ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد هذه النهايات المتوالدة والبدايات المتجددة؟ أين أم البدايات؟ وأين أم النهايات ؟ لقد تناسلن أشباهًا كثيرة تركتك يا ابنَ الطريق تسعى ولا تصل، وتضلّ ولا تهتدي، وتلوّح ولا تعانق! سفرٌ بلا وطنٍ تبدأ منه، ووجهةٌ لا تأوي إليها.. هل تستدبر من غايتك أكثر مما تستقبل؟ أم أن الطريق لم يزل بعدُ طويلًا والإبل حسيرة والزاد شحيح؟ .. لا منارةَ في الأفق ولا بصيصَ شمس.. ولا قمرًا يكتمل ولا نجمًا يدنو ولا حتى نارًا على علم أو ريحَ غضا .. لو تتواضع المسافات وتُطوى الأرضُ للساري؟
لماذا يظهر الحلم لنا أوّل مرة كفتاةٍ نورانيّة ملائكية الملامح.. تسطع فيك كنجمة أنزلتها كفّ السماء إليك، تنظر إليك بسكون جاذب وبراءة آسرة تغريك بالاقتراب منها، وما إن تقترب منها حتى تشيح عنك وتمضي.. وأنت تتبعها! يدلّك عليها إن ضاعت ذلك النور السني المشعّ منها كفراشة مضيئة.. وفجأةً تقف تلك الفتاة عند مدخل كهف.. الخارج منه مولود والداخل فيه مفقود..والمفقود موجود لم تضمه بعدُ اللحود، ولكن من يجد ذلك المفقود إن كان كهفه مستخفٍ في نفسه وخريطته مطمورة في دهاليز عقله؟ لا ليس الحلم خيالًا يغري فقط، ولا قبيلًا من اللغو واللَّغَط، بل صعودٌ وحطّ، وبُعدٌ وشَطّ، قد تتعب فيه ثم ترتاح.. وقد تتعب ولا ترتاح؛ أجل..كثيرون قضوا ولم يبلغوا مآربهم وغاياتهم! وهناك على السفح لا تزالُ آثارهم وقد بُنيت بجانبها أضرحةٌ لهم، فاقرأ عليهم وعلى آمالهم السلام؛ فهؤلاء شهداء الأحلام وحكاياها الحزينة..
ثم إن طريقًا كهذا محفوفًا بالمخاطر غير مأمون المصائر وصل فيه من وصل وضاع من ضاع وقضى من قضى ليُمطر عليك أسئلةً مرةً تلو مرة: هل تناضل؟ هل تخاطر؟ هل ستصل؟ هل أنت واثقٌ من نفسك لهذه الدرجة؟!
ولكني لا أعثر على جوابٍ لهذه الأسئلة.. بل أعثر على سؤال! فأقول لنفسي: أبَعد أن قطعت في هذا السبيل ما قطعت وكابدت ما كابدت أنكص وأتراجع؟ ويلُ عقلي ورأيي!! بل ويل حياتي!! لا أفهم كيف ينسحب المرء من أحلامه بهدوء فجأة دون أن يلاحقه الندم أو تصالحه الحياة من جديد وهو الذي أعطى منها الكثير لأحلامه !! يهزّني هذا السؤال حقيقةً وترعبني ملاماته واحتمالات وقوعه !! وهو على الرغم من كونه سؤالًا إلا أن له قَطعًا وزجرًا يشبه الجواب وصراحته! وهو من نِعم الله على الطامحين وعلى الناس.. إذ أن الله يُثبّت أقدامهم على طريق الحلم بعد أن زلّت وخاضت مرارًا حتى لا يدع لهم فرصةً للتفكير بالرجوع أو التخلّي.. فيكون ما واجهوه رادعًا لما يواجهونه، ولله الحكمة البالغة والأقدار الصائبة..
وبعدُ أيها الطريق.. يا إغواءً عتيق..ومخاضة الأقدام ومُشتت الصديق عن الصديق: رُدَّ عليّ أمان قلبي وروحي.. ردّه عليّ جزاءً وشكرًا؛ فَلَكم خطوتُ فيك والخوف يُحيطني دون أمان يشُدُّني أو اطمئنان يعزّيني وما أنقص ذلك من سعيي فيك شيئًا..فرُدّه عليّ، وامنُن للحائر الغريق.. أيها الطريق!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق