ سنة في تأليفه! ويشبهه عبدالوهاب المسيري رحمه الله أثناء تأليفه لـ"موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية" المكونة من ٨ أجزاء؛ وكان يقضي في كتابتها ١٥ ساعة يوميًا ولا يتوقف إلا لتناول وجبات الطعام أو النوم في مجهودٍ استمر قرابة الثلاثين عامًا! والكتابة عملية لا تقل شأنًا عن القراءة، بل قد تكون أصعب منها، فبالإضافة لعمليات التفكير المختلفة التي يقوم بها الدماغ أثناء القراءة والتي تشترك معها الكتابة فيها، هناك أيضًا عملية إضافية تقوم بها الكتابة وهي ترجمة الأفكار على هيئة رموز أو كلمات واضحة ومتسلسلة يستطيع الطرف المستقبِل فهمها..

الأمثلة على هؤلاء الكتّاب والمؤلفين الذين صرفوا وقتًا وجهدًا عظيمًا في إنتاجهم كثيرة، وتجعل المرء حقًا يقف لهم إكبارًا وإجلالًا!
هذه الأمثلة جعلتني أتساءل : ما الذي يمنع الكثير منا على مثل جلَدهم ومثابرتهم وقوة احتمالهم؟ ما الذي ينقصنا عنهم ؟ كثرة الأعمال ؟ كِبر السن ؟ قلة الصحة أو المرض ؟ يخبرنا العقّاد أنه لم يتغير من طاقته القرائية في حال كِبره إلا ما يتعلق بقوة النظر على طول القراءة، إذ لم يعد بإمكانه المواصلة في القراءة أكثر من ساعة دون أن يستريح هنيهة ثم يعود إليها..ونحن بحمدلله -أعني الشباب خاصة- نعيش في وفرة من القوة والصحة والأوقات !!

الحقيقة أن الموانع والأسباب كثيرة لكن من أهمها في وجهة نظري أننا نعيش في عصر المتعة.."المتعة الفورية" بالذات! فالأشياء التي لا تجعلنا نشعر بالمتعة، الآن وليس لاحقًا؛ نركلها جانبًا ونبحث عن أشياءٍ أمتع منها حتى تطبّعت عقولنا علهى هذا وأصبح الأمر عادةً عقلية راسخة يصعب التخلص منها.. أصبحنا نفضّل دائمًا مشاهدة الأفلام على قراءة الكتب التي بُنيت قصتها عليها، لأن الفيلم بطبيعة الحال يختصر عليك وقتًا وجهدًا، بالإضافة إلى مُتعه السمعية والبصرية. وأصبح بعضنا يُفضّل البرامج الوثائقية ويجعلها مصدره الأساسي للثقافة والمعرفة مهملًا القراءة والكتب، لأنه بالإضافة للفوائد التي يعطيها البرنامج الوثائقي؛ فهي تُغذى وتُغلّف بالمتع السمعية والبصرية، وهو أمرٌ أمتع وألذ من قراءةٍ تتم في جوٍّ صامتٍ وممل. أيضًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتواجد القرّاء والمثقفين والعلماء والمهتمين فيها، ونشرهم للعلم والمعرفة عبر التغريدات والاقتباسات والفيديوهات القصيرة؛ صار البعض للأسف يتعوّد على التثقّف من هذه المصادر القصيرة ويتعوّد معه عقله اللاواعي عليها، فيصبح بمرور الوقت لا يقرأ ولا يستمع إلا الشيء السهل السريع، فإذا رأى مقالًا أو مقطعًا طويلًا تجاهله ومضى يبحث عن شيء "أخف" منه، وبناءً على هذا أصبح الكثير من مشاهير السنابشات وتويتر وغيرها لا يُقدّمون إلا المعلومة السهلة القصيرة لأنها تفضيل الجمهور ورغبته أولًا وآخرًا.. 

نتيجةً لهذا؛ أصبحت عقولنا ترفض أدنى اجتهادٍ فكري يجعلها تكابد وتعاني، وتصرّ على المتعة..أو المعلومات والأفكار السهلة التي تُستوعب بسرعة ولا تحتاج إلى تفكير كبير أو مشقة،لأن المتعة عوّدتها على السكون والراحة! عفوًا .. فقد يعترض البعض هنا؛ فما المشكلة لو كانت عقولنا تحيا في سكونٍ وراحة ؟ لماذا نختار العسر على اليسر والشقاء على النعيم ؟ لماذا هذا التشديد ؟!
ليس كل ما يلمع ذهبًا.. السكون والراحة يؤديان إلى البلادة والغباء وتضاؤل الفهم أو توقفه عند درجة معينة في أحسن الأحوال، فإذا كان الأمر كذلك، فمتى ستتحسن عقولنا وتتطور مهارات تفكيرنا ؟!!
إذا كنا نفضّل المتعة..السهولة..السرعة على الفائدة الحقيقية والتفكّر العميق والتوظيف الفكري الصحيح للمعلومة والرسوخ القوي لها.. فكيف ستتقدم عقولنا عندها؟!!
فكما أن عقبات الحياة وآلامها هي من تنضجنا وتجعلنا أكبر؛ كذلك الصعوبات والتحديات الفكرية التي تواجهها عقولنا هي من تجعلها أذكى وأفضل..
ليس كل القرّاء متساوون، يتفاضل الناس وتتفاوت هممهم أيضًا في المعرفة، وذو الهمة العالية سيطلب المعرفة الرصينة من مصادرها الرصينة العميقة ولن يبالي بما سيصرفه من وقت أو جهد أو فِكر..
أذكر أني قرأت أن أحد الأدباء الكبار-نسيت اسمه- كان يقول لتلاميذه أن الكتاب الذي لا تشعرون بالاستمتاع في قراءته لا تكملوا قراءته! ومع تقديري للأديب الكبير ولكني أخالفه في رأيه هذا، إذ لو كانت كل الكتب تُقرأ بدافع الاستمتاع فقط-والاستمتاع الفوري خاصة كما أشار هولَبقيت ربما نصف الكتب في العالم بلا قراءة أو قرّاء!
وما جعل الله سبحانه طلبَ العلم من الأسباب الموصلة للجنة إلا لأنه كغيره من العبادات يحتاج إلى صبرٍ وجهد. وفي بداية طريقك سيكون الأمر صعبًا ومملًا، وشيئًا فشيئًا بإذن الله ستعتاد على الأمر ويسهل عليك بإذن الله.. 

قد يأخذ البعض على حديثي تقليلي من أهمية الأفلام والبرامج الوثائقية خصوصًا وأنها بديل ناجح ومفيد لمن لا يحب القراءة والكتب، وأنا لا أقصد هؤلاء الناس بل إني أشجعهم على ذلك وآمل أن يكون هذا الأمر بابًا لدخولهم عالم القراءة قريبًا إن شاء الله.. بل أقصد أولئك الذين شقّوا أو الذين يريدون أن يشقّوا غمار القراءة والمعرفة الجادّة، ثم انساقوا بشعورٍ أو بلا شعور وراء موجة المتعة الفورية التي تقبض مرةً وراء مرة من صبرهم المعرفي واجتهادهم العقلي .. ومن يعرفني يعرف أني محبةٌ للبرامج الوثائقية ومتيمةٌ بها وكثيرًا ما أود المشاركة في إعدادها وكتابتها، وأحب الأفلام كذلك وتبهرني لغة الصور والموسيقى..لكني دائمًا ما أحاول أن لا تأخذني كثيرًا عن الكتب لئلّا أفقد لياقتي القرائية، وكثيرًا ما كان يصعب علي التخلّص من سحرها وفتنتها! وبغض النظر عن أن الكتب أيضًا منها الجيد والرديء، لا زلت أرى أن الكتاب هو المصدر الأساسي والأفضل للمعرفة العميقة الجادّة.. وهناك عدد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين عرفوا خطر الإنترنت وغيره على القراءة والكتب، فيقول امبرتو إيكو مثلًا عن ما يتضمنه الإنترنت من التدفق الهائل والسريع للمعلومات وسهولة الوصول إليها :
"الإنترنت تحولنا أغبياء لهذا السبب!"
ولفهم ما قصده إيكو أكثر هناك دراسة أمريكية مُلفتة حول ما اصطلح تسميته بـ"تأثير جوجل" تستحق القراءة.
ويقول تشومسكي

"في تويتر هناك عملية لتحويل الأفكار إلى شيءٍ تافه!"

في إشارة منه إلى اختصار بعض الأفكار الكبيرة والعميقة في تغريدات قصيرة مما يؤدي إلى تسطيحها.

ويقول إريك شميت رئيس شركة جوجل سابقًا:

"أشعر بالقلق من مستوى المقاطعة؛ أي ذلك النوع من السرعة الساحقة للمعلومات، إنه يؤثر في الواقع على الإدراك؛ فهو يؤثر في التفكير العميق، وما زلت أعتقد أن الجلوس وقراءة كتاب هو أفضل وسيلة لتعلم شيء ما في الواقع".

ختامًا أقول:

لست هنا لأعطي النصائح بقدر ما أتساءل وأتفكّر بصوتٍ مسموع، لأني أنا أيضًا أعاني من هذا الأمر ويستفزّني جدًا، لكني أحاول وأصيب وأخطئ وأرجو من الله أن يثبّتني في حال الإصابة ويهديني في حال الخطأ ويجعلني أسعى وراء الفائدة أيًا كانت وفي أي شكلٍ كانت حتى لو كان هذا السعي مكروهًا إلى نفسي وأن يحبّبه إليها..
"وانصَب..فإن لذيذ العيشِ في النصبِ"
 قد يكون نَصَبًا.. نعم، ولكنه نصبٌ لذيذٌ محببٌ للنفس ()

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق